في عام1988 ارتأيت أن الصراع المقبل لن يكون صراع طبقات ولا صراع ثقافات إنما صراع أصوليات. وكانت بداية رؤيتي لذلك الصراع في النصف الثاني من السبعينيات من القرن العشرين بسبب استعانة الرئيس السادات بالحركات الاسلامية علي تباين رؤاها من أجل الإسهام في القضاء علي الأحزاب الناصرية واليسارية والشيوعية في إطار خطة أمريكية للقضاء علي الشيوعية الأممية. فقد أصدر الرئيس الأمريكي جيمي كارتر قرارا في يناير1979 بتدعيم حركة طالبان الأفغانية في حربها ضد الغزو السوفيتي. وفي ذلك العام تحولت ايران من دولة ملكية إلي دولة أصولية اسلامية بقيادة الزعيم آية الله خوميني. وفي ذلك العام نفسه أيضا أبرمت المعاهدة المصرية الإسرائيلية برعاية أمريكية خالصة بعد استبعاد الاتحاد السوفيتي وبموافقة الرئيس السادات المدعوم من الأصولية الاسلامية والرئيس بيجن الأصولي علي الأصالة. وإثر ذلك تبلورت رؤيتي للصراع المقبل علي هيئة ندوة دولية اقترحت عقدها في المؤتمر العالمي الثامن عشر الفلسفي بمدينة بريتون بإنجلترا في ذلك العام أيضا, وكان عنوان الندوة الأصولية والعلمانية في الشرق الأوسط. والذي دفعني إلي هذه الصياغة هو هيمنة أصوليات ثلاث يهودية ومسيحية واسلامية علي الصراع العربي الإسرائيلي, وأن هذه الهيمنة ليس في الامكان التحرر منها إلا بالعلمانية. والسؤال اذن: لماذا العلمانية خاصة؟ جوابي مردود إلي تعريفي كلا من الأصولية والعلمانية. فاذا كانت الأصولية هي التفكير في النسبي بما هو مطلق وليس بما هو نسبي فالعلمانية هي التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق, والتناقض بينهما حاد, بمعني إقصاء كل منهما الآخر. ومعني ذلك أننا إذا قررنا التحرر من هيمنة الأصولية فالعلمانية هي الوسيلة الحتمية. وتأسيسا علي ذلك يمكن القول بأن انفراد الأصوليات بالهيمنة يعني استحالة الدعوة إلي السلام لأن السلام لا يتحقق إلا بالمفاوضات علي نحو ما هو وارد في تاريخ الحروب. والمفاوضات تستلزم الانصياع لتنازلات من قبل الطرفين المتحاربين. والتنازلات تقتضي هز ما كان ثابتا أو بالأدق ما كان يبدو أنه مطلق. ومن هنا يمكن القول بأنه من غير العلمانية فإن السلام لا يستقيم. ومن هنا أيضا جاء عنوان بحثي المطلق الأصولي والعلمانية في الشرق الأوسط. بيد أن هذا العنوان لا يعني أن الأصولية والعلمانية محصورتان في الشرق الأوسط, فهما ظاهرتان كوكبيتان, ولكنه يعني اتخاذ منطقة الشرق الأوسط نموذجا لفحص هاتين الظاهرتين. واللافت للانتباه في أمر هذه الندوة أنها تزامنت مع قرار أصدرته الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم بمنح جامعة شيكاغو مليونين ونصف مليون دولار لدراسة الأصوليات الدينية في القرن العشرين علي أن تصدر هذه الدراسة في خمسة مجلدات في خمس سنوات بمعدل مجلد كل عام, وقد كان. والسؤال بعد ذلك:أين يكمن خطر الأصوليات الدينية؟ يكمن في أنها مطلقات, والمطلقات بالضرورة في حالة صراع إن لم تكن في حالة حرب لأن المطلق بحكم تعريفه هو واحد بالضرورة ومن ثم فهو لا يقبل التعدد, وإذا تعدد فإن مطلقا واحدا هو الذي يشتهي أن يسود. ومن شأن تحقيق هذه السيادة اشتعال الحروب. وقد بلور فيلسوف الثورة الايرانية علي شريعاتي هذه المسألة في كتابه المعنون في سوسيولوجيا الاسلام (1979) حيث يقرر أن قصة هابيل وقابيل هي قصة التاريخ البشري, أي قصة الحرب التي اشتعلت منذ بداية الخليقة ومازالت مشتعلة إلي اليوم. فقد كان الدين هو سلاح كل من هابيل وقابيل. ولهذا السبب فحرب دين ضد دين هو العامل الثابت في تاريخ البشرية, وإن شئنا الدقة قلنا إنه حرب الذين يشركون بالله ضد حرب التوحيد. وإذا كانت أسس الاسلام هي التقية والخضوع للإمام والاستشهاد فالاستشهاد, في رأي شريعاتي, هو أهمها لأنه المبدأ الذي يدفع المسلم إلي الحرب من غير تردد. ومن هذه الزاوية فإن الموت لا يختار الشهيد, إنما الشهيد هو الذي يختار الموت عن وعي. والمسألة هنا ليست مسألة تراجيديا إنما هي مسألة نموذج يحتذي لأن الشهادة بالدم أرفع درجات الكمال. ومعني ذلك أن المسلم الحق هو الشهيد المناضل. وإذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي ما هو حادث في الشرق الأوسط الآن فماذا تري؟ أصوليات في حالة تهديد بالحرب أو في حالة حرب, وهي علي النحو الآتي: أصوليات في غزة والسودان وجنوب لبنان وايران وسوريا وليبيا والجزائر وتونس, وعلمانية في اسرائيل تدلل أصولية يهودية دون أن تكون محكومة بها, وعلمانية في حالة كسوف في الضفة الغربية. وقوي خارجية مترنحة في مواجهة هذه الأصوليات, إذ تراها ارهابية ولكنها عاجزة عن مواجهتها فتتهم بأنها متآمرة. وحركة تمرد في مصر في مواجهة أصولية اسلامية دموية متجذرة وحاكمة ومتداخلة مع الأصوليات الراهنة. لمزيد من مقالات مراد وهبة