وهذا حوار آخر مستحدث دعتنى للمشاركة فيه أيضاً منظمة اليونسكو فى 20 نوفمبر من عام 2003 وذلك بمناسبة الاحتفال باليوم العالمى للفلسفة. وهو حوار ينشد مجاوزة الاختلاف بين الثقافات. وأظن أن منظمة اليونسكو بهذا الحوار تتسق مع هويتها. فالشائع عنها أن هويتها تكمن فى الاتفاق دون الافتراق. وقد لمست هذه السمة عندما دعتنى للمشاركة فى ندوة عن تقييم تدريس الفلسفة فى إفريقيا فى عام 1982. وقبل نهاية الندوة كلفنى رئيسها وهو فى الوقت ذاته رئيس « قسم الفلسفة والعلوم الانسانية» باليونسكو بكتابة تقرير عما دار فى الجلسات لعرضه على الفلاسفة المشاركين. وقد كتبته موضحاً نقاط الاتفاق والافتراق. وعندئذ نبهنى إلى حذف نقاط الافتراق لأن اليونسكو لا ينشد سوى بيان الاتفاق. وعندما التقيته فى ديسمبر 2003 فى ندوة دولية بالمملكة المغربية عنوانها « حوار الثقافات» هل هو ممكن؟ سألته عن أحواله فى بلده فأجاب ساخراً «تحولت من بيروقراطى دولى إلى بيروقراطى محلى». وعندئذ ورد إلى ذهنى مؤتمر فلسفى دولى كانت قد عقدته الجمعية الفلسفية الأفروآسيوية بالاشتراك مع « لجنة الثقافة» بالفاتيكان فى عام 1990 بالقاهرة تحت عنوان « الثقافات: صراع أم حوار»؟ وفيه حدث اشتباك بين الشهرستانى رئيس الجامعة الاسلامية العالمية بلندن والأب قنواتى مدير معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومينيكان بالقاهرة. كان عنوان بحث الشهرستانى « فى سبيل التقريب بين الثقافات»، وكان عنوان بحث الأب قنواتى « الاسلام والمسيحية: التقاء ثقافتين فى الغرب فى العصر الوسيط». ومع بداية القرن الحادى والعشرين وإثر أحداث 11/9 كانت سمة الصراع غامضة. فقد دمَر مركز التجارة العالمى نفر من الأصوليين الاسلاميين. ولم نكن نعرف وقتها عما إذا كان هذا التدمير ضد الحضارة باعتبار أن ذلك المركز يمثل أعلى مراحل الثورة العلمية والتكنولوجية ، أم ضد أمريكا باعتبارها القوة العظمى الوحيدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى ، أم ضد الغرب المسيحى بما فيه أوروبا وأمريكا. إذا كان التدمير ضد الحضارة فحوار الحضارات لازم، وإذا كان ضد أمريكا فحوار الثقافات ممتنع أما إذا كان ضد الغرب المسيحى فحوار الأديان ضروري. وأظن أن منظمة اليونسكو تناولت هذه الأنواع من الحوارات وجاءت بنتائج سلبية فأرادت أن تجرب مجاوزتها وذلك بصك مصطلح « مجاوزة الثقافات». والسؤال اذن: ماذا يعنى هذا المصطلح؟ هل يعنى أن الثقافات منغلقة على ذاتها، كل ثقافة تتوهم أنها مالكة للحقيقة المطلقة وبالتالى تعاند فى الدخول فى حوار مع أى ثقافة أخرى، وإذا فرض عليها فإنها تفتعل أسباب الافتراق؟ هو بالضرورة يعنى ذلك وإلا ما كانت تنشغل بمجاوزتها. والسؤال بعد ذلك: ماذا يحدث بعد المجاوزة؟ هل يحدث تجاهل للتباينات بين الثقافات إلى حد الاتفاق من غير افتراق أم إلى حد الافتراق الذى ينتهى بانغلاق كل ثقافة على ذاتها؟ فى الحالة الأولى السلام هو المحصلة وفى الحالة الثانية الحرب هو النتيجة الحتمية. ومع ذلك فنحن فى الحالتين فى حاجة إلى ثقافة قد يقال عنها ثقافة سلام أو ثقافة حرب. والسؤال بعد ذلك: أى الثقافتين نختار؟ أظن أن الاختيار محكوم هنا بأحداث 11/9 التى تولدت منها أحداث أخرى تتسم كلها بأنها ارهابية، ومعنى ذلك أن الارهاب هو الذى سيفرض علينا الاختيار. إلا أن هذا الارهاب السائد الآن هو الارهاب الذى تولده الأصولية الاسلامية. وإذا كان ذلك كذلك فكيف يمكن مواجهته؟ هذا هو التحدى وهو يقوم بين مواجهتين إحداهما عسكرية والأخرى دينية. المواجهة الأولى تقتل الإرهابى ولكنها لا تقتل عقله، وبالتالى فإنه يموت وهو معتبر فى عداد الشهداء. أما المواجهة الثانية فإنها لا تقتل عقل الإرهابى لأنها تواجهه بعبارات دينية لم يألفها عقله لأنه مشحون بإرث أصولى لا يترك فراغاً لإمكانية الحوار. وإرثه محكوم بتيار متصل من غير اعوجاج بدايته الغزالى من القرن الحادى عشر وابن تيمية من القرن الثالث عشر وسيد قطب من القرن العشرين. الأول كفَر فلاسفة اليونان بدعوى أنهم وثنيون، والثانى كفَر ابن رشد بدعوى أنه يدعو إلى إعمال العقل فى نص دينى هو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى العقل بل يحتاج إلى الحواس وأفضلها السمع وما يلزم عنه من طاعة وانصياع لأمر مَنْ بيده الإرث. والثالث سيد قطب أدان الحضارة الغربية بدعوى أنها حضارة مريضة عقلياً، إذ هى مصابة ب» الفصام النكد». واللافت للانتباه هاهنا هو إن الإرث الإسلامى محصور ومحكوم بهؤلاء الثلاثة وليس لدى العالم الإسلامى من إرث سواه، وهو إرث يزعم أنه مالك للحقيقة المطلقة. ومن هنا فإنه ليس أمام العالم الإسلامى من مخرج سوى تأسيس تيار علمانى يخفف من الارهاب الأصولى فى الحد الأدنى ويكون بديلاً عنه فى الحد الأقصى. إلا أن الإشكالية فى تأسيس ذلك التيار تكمن فى أن العلمانية مجرَمة ومحرَمة فى العالم الإسلامى بدعوى أنها تمهد للإجهاز على المعتقد الديني، فى حين أنها لا تجهز عليه إلا إذا توهم أصحابه أن من حقهم الانفراد بالتمكن من كوكب الأرض. وفى حالة هذا الوهم فإنها تدخل بالضرورة فى صراع مع أصوليات أخرى تتوهم ما تتوهمه الأصولية الاسلامية. وإذا حدث ذلك، فى منطقة الشرق الأوسط بالذات، يكون لدينا ثلاث أصوليات متصارعة، وهى فى صراعها تقف ضد حضارة العصر، وهى حضارة علمية وتكنولوجية. والسؤال اذن: هل فى إمكان هذه الحضارة تغيير الذهنية الأصولية بذهنية علمانية؟. ليس فى إمكانها ذلك إلا بالنخبة. ولكن ما العمل إذا كانت النخبة ذاتها قد أصيبت بداء الأصولية؟. لمزيد من مقالات مراد وهبة