ثمة مفهومان آخران يلازمان ما ورد فى عنوان هذا المقال وهما الديمقراطية والكوكبية. لفظ الديمقراطية مشتق من اللفظ اليونانى democratia. وكان هذا اللفظ يعنى عند أفلاطون حكومة الفوضى وصراع الطبقات. وأظن أن الذى دفع افلاطون إلى كراهيته للديمقراطية حادثان مأساويان: الحادث الأول هو إعدام سقراط بدعوى أنه ينكر الآلهة ويفسد عقول الشباب. والحادث الثانى هو هزيمة أثينا فى حربها ضد اسبرطة فغادر أثينا ولم يعد إليها إلا بعد إحدى عشرة سنة. ولكنه لم يقم بتدريس الفلسفة فى الأسواق كما كان يفعل سقراط ولكن فى الأكاديمية التى بناها لكى يعزل الفلسفة عن الجماهير. وسواء كانت الفلسفة فى الأسواق أو فى الأكاديمية فإنها تعنى فى الحالتين أنها حالة عقلية وليست حالة سياسية، وقد تكون هذه الحالة منفتحة أو منغلقة. وقد كانت منغلقة منذ أفلاطون ولمدة ألفى عام. وكان النظام الملكى المطلق هو المعبر عن هذه الحالة العقلية المنغلقة. وعندما قامت الثورة الفرنسية للقضاء على ذلك النظام الملكى المغلق كان المدافع عنه هو الفيلسوف الايرلندى إدموند بيرك. كان بيرك ضد حقوق الانسان لأن هذه الحقوق من شأنها دفع الجماهير إلى المطالبة بالاستيلاء على السلطة. وبيرك لا يثق فى حِكمة الجماهير، ويرى أن المساواة فى الديمقراطية ضد الطبيعة. ومن هنا قال عنها أولاً إنها «قانون العدد» وهو قانون ضد الطبيعة، وقال عن غالبية الجماهير إنه ليس لديها مفهوم واضح عن مصالحها. ومن هنا ثانياً حارب القول بأن العقل صفحة بيضاء من أجل التحرر من التراث. ومن هنا قال ثالثاً عن العقل إنه جملة انحيازات. والسؤال اذن: ما هى خصائص الثورة المضادة؟ إنها ضد التنوير، أى ضد سلطان العقل. وفى السبعينيات من القرن الماضى أصبح بيرك الأب الروحى للأصولية المسيحية التى أسسها القس جيرى فلول فى عام 1979 من أجل «توجيه المدافع اللاهوتية ضد الليبرالية والنزعة الانسانية والعلمانية». والأصولية الاسلامية مماثلة للأصولية المسيحية وتمثلها الجماعات الاسلامية بزعامة المودودى (باكستان) وسيد قطب (مصر) وخومينى (ايران). وكان يرى هؤلاء الثلاثة أن كلاَ من الغرب الرأسمالى والشرق الشيوعى يمثل معسكر الجهل الذى يلزم القضاء عليه دفاعاً عن الله. والسؤال اذن: ماذا يعنى لفظ «جهل»؟ إنها، فى رأى سيد قطب، عصور النهضة والاصلاح الدينى والتنوير فى أوروبا، وأن من واجب المجاهدين الاسلاميين إزالة هذه العصور ولكن بشرط أن تتم هذه الإزالة بالحروب الدينية وليس بالوسائل السلمية. وقد بلوَر هذا الشرط على شريعاتى منظَر الثورة الايرانية وذلك فى كتابه «سوسيولوجيا الاسلام» (1979) وفيه يحاول فهم التاريخ بألفاظ دينية. يقول إن قصة هابيل وقابيل هى بداية حرب مازالت مستمرة. وكان الدين هو سلاح كل منهما. ولهذا فإن حرب دين ضد دين هو الثابت الذى لا يتغير فى تاريخ البشرية. فمن جهة لدينا دين الشرك ويعنى وجود شركاء لله، ومن جهة أخرى لدينا دين التوحيد، ويعنى أن الله واحد وهو الذى يبرر وحدة الطبقات ووحدة الأجناس. وتأسيساً على هذه الحرب الحتمية بين الشرك والتوحيد يتبنى على شريعاتى أهم مبدأ جوهرى فى الاسلام وهو قدرة الانسان على أن يقدم ذاته شهيداً. وفى هذا المعنى يمكن القول بأن الموت لا يختار الشهيد إنما الشهيد هو الذى يختار الموت. ومن هنا فإن المسلم الحق هو الشهيد المجاهد. أما أنا فأرى أن هذا الشهيد المجاهد هو الذى ينتحر بتفجير قنبلة فى ذاته، أو فى صياغة أخري، هو الارهابى المولود فى عصر كوكبى يتميز بإرساء الديمقراطية. وهنا يثار السؤال الآتي: ما معنى الكوكبية؟ إنها فى اللغة العربية تعنى كوكب الأرض، وفى اللغة الأجنبية تعنى هذا المعنى أيضا لأنها مشتقة من اللفظ اللاتينى globus الذى يعنى كوكب الأرض. والسؤال بعد ذلك؟ ماذا حدث لكوكب الأرض حتى نقول كوكبية؟ بفضل الانترنت والبريد الالكترونى والتجارة الالكترونية ماتت المسافة زمانياً ومكانياً، ومن ثم ماتت الفواصل ووُلد الاعتماد المتبادل، ومن ثم أصبح كل شئ يتصف بالكوكبية، وبالتالى أصبح الارهاب كوكبيا. ومع مولد تنظيم القاعدة واجهنا التحدى الحقيقى للكوكبية لأن تكنيكه هو أيضاً من ثمار المؤسسات الكوكبية الجديدة التى اخترعت أسلحة الدمار الشامل. ومن هنا تواجه الديمقراطية إشكالية خاصة بحقوق الانسان. فالارهابى هو مالك للحقيقة المطلقة أو بالأدق مالك لعقيدة مطلقة لا ترى فى العقائد الأخرى سوى أنها عقائد نسبية، لأن المطلق واحد بحكم تعريفه، ومن ثم فإنه لا يقبل تعدد المطلقات، وبالتالى فإنه يرفض التعايش معها، ووسيلة «الرفض» قتلها، ومن ثم يمكن القول بأن ثمة علاقة عضوية بين المطلق والقتل. والسؤال اذن: هل فى الامكان القول بأن «الحق فى الحياة» يستلزم منى قتل الارهابى قبل أن يقتلني؟ إذا كان الجواب بالايجاب فيلزم إعادة النظر فى «الاعلان العالمى لحقوق الانسان» الذى أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 10 ديسمبر 1948 من أجل أن ينص فيه على سلب حق الحياة من الأصولى الارهابى قبل ممارسته عملية القتل. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة