الرأي عندي أن الحضارة الإنسانية, في مسارها التاريخي, تنتقل من الفكر الأسطوري إلي الفكر العقلاني, وهي في هذا الانتقال تواجه عوائق ليس من الميسور تجاوزها بحكم تمكن الأسطورة من العقل. يشهد علي صحة هذا الرأي ما حدث مع بداية القرن العشرين, إذ اهتزت ما قيل في حينها إنها حقائق مطلقة. فالذرة لم تعد جزءا لا يتجزأ, إذ ارتأي عالم الفيزياء ماكس بلانك في عام1900 أن الذرة بها جسيمات أي إلكترونات, ومعني ذلك أنها قابلة للتجزئة. كما ارتأي أينشتين في عام1905 أن كلا من الزمان والمكان ليس مطلقا, وهذا الذي ارتآه أينشتين كان علي الضد مما كان يعلنه نيوتن في القرن السابع عشر بأن كلا من الزمان والمكان مطلق. وبناء عليه بزغت الأصولية المسيحية في عام1909 لتمنع هذا التدهور للحقيقة المطلقة وذلك بتكفير من يناقضها أو يدمرها, فأصدرت كتيبات بين عامي1909-1915 تحت عنوان الأصول وبلغ توزيعها بالمجان ثلاثة ملايين نسخة. ترفض فيها نقد الانجيل كما ترفض النظريات العلمية التي لا تستقيم مع حرفية النص الديني, ومن ثم ترفض إخضاع النص الديني للعقل. وفي عام1979 تأسس الحزب المسيحي الأصولي بقيادة القس جيري فولول وأطلق عليه اسم الغالبية الأخلاقية. وأعلن بعد ذلك أن الأب الروحي للأصولية المسيحية فيلسوف ايرلندي اسمه ادموند بيرك من القرن الثامن عشر. ألف كتابا عنوانه تأملات في الثورة في فرنسا صدر بعد الثورة الفرنسية بعام أوضح فيه أنه يرفض الفصل بين الكنيسة والدولة, إذ هما كيان واحد لأن الدين هو مصدر التشريع, ومن ثم فليس من حق أحد غير الله تغيير التشريع. والعدالة أيضا مصدرها النظام الإلهي, وبذلك يهز بيرك عصر التنوير أو عصر الجهل كما كان يسميه. وفي عام1979 نفسه قامت الثورة الأصولية الاسلامية في ايران بقيادة روح الله الموسوي الخميني. وقد جمعت محاضراته التي كان قد ألقاها في النجف فيما بين8 يناير,21 يناير1970 وصدرت في كتاب تحت عنوان الحكومة الاسلامية مفادها أن الأمر الإلهي له سلطان مطلق علي جميع الأفراد وعلي الحكومة الاسلامية, وأن الفقهاء أنفسهم هم الحكام الحقيقيون, وأن الفقيه العادل يلزم المؤسسات الحكومية بتنفيذ شريعة الله لتأسيس النظام الإسلامي العادل, وبذلك يمكن القول إن المطلق الأصولي, عند خميني, متجسد في الفقيه العادل. ومن شأن ذلك أن يتطابق النسبي مع المطلق وذلك بإحالة النسبي إلي المطلق, أو بالأدق بمطلقة النسبي, وأي نسبي يتبقي بعد هذه المطلقة لابد من ازالته لأنه يشكل, عندئذ, نتوءا في عملية المطلقة. والازالة ليست ممكنة من غير حرب ضارية. أما الأصولية اليهودية فقد تأسست في عام1967 ممثلة في حركة جوش أمونيم التي تري أن اسرائيل دولة مقدسة. ومن ثم فالتنازل عن أي جزء من الأرض هرطقة لأن أي جزء هو منحة من الله. وقد ترتب علي هذه القداسة رؤيتها لما تبقي من العالم علي أنه ملوث الأمر الذي يفرض عليها اعتزال ثقافة العصر, إلا أنه اعتزال مغموس في مقولة العنف باعتبارها المكون الرئيسي للحركة من أجل فرض رؤيتها. بيد أن هذه الأصوليات الثلاث ليست هي الأصوليات الوحيدة, فقد شاعت معها أصوليات أخري في أديان أخري غير الأديان الثلاثة في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين. وتأسيسا علي ذلك عقدت ندوة دولية أثناء انعقاد المؤتمر العالمي الفلسفي الثامن عشر في عام1988 ببرايتون إحدي ضواحي لندن تحت عنوان الأصولية والعلمانية في الشرق الأوسط المعاصر. الغاية منها بيان أن الصراع بين الأصولية والعلمانية في الشرق الأوسط هو نموذج للصراع القائم والقادم علي مستوي كوكب الأرض. وكان المقصود من لفظ معاصر القوي المهددة للأصوليات وهي ثلاث: العقلانية العلمانية, والتسامح الديني الذي ينطوي علي مفهوم النسبية, والنزعة الفردية. وهذه الأصوليات في صراعها تهدد بإشعال الحروب. وبسبب هذا الضرب من التهديد نشأت علاقة عضوية بين الأصوليات الدينية والارهاب.ولا أدل علي صحة هذه الرؤية من أن الأكاديمية الأمريكية للآداب والعلوم قد قررت دراسة هذه الأصوليات تحت عنوان مشروع الأصوليات الدينية المعاصرةولمدة خمس سنوات. وقد صدرت الدراسة في خمسة مجلدات برعاية جامعة شيكاغو. وإذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي حال الاخوان في مصر مع بداية ثورة مصر في25 يناير.2011 لقد قضوا عليها في28 يناير عندما خرجوا من السجون بالقوة المسلحة. وبعد ذلك انفردوا بالسلطة مستعينين في ذلك الانفراد بالعنف الذي انتهي بتأليه الحاكم. وعندما انتهي سلطانهم في ثورة30 يونيو أو بالأدق ثورة الثلاثين مليونا من المصريين قرروا تدمير الدولة بإحداث ارهاب في محافظات مصر بوجه عام ومحافظة شمال سيناء بوجه خاص. ومع ذلك فان الارهاب لم يعد محصورا في منطقة محددة بل قد امتد إلي سكان كوكب الأرض. وإذا كان ذلك كذلك فمعني ذلك أن الارهاب هو مدخل من عدة مداخل إلي رؤية القرن الحادي والعشرين. لمزيد من مقالات مراد وهبة