أظن أن عام1991 قد تميز ب مفارقة يمكن أن يقال عنها إنها مفارقة الحرب الباردة. بيد أن هذا القول في حاجة إلي بيان معني اللفظين: المفارقة والحرب الباردة. المفارقة قضية تنطوي علي نقيضها, ولكنها قد تعبر عن حقيقة ممكنة, أو أنها تنطوي علي جملة أجوبة متناقضة تخص سؤالا واحدا. ومعني ذلك أن المفارقة بلا تناقض هي بلا معني. أما الحرب الباردة فقد أطلقت علي العلاقة الجديدة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام1945, وهي علاقة تميزت بالتوتر إلي حد التهديد بحرب نووية, ومع ذلك فان هذه العلاقة قد انتهت بسقوط حائط برلين في9 نوفمبر عام1989, وهو الحائط الذي كان يفصل بين ألمانياالغربيةوألمانياالشرقية ثم انهار لصالح ألمانياالغربية, كما أنها انتهت بموت الاتحاد السوفيتي في عام.1991 ولم يبق بعد ذلك سوي قوة واحدة مهيمنة علي كوكب الأرض هي قوة الولاياتالمتحدةالأمريكية. ومع ذلك فان هذه القوة لم تنعم بالهيمنة, إذ سرعان ما اشتعلت حرب الخليج الثانية أو بالأدق عملية عاصفة الصحراء التي شنتها أمريكا علي العراق في17 يناير.1991 وإثر ذلك شاع العنف إلي الحد الذي تحول فيه إلي ظاهرة كوكبية. إلا أنني لم أفاجأ بهذه الظاهرة, فقد التفت إليها عندما اشتعلت حركة الطلاب في عدة دول في الستينيات من القرن العشرين, وكانت حركة ثورية لأنها كانت تنشد تدمير النظام الاجتماعي القائم. وقد واكب حركة الطلاب تأسيس المركز الاسلامي في ميونخ في عام1960 بقيادة سعيد رمضان. وجدير بالتنويه ها هنا أن هذا المركز هو تجسيد للأصولية الاسلامية التي تعلن رفضها للعلمانية. وفي هذا الاطار أشرفت علي تنظيم مؤتمر عربي أوروبي في روما في عام1981 تحت عنوان رئيسي: الشباب والعنف والدين وعنوان فرعي العلمانية واللاعلمانية. وفي البحث الذي ألقيته تساءلت: هل العنف الأصولي عقلاني؟ وجاء جوابي بالسلب بحجة أن هذا الضرب من العنف يستدعي ماضيا انتهي, أي ماضيا عاجزا عن تحريك المجتمع نحو المستقبل, أما العنف العقلاني فهو يحرك نحو المستقبل لأنه ينطوي علي رؤية مستقبلية بحكم أن الانسان حيوان مبدع. وحيث إن الابداع هو قدرة العقل علي تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الوضع القائم علي حد تعريفي فان الابداع بالضرورة لا ينشغل إلا بتكوين رؤية مستقبلية مستندة إلي قوانين علمية. ومن هنا فان العنف العقلاني يستلزم بالضرورة مقولتين هما المستقبلية والعلمية. ومن غير هاتين المقولتين فان العنف يصبح إرهابيا حتي لو التحف بالمقدس. وقد كان هذا الالتحاف بالمقدس هو الظاهرة التي سادت منذ السبعينيات من القرن العشرين حتي الآن. ومن هنا انزلق المقدس من مكانه التقليدي وهو ما يقال عنه إنه فوق الطبيعة إلي مكان آخر وهو ما يقال عنه إنه ما هو طبيعي. والسؤال بعد ذلك: هل هذا الانزلاق هو مصير المقدس اذا التحف به العنف؟ جاء جوابي في المؤتمر العالمي الذي عقدته الجمعية الدولية لتبادل الأبحاث العلمية عن العنف والتعايش البشري المشترك في مونتريال بكندا في عام1992 وكنت في حينها عضوا باللجنة الاستشارية للجمعية وطلب مني أن ألقي بحثا عن الأصولية والعنف. فكرته المحورية أن انزلاق المقدس من مكانه فوق الطبيعة إلي مكانه في الطبيعة واضح في الثورة الأصولية الايرانية وفي المنظر لها وهو علي شريعاتي في كتابه المعنون سوسيولوجيا الاسلام وفيه يفسر تاريخ البشرية بتصورات دينية, إذ يري أن هذا التاريخ ليس إلا تاريخ حرب بدايته حرب قابيل ضد هابيل, وبعد ذلك تنوعت الحروب بتنوع الأديان. وشريعاتي يحصرها في دين الشرك ودين التوحيد. والسؤال عندئذ: ما هي خصائص دين التوحيد؟ ثلاث: التقية( هي أن يظهر الانسان غير مايبطن), والخضوع للامام, والاستشهاد. والخاصية الثالثة هي الأهم لأنها هي التي تدفع المسلم إلي الحرب بلا تردد. ومن هذه الزاوية يقول شريعاتي: إن الموت لا يختار الشهيد إنما الشهيد هو الذي يختار الموت. واذا كان ذلك كذلك فهل الحوار مع الشهيد ممكن؟ أظن أن الجواب بالسلب. وإذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي حال الحوار في مصر الآن فماذا تري؟ حوارا وهميا سواء أجرته قيادة مصرية أو أجنبية. لمزيد من مقالات مراد وهبة