اشتهاء الكوكبية غاية الكل في هذا الزمان، إلا أن هذا الاشتهاء أصبح موضع صراع بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، أو بالأدق بين الله من قِبل العالم الإسلامي والانسان من قِبل العالم الغربي. وقد ترتب على ذلك أن امتنع الصراع عن أن يكون محكوماً بقوانين بحكم التناقض الحاد بين قوانين الله وقوانين الانسان، ومن ثم تكون الفوضى هي النتيجة الحتمية ومع ذلك فالمفارقة هنا تكمن فى إثارة هذا السؤال: الغلبة لمن؟ ومع ذلك فالعالم الإسلامي ممثلاً في تياره السائد وهو الأصولية على يقين بأن الإسلام هو دين اليوم للمسلمين ثم هو دين الغد لغير المسلمين، وعندئذ يتحقق النسق الإسلامي الأصولي على كوكب الأرض. أما العالم الغربي فعلى اقتناع بأن العلمانية العقلانية في الطريق إلى أن تكون هي النسق الكوكبي في مستقبل الأيام. والسؤال إذن: هل الطريق ممهد لذلك النسق العلماني العقلاني لتأسيس النسق الكوكبي؟ جواب النخبة الأوروبية بالإيجاب. فقد تحررت من السلطة الدينية بالعلمانية في القرن السادس عشر والتي تعنى، في رأيي، التفكير في النسبي بما هو نسبى وليس بما هو مطلق. وأفرزت نظرية العقد الاجتماعي فى القرن السابع عشر والتي تقرر أن تأسيس المجتمع من صنع البشر ومن غير تدخل من السلطة الدينية. ودعت إلى التنوير في القرن الثامن عشر والذى يعنى ألا سلطان على العقل إلا العقل نفسه. ومعنى ذلك إعمال العقل بلا وصاية من أية سلطة خارج سلطة العقل. كما دعت في القرن التاسع عشر إلى الليبرالية التي تعنى أن سلطة الفرد فوق سلطة المجتمع. وهذا كله ما أطلقت عليه «رباعية الديمقراطية» التي لازمت المهاجرين الأوروبيين المتنورين فى رحلتهم إلى أمريكا. ومع ذلك فإن فيليب جنكنز بريطاني الجنسية و الأستاذ بجامعة بنسلفانيا الحكومية لديه أخبار سيئة عن حال العلمانية العقلانية سجلها في كتاب أصدره فى عام 2002 تحت عنوان رئيسي: مملكة المسيحية، وعنوان فرعى: المسيحية الكوكبية قادمة. من هذه الأخبار السيئة أن المسيحية تفقد جاذبيتها فى أوروبا ولكنها تنتشر بلا توقف فى أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية مكونة مملكة مسيحية أصولية تسبب ازعاجا للمسلمين والعلمانيين كما تسبب تغييرا فى النظر إلى المسيحيين من أنهم الأثرياء ومن الجنس الأبيض إلى أنهم من الفقراء ومن الجنس الأسود. إلا أن هؤلاء المسيحيين لا ينفردون بالقارات الثلاث التى ترمز إلى العالم الثالث، إذ فى مواجهتهم يقف المسلمون وشعارهم هو شعار آية الله خومينى «إما أن يكون الاسلام وإما ألا يكون». ومعنى هذا الشعار أن الاسلام أسلوب للحياة كلها وليس لجزء منها، ومن ثم فهو لا يقبل المنافسة. ومن هنا يرى جنكنز ضرورة عودة الحروب الدينية التي عانت منها أوروبا فيما مضى من الزمان، ويدلل على رأيه قائلاً بأن كل الأديان ليست متسامحة. والسؤال إذن: هل فى الإمكان منع عودة الحروب الدينية؟ جواب جنكنز بالايجاب ولكن بشرط أن تكون السلطة السياسية على اقتناع بأن الفقر والحرب مسألتان اجتماعيتان وأنها هى المسئولة وحدها عن مواجهتهما، وأن الخلاص منهما من اختصاص السياسة وليس من اختصاص الدين. والرأي عندى أن الخلاص لن يكون على هذا النحو بل على نحو «رباعية الديمقراطية» التي كانت، فى رأيى، السبب ليس فقط في خلاص أوروبا من الحروب الدينية بل فى دفعها نحو الانتقال من المجتمع الصناعي إلى مجتمع ما بعد الصناعي، أى المجتمع الإلكتروني. والسؤال اذن: لماذا كانت الرباعية هى السبب؟ لأنها كانت المسئولة عن تغيير الذهنية الأوروبية من ذهنية العصور الوسطى إلى ذهنية العصور الحديثة، أى من الذهنية الأصولية الرافضة للعلمانية أصل الرباعية، إلى الذهنية القابلة للعلمانية فى اتجاه التطور مع التقدم. مغزى الرباعية اذن أنه مع غياب العلمانية يغيب التقدم ويكون التخلف هو البديل. ومغزاها أيضا أن الأديان فى القرن الحادي والعشرين محاصرة بالرباعية، وعليها الاختيار بين أن تكون معها أو تكون ضدها ولا وسط. وإذا اختارت أن تكون «مع» فلن يكون من حقها امتلاك كوكب الأرض. أما إذا اختارت أن تكون «ضد» ففى هذه الحالة يكون من حقها الدعوة إلى امتلاك كوكب الأرض، إلا أن هذه الدعوة لن تجد قبولا من غير حرب، ولن تكون إلا كوكبية. وهنا ثمة سؤال لابد أن يثار: هل سكان كوكب الأرض على وعى بهذا الصراع الذى يحدث حول رباعية الديمقراطية؟ جوابى بالسلب لأنهم لو كانوا على وعى ما كان للأصولية أن تكون التيار السائد فى العالم الثالث بل فى أمريكا بقيادة حزب الغالبية الأخلاقية وحزب التحالف المسيحى. والسؤال بعد ذلك: كيف يمكن توليد ذلك الوعى؟ إنها مهمة السلطة الثقافية المتمثلة فيمن يقال عنهم إنهم النخبة عندما تكون لها ذهنية علمانية لا تكتفى بأن تكون كذلك بل تمتد بها إلى الجماهير، والوسائل الالكترونية كفيلة بأن تكون هى وسيلة هذا الامتداد. أما السلطة السياسية فمهمتها تدعيم السلطة الثقافية. وفى هذه الحالة لن يكون من حق السلطة الدينية أن تتوهم أن السلطة الثقافية هى جزء منها، بل الضد من ذلك هو المطلوب وهو أن تكون السلطة الدينية جزء من السلطة الثقافية، لأن الثقافة فى تحديدها لا تخرج عن كونها الكل المؤلف من دين وعلم ومن تقاليد وعادات، وهو كل متطور. وإذا توقف التطور فالثورة لازمة. وتأسيساً على ذلك يمكن القول بأن عنوان هذا المقال يلزم منه أن واو العطف الواردة فيه تعنى المغايرة ولا تعنى التطابق بمعنى أن تكون المسيحية كوكبية مثلها مثل أى دين آخر دون أن تكون هى الكوكبية. لمزيد من مقالات مراد وهبة