أنت لن تفهم ما حدث فى القرن العشرين، كما أنك لن تفهم ما هو حادث الآن فى القرن الحادى والعشرين إلا إذا التفت إلى عنوان هذا المقال ومغزاه. والعنوان ليس من وضعى إنما من وضع القرن الماضى وبدايات هذا القرن. والسؤال اذن: ماذا حدث فى القرن الماضى وبدايات هذا القرن؟ صراع مطلقات فى مجال الأديان وصراع مطلقات خارج مجال الأديان. فى مجال الأديان حدث بزوغ لأصوليات دينية كانت غايتها الدفاع عن ذاتها بمطاردة أعدائها العلمانيين فى الحد الأدنى وباغتيالهم فى الحد الأقصي. وفى مجال خارج الأديان حدث بزوغ لمطلقات ثلاثة وهى الشيوعية والنازية والفاشية، وكانت غايتها الدفاع عن ذاتها بمطاردة أعدائها الليبراليين فى الحد الأدنى وباغتيالهم فى الحد الأقصي. وهكذا تمت محاصرة الحضارة الانسانية فى مسارها من الفكر الأسطورى إلى الفكر العقلانى بمطلقات دينية وغير دينية. وإثر انتهاء الحرب العالمية الثانية انهارت كل من النازية والفاشية وبقيت الشيوعية تناضل من أجل البقاء حتى انهارت فى عام 1991. إلا أن الأصوليات الدينية لم يحدث لها مثل ما حدث للمطلقات غير الدينية، إذ تصاعد عنفها فى التحكم فى عقول البشر وفى محاولة القضاء على المنتجات الحضارية لتلك العقول حتى استطاعت إحداها وهى الأصولية الاسلامية فى 11/9 تدمير مركز التجارة العالمى بلا مقاومة. ومعنى ذلك أن أجهزة المخابرات الأمريكية مع أجهزتها الحربية كانت فى حالة غيبوبة. والسؤال اذن: هل دخل المطلق فى أزمة مع الحضارة؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فما هى ملامح هذه الأزمة؟ فيعام 1902 أصدر ارنست ترولتش كتاباًعنوانه «مطلقيه المسيحية». الفكرة المحورية فيه أن العقل الإنسانى تاريخى بطبعه، ومن ثم يكون من حقه نقد السلطة الدينية التى تزعم أنها تملك الحقيقة المطلقة، وأن هذا الحق نابع من عصر التنوير الذى ينص على إعمال العقل بدون أية سلطة خارج سلطته.ويترتب على هذه السمة التاريخية للعقل أن تدخل الأحداث فى علاقات، وأن هذه العلاقات تلزمنا برؤية الحدث بالنسبة إلى حدث آخر. ومن هنا يكون ما هو تاريخى هو نسبى بالضرورة. وتاريخ الأديان يدلل على صحة هذا الرأي. وبعد ذلك ظهرت «نظرية الانفجار العظيم» التى تحكى لنا نشأة الكون وتمدده مع توليده لكواكب ونجوم وبشر. وكل ذلك فى إطار التطور الذى هو إطار نسبى فى الوقت ذاته. وإذا كان رأيى أن الحضارة الانسانية فى مسارها تنتقل من الفكر الأسطورى إلى الفكر العقلانى فهذا الرأى يعنى فى الوقت ذاته أن النسبية ملازمة للعقلانية. ومن هنا صدر كتاب عنوانه «العقلانية» (1970) حرره اثنا عشر عالماً من العلوم الاجتماعية. وجاء فى مفتتحه أن هذه العلوم منذ نشأتها قد انشغلت بمناقشة العقلانية، وكان من شأن هذه المناقشة أن طغت على السطح العوامل اللاعقلانية الخفية فى تحريك الظواهر الاجتماعية، وكذلك العوامل الثقافية المحددة لمعانى الألفاظ، ومدى إعاقتها لكوكبية العقلانية وما يترتب على ذلك كله من إمكان فهم ثقافات الآخرين ومعتقداتهم ومسلكهم فى الحياة. ومن هنا أثيرت مسألة النسبية فى إطار العقلانية. وبناء عليه صدر كتاب آخر عنوانه «العقلانية والنزعة النسبية» (1982) حرره أحد عشر عالماً. والجدير بالتنويه هاهنا أن من بينهم علماء أسهموا فى تحرير كتاب 1970 وجاء السطر الأول من ذلك الكتاب عبارة تقول إن إغراءات النزعة النسبية سريعة التفشى بلا توقف، إذ هى طاغية فى جميع مجالات الفكر، ومن ثم فلا شيء مطلق تحت الشمس. ومع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار: إذا لم يكن ثمة مطلق تحت الشمس، وإذا كنا محاصرين بما هو نسبى فهل معنى ذلك أن النسبيات متساوية، ومن ثم لا تخضع للمقارنة أو بالأدق للمفاضلة؟. إذا كان الجواب بالإيجاب فالنتيجة الحتمية أن كل ثقافة مستقلة عن الأخرى وأن لها خصوصيتها وبالتالى يمتنع تخصيب الثقافات بل يمتنع الحوار بينها، وبذلك تقف ضد الكوكبية التى يتميز بها عقل التنوير والذى ينص على أنه هو كذلك فى مساره فى جميع مجالات المعرفة الانسانية، وأنه لا ضرورة بعد ذلك لإحداث تغيير فى أية ثقافة متخلفة من أجل ادخالها فى المسار التنويري. وإذا كان ذلك كذلك فمعنى ذلك أن التغيير للأفضل وَهْم. ومرة ثانية إذا كان ذلك كذلك فمعنى ذلك أنه لم يكن ثمة مبرر لمحاكمة جاليليو دينياً بسبب انحيازه لنظرية دوران الأرض حول الشمس طالما امتنعت المفاضلة بين هذه النظرية والنظرية المضادة التى تنفى دوران الأرض، ومن ثم يتساوى القول بهما معاً، ولا يعنينا بعد ذلك أن تدور الأرض أو لا تدور. ومرة ثالثة إذا كان ذلك كذلك فمعنى ذلك أنه يحق لنا القول بأن الإرهابى مشروع له أن يكون قاتلاً كما أنه مشروع لمعارضه أن يكون مقتولاً، ولا مفاضلة بعد ذلك بين هذا وذاك. والسؤال بعد ذلك: إذا كان كل ذلك مرفوضاً بحكم أنه غير معقول فما الحل؟ الحل فى تعريفى للعلمانية بأنها التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق لأن هذا التعريف يعنى أن العلمانية كامنة فى النسبية، أى أنه لا نسبية بلا علمانية. وإذا كان ذلك كذلك فالصراع بين العلمانية وأصحاب المطلقات هو صراع مشروع، بل هو الصراع الممتد من القرن العشرين إلى القرن الحادى والعشرين. ولا أدل على ذلك من صدور كتاب فى عام 2008 عنوانه الرئيسى «كتاب المطلقات» وعنوانه الفرعى «نقد النزعة النسبية والدفاع عن الكليات». فماذا كان دفاع مؤلف هذا الكتاب عن المطلقات ونقده للنسبيات؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة