هذا المقال موجز لبحث ألقيته في الأسبوع الماضي بالمملكة العربية السعودية في مؤتمر بتنظيم من جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية بالرياض وبالتعاون مع الأمانة الفنية لمجلس وزراء الشئون الاجتماعية العرب تحت عنوان «دعم وتشجيع ثقافة الحوار». وهو علي النحو الآتي: ما الحوار؟ عند سقراط الغاية من الحوار توضيح المعانى الغامضة وإقصاء التناقضات غير المشروعة دون أن ينشغل بالوصول إلى الحقيقة، ومع ذلك فثمة سؤال يلزم أن يثار: هل فى الامكان إجراء حوار بدون قنص الحقيقة؟ ممكن إذا أجرى الحوار لتحقيق غاية أخرى غير قنص الحقيقة، والسؤال اذن: ما هى هذه الغاية الأخرى؟ أجيب فى سياق الجزء الثانى من عنوان هذا البحث وهو «المجتمع المدنى». والسؤال اذن: ما هى سمة المجتمع المدنى؟ أجيب مستعيناً بالفيلسوف الانجليزى جون لوك فى حواره مع نقيضه السير روبرت فيلمر. والسؤال اذن: ماذا قال فيلمر وماذا كان رد لوك؟ ما قاله فيلمر ورد فى كتابه المعنون «النظام البطريركى»، أى النظام المحكوم بالرجال أى بالآباء الذين لديهم سلطان مؤسس على الحق الألهى، ومن هنا أيضا قيل «الحق الالهى للملوك»، ومن ثم يكون خلعهم أمراً بشعاً ليس فى الامكان تصوره. وبناءً عليه وجه فيلمر نقداً لاذعاً للديمقراطية. أما لوك فعلى الضد من فيلمر، إذ فى رأيه أن الانسان يولد حراً، ومن ثم فإن أى نظام حكم يلزم بالضرورة أن يستند إلى عقد اجتماعى معتمد من جماعة بشرية لتأسيس مجتمع يكون من صنع سلطة العقل وليس من صنع سلطة دينية، وهنا يتساءل لوك: مَنْ الذى ألهم فيلمر فكرة الحق الالهى للملك؟ وكان جوابه إنها من اختراع اللاهوتيين إلا أنه اختراع وهمى لأنه يصور لك الحاكم كأنه يحيا فى عالم مجاوز للطبيعة. وليس فى امكانك إزالة هذا الوهم إلا بأن تتصوره مسايراً للطبيعة. ومع ذلك فثمة سؤال: ماذا حدث فى حال مسايرة الطبيعة قبل تأسيس المجتمع المدنى؟ سيادة المساواة الكاملة والحرية الكاملة، ومن ثم كان لدى البشر حقوق طبيعية، إلا أنهم كانوا عاجزين عن المحافظة عليها فى حال نشوب خلافات حول أحقيتهم لهذه الحقوق بسبب غياب القانون،ومن هنا أصبح فى إمكان حال الطبيعة الانزلاق نحو الحرب، ومن هنا أيضاً أصبح من اللازم تأسيس المجتمع السياسى أو ما يسميه لوك المجتمع المدنى للمحافظة على حياتهم، وفى هذا السياق يمكن القول إن حق الحياة يأتى فى صدارة الحقوق عند تأسيس ذلك المجتمع، وهو يأتى كذلك فى الصدارة إذا واجه ذلك المجتمع تهديداً للحياة من قِبل الأصوليين فى القرن الحادى والعشرين والذى يتلخص أمرهم فى توهمهم أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، ومن ثم يدخلون فى صراع مع غيرهم يبدأ فى حده الأدنى بالتكفير وينتهى فى حده الأقصى بالقتل. والسؤال اذن: ما الغاية من الحوار؟ إن الغاية من الحوار لن تكون اقناع أيا كان بحقيقة معينة لأن مقارعة الحجة بالحجة لن تفضى إلى الاقناع لأن الحجة أيا كانت تنشد التدليل على صحة حقيقة معينة، ولكن إذا كانت الحقيقة ذاتها مشكوكاً فيها لأنها متغيرة ونسبية فإن الحوار لن يكون له علاقة بالحقيقة بل بأمر آخر غيرها وهو التغيير باعتباره ضرورة حضارية لأن الحضارة ذاتها هى الأصل فى تغيير الأنسقة الثقافية التى هى افراز من الحضارة الانسانية فى مسارها من الفكر الأسطورى إلى الفكر العقلانى، ومعيار المقارنة بين نسق وآخر يكمن فى مدى قُربه أو بُعده من ذلك المسار، ومن هنا يلزم أن يدور الحوار فى المجتمع المدنى حول مدى قُرب النسق الثقافى من الفكر العقلانى، ومن ثم تكون الغاية من الحوار الاتفاق على مشروع ثقافى يشترك فيه كل المتحاورين من أجل بلورته. والسؤال بعد ذلك: ماذا يعنى لفظ المشروع؟ إنه رؤية مستقبلية، أى رؤية لوضع قادم فى مقابل وضع قائم مأزوم يلزم اقصاؤه، وإذا أضفنا لفظ الحضارة يكون المشروع عندئذ مشروعاً حضارياً يكون موضع حوار فى المجتمع المدنى، وإذا لم يتفق المتحاورون على مشروع مشترك فإن الحوار فى هذه الحالة يمتنع وتبقى الأزمة على حالها تمهيداً لحدوث تفكك يأخذ فى التصاعد حتى ينهار المجتمع. وهنا ثمة سؤال يلزم إثارته: هل المجتمع المدنى الآن فى حالة تدهور؟ إذا كان الجواب بالايجاب فمن الذى فى مقدوره منعه من أن يتدهور؟ إنهم المثقفون، ولكن ما العمل إذا كان المثقفون فى حالة لا وعى؟ ولا أدل على هذا اللاوعى من ثورات الجماهير العربية التى دمرت الوضع القائم المتأزم دون أن يكون لديها رؤية لوضع قادم، ولكن إذا كانت الجماهير الثائرة بلا مثقفين وإذا كان المثقفون فاقدى الوعى فما البديل؟ أترك الجواب لقراء هذا المقال، إذ ليس عندى بديل. لمزيد من مقالات ◀ د. مراد وهبة