عقد «منتدي ابن رشد» ندوة بعنوان «العلمانية والمادة الثانية من الدستور» وذلك في 24 مايو 2010، وكان المحور الذي دارت عليه الأوراق المقدمة للندوة والحوار الذي صاحبها هو مقال مراد وهبة بعنوان «رباعية الديمقراطية»، والذي يحدد فيه مسار الديمقراطية بأربعة مكونات لازمة لتأسيس الديمقراطية هي: العلمانية والعقد الاجتماعي والتنوير والليبرالية، ومن دون هذا المسار تتحول الديمقراطية إلي مجرد وهم، وهذا ما هو حاصل الآن في مصر. في جلسة مخصصة لطرح إشكاليات رباعية الديمقراطية في مصر، وفي إطار ما تمثله المادة الثانية من الدستور من معوقات في سبيل تأسيس المسار نحو رباعية الديمقراطية، طرحت الإشكاليات الأربع الآتية: الإشكالية الأولي: العلمانية العلمانية في رباعية الديمقراطية لمراد وهبة ملازمة لاكتشاف كوبرنيكوس دوران الأرض، ودلالة هذا الاكتشاف أن الأرض ليست مركز الكون بل هي مجرد جزء صغير من أجزاء لامتناهية من المجرات والأفلاك التي تسبح في فضاء الكون، وهذا بدوره يعني أن الإنسان جزء لا يتجزأ من الأرض وليس مركزها، وفقدان الأرض مركزيتها مع فقدان الإنسان مركزية وجوده علي الأرض لهما دلالتان: الدلالة الأولي أن حركة الأرض تعني عدم الثبات، وعدم الثبات يعني التغير، والتغير أساس التطور والتطور أساس التقدم، أما الذي يحكم مسار هذه الحركة فهو مبدأ النسبية في مقابل مبدأ المطلق الذي يحكم الثبات الذي كان سائدا قبل اكتشاف كوبرنيكوس. والدلالة الثانية أن اعتبار الإنسان جزءا لا يتجزأ من الأرض ودورانه مع دورانها، يفرض عليه أن يكون علي وعي بهذه الحركة باعتبارها هي المحرك لوجوده علي الأرض بما يشتمل عليه هذا الوجود من فكر وعمل، ويدور هذا الوعي علي مبدأ النسبية الناشئ عن الحركة في مقابل مبدأ المطلق الناشئ عن الثبات، ومن شأن تفجر هذا الوعي في عقل الإنسان أن يدفعه نحو تغيير الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، ومن هنا كان اكتشاف كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، والذي كان تكرارا لاكتشاف فيثاغورس في القرن السادس قبل الميلادي، يمثل خطورة تهدد النسق العقائدي القائم وذلك بإحلال نسق عقائدي جديد، ولذلك صودر كتاب كوبرنيكوس ومن قبل دمرت الدار التي كان يجتمع فيها فيثاغورس مع تلاميذه. أما أنا فأظن أن مكمن الخطورة هو في النقلة العقلية التي أحدثها اكتشاف كوبرنيكوس والتي بسببها تم وصف اكتشافه بالثورة. ويطلق لفظ «ثورة كوبرنيكوس» مجازا علي أي اكتشاف في أي مجال من مجالات المعرفة يمس العقل ويحدث فيه تغييرا، وجوهر هذه النقلة العقلية هو الانتقال من التفكير المطلق إلي التفكير النسبي. وحيث إن هذا التفكير النسبي يدور علي الأمور الأرضية، أي تلك الأمور التي تمس الإنسان في دورانه مع الأرض، فإن التفكير النسبي يدور بالضرورة علي الأمور النسبية، ومن هنا أطلق مراد وهبة تعريفه غير المسبوق للعلمانية بأنها «التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق»، استنادا إلي أن هذا التعريف كامن في ثورة كوبرنيكوس والتي تخص العقل في المقام الأول. وإذا أخذنا بتعريف مراد وهبة العلمانية الذي يحصره في مجال العقل، أي في مجال الإدراك والفهم والتأويل، فإن الإشكالية الأولي التي تواجهنا هي علي النحو التالي: نشأة وانتشار مفهوم العلمانية في أوروبا علي النحو الذي عرفها به وهبة، أي باعتبارها مسألة عقلية، وغيابها شبه التام في العالم العربي والإسلامي. والسؤال الآن: كيف نرفع هذا التناقض؟ الجواب: بتوليد ظاهرة ابن رشد، ذلك أن ابن رشد يعتبر ظاهرة فريدة في تاريخ الفكر الإنساني، ففي تلك الظاهرة تجتمع العناصر الأساسية المكونة للبنة الأولي للديمقراطية باعتبارها حكم الشعب بالشعب، كيف؟. في فلسفة ابن رشد يجتمع الإصلاح الديني متمثلا في دعوته إلي الاعتراف بمشروعية التفلسف في النص الديني باستخدام البرهان العقلي عوضا عن القياس الشرعي في علم الكلام، بيد أن هذه المحاولة الجسور التي سطرها في مؤلفه الشهير «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» قد أجهضت تماما بفضل السلطة الدينية المتمثلة في علماء الكلام من أتباع الغزالي من جهة، ومؤازرة السلطة السياسية من جهة أخري، وبذلك فشل الإصلاح الديني كما تنطوي ظاهرة ابن رشد أيضا علي مبدأ العلمانية الناشئ عن مفهوم ابن رشد للتأويل بما ينطوي عليه من تعددية ونسبية مع الاستناد إلي البرهان، مما تترتب عليه من ضرورة إلغاء مبدأ الإجماع الذي يدعو إليه علماء الكلام. إذن إجهاض محاولة ابن رشد تعني بالضرورة القضاء المبكر علي الديمقراطية في مهدها، ومن ثم حرمان الشعب من قدرته علي ممارستها من خلال اكتشاف قدرة الجماهير علي إعمال العقل الفاقد، أو بالأدق التفلسف، الذي هو شرط ضروري لممارسة الديمقراطية. وبناء عليه تصبح دعوة منتدي ابن رشد لضرورة إحياء فلسفة ابن رشد دعوة ضرورية وواجبة من أجل تأسيس الديمقراطية في مصر، وذلك من خلال إعادة بناء دعائمها في سياق الزمن الراهن وفي إطار ظاهرة الكوكبية، مرورا بعصر التنوير الذي أفرزته الفلسفة الرشدية في أوروبا في القرن الثامن عشر. الإشكالية الثانية وتكمن في المكون الثاني لرباعية الديمقراطية وهو العقد الاجتماعي، وتتمثل هذه الإشكالية في التناقض الناتج عن إجهاض محاولة ابن رشد لتأسيس الإصلاح الديني والعلمانية في العالم الإسلامي من جهة، ويبني العالم الغربي المتمثل في أوروبا لفكر ابن رشد وتأسيس الإصلاح الديني والعلمانية من جهة أخري، الإشكالية إذن هي في أن ابن رشد حي في الغرب وميت في الشرق. وعندما استكمل الغرب مسار فكر ابن رشد، أنتج نظرية العقد الاجتماعي التي بمقتضاها تم تأسيس مجتمع محكوم بالعلمانية الناشئة عن حركة الإصلاح الديني، ثم تابع هذا المجتمع المسار نحو حركة التنوير التي من أسسها فكر ابن رشد الكامن في الثقافة العربية الإسلامية. بيد أن ثمة مفارقة من العسير تفسيرها وهي أنه رغم البتر التاريخي الذي حدث لفكر ابن رشد من الثقافة العربية الإسلامية، فإن ثمة محاولة لاستكمال مسار هذا الفكر قد تمت في مطلع القرن العشرين في مصر، أي بعد حوالي ثمانمائة عام من إجهاض فكر ابن رشد وإقصائه عن ثقافتنا، وهذه المحاولة قام بها الشيخ علي عبدالرازق عندما دعا إلي تأسيس نظرية العقد الاجتماعي في مجتمعات الخلافة الإسلامية، وهي دعوة إلي تأسيس العلمانية في نفس الوقت في تلك المجتمعات، وذلك عندما أصدر كتابه «الإسلام وأصول الحكم» (1925) حيث أشار فيه إلي جون لوك باعتباره المثال الفلسفي الذي يجب أن يتبناه العالم الإسلامي ويجعله أساس الحكم بديلا عن الخلافة. وكان من الطبيعي أن تجهض محاولة الشيخ علي عبدالرازق حيث إنها مقطوعة الجذور في الثقافة الإسلامية بعد أن تم إجهاض محاولة ابن رشد. الإشكالية الثالثة وهي تكمن في التنوير وتتمثل في المحاولة الشهيرة التي قام بها طه حسين لإحياء ثقافة التأويل التي أسسها ابن رشد وكان لها أعظم الأثر في الثقافة الأوروبية التي شملت ديكارت أبوالفلسفة الحديثة ومؤسس المنهج العلمي في التفكير الفلسفي الذي تبناه طه حسين في كتابه الشهير «في الشعر الجاهلي» (1926) وبعد إجهاض محاولته الأولي في ذلك الكتاب أعاد طه حسين المحاولة في كتابه المعنون «مستقبل الثقافة في مصر» (1936) لكي يؤسس لثقافة البحر المتوسط التي تنطوي علي رباعية الديمقراطية، بيد أن المسار نحو الرباعية كان قد تم بتره فلم تلق تلك المحاولة الثانية أي استجابة بعد إجهاض المحاولة الأولي. الإشكالية الرابعة وتتمثل في غياب الليبرالية فبعد توقف المسار، مسار فكر ابن رشد، فإنه من البدهي أن تتوقف المحاولات وأن تخلو الساحة العربية الإسلامية من أي أفكار ليبرالية علي النحو الذي جاء به جون ستيوارت مل، ومحوره حرية الفرد أساس المجتمع الرأسمالي، فإذا أردنا رفع التناقضات الكامنة في الإشكاليات الأربع سالفة الذكر فعلينا أن نبدأ من حيث توقف ابن رشد وذلك يستلزم أن نكون علي وعي بأننا نحيا في عصر ابن رشد أي في القرن الثاني عشر وليس في القرن الواحد والعشرين كما نتوهم، وعندما نكون علي قناعة بذلك علينا أن نأخذ معنا كلا من الشيخ علي عبدالرازق وطه حسين لكي نعمل معا في رحاب فكر ابن رشد من أجل تأسيس رباعية الديمقراطية. وبعد أن يتم كل ذلك يمكننا أن نؤسس دستورا جديدا يخلو من المادة الثانية، بيد أن تحقيق كل هذا يشترط أولا إلغاء المادة الثانية من الدستور حيث إنها تقف عائقا أمام عودتنا إلي زمن ابن رشد لأنها تكرس وهم أننا نحيا في القرن الواحد والعشرين ولكن بعقلية ما قبل ابن رشد، وهنا تكمن مفارقة المادة الثانية من الدستور.