فى سياق التعلم الايجابى الضرورى من دروس التاريخ، ومن منظور الاقتصاد السياسى، لا تخفى أهمية القراءة النقدية للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى شهدتها مصر فى عهد جمال عبد الناصر. والأمر أن مصر- وإن فى بيئة داخلية واقليمية وعالمية مختلفة جذريا- لا تزال تواجه مشكلات عملية واشكاليات نظرية فى حسم خياراتها الاستراتيجية البديلة. أقصد خيارات مواجهة التحديات التى ترتبت على التحولات الداخلية العميقة، وما ارتبط بها من تحولات فى السياسة الخارجية، فى مصر تحت قيادة زعيم ثورة 23 يوليو 1952. وأركز فى هذا المقال على تحليل مقدمات وتداعيات قرار تأميم قناة السويس، مع التركيز على أسبابه ونتائجه. وأسجل، أولا، أن قرار تأميم قناة السويس جاء فى سياق نضال الشعب المصرى من أجل الاستقلال الوطنى، وتعزيز دور الدولة فى اقتصاد السوق الموجه لحفز التنمية والتصنيع منذ ثورة 23 يوليو، وسعى الدولة للاستحواذ على عوائد المرور فى قناة السويس لتعبئة الموارد اللازمة لتمويل بناء السد العالى ومشروعات التنمية والتصنيع. وكان العدوان الثلاثى على مصر سندا سياسيا وقانونيا لقرارات التمصير والتأميم واجراءات فرض الحراسة على الشركات المساهمة للدول المعتدية العاملة فى مصر، ونقطة انطلاق توسع قطاع الأعمال المملوك للدولة وزيادة استثماراته. وفى قراءة هذا التاريخ، الذى لا تزال أشباحه تلقى بظلالها حتى الآن، ينبغى الاجابة عن السؤال الجوهرى: هل لا تزال الخيارات الاستراتيجية، التى كشف عنها وقاد إليها قرار تأميم قناة السويس، ممكنة أو منشودة فى ظل التغيرات الجذرية والمعطيات الراهنة فى البيئة العالمية والمحلية والاقليمية؟ أم أن ذلك القرار كان ابن زمانه، وأن الأهداف التى دفعت إليه تغير جذريا الخيارات الاستراتيجية التى بمقدورها حماية ما هو ثابت ومتغير من أهداف ووسائل الأمن القومى المصرى فى بيئة مختلفة جذريا؟. وثانيا، أن الاجابة عن السؤالين المطروحين أعلاه تفرض ضرورة التحليل المقارن لانجازات واخفاقات دور الدولة وقطاع الأعمال العام فى تنمية وتصنيع مصر المستقلة، بالمقارنة مع دور الرأسمالية المصرية فى تصنيع وتنمية مصر المستعمرة. أقصد التحليل الموضوعى النقدى لدور رأسمالية الدولة فى التنمية والتصنيع، ولقرارات التأميم التى امتدت لاحقا لتشمل نخبة رواد الصناعة الوطنية الحديثة قبل ثورة يوليو 1952. وأقصد التحليل الموضوعى النقدى لتجربة التنمية المستقلة فى مصر الناصرية، وخاصة ما أتاحته العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد السوفيتى السابق وغيره من البلدان الاشتراكية من فرص، بالمقارنة مع ما قد يكون من ضياع للفرص أو خلق للقيود جراء تقليص العلاقات الاقتصادية مع السوق الرأسمالى العالمى وتأميم وتقييد رأس المال الأجنبى العامل فى مصر. وثالثا، أن جمال عبد الناصر فى توضيحه لحق مصر القانونى فى تأميم قناة السويس- كما وثق محمد حسنين هيكل فى كتابه «ملفات السويس»- أوضح وبحق: إن حق كل دولة مستقلة فى تأميم أى من مواردها الوطنية أو مرافقها العامة حق مسلم به عالميا. وأن قانون تأميم شركة قناة السويس قد نص على دفع تعويض مناسب وعادل الى حملة الاسهم، وجسد بذلك ممارسة صحيحة للسيادة الوطنية وتوافق مع مبادئ القانون الدولى والاصول التى تتبعها الدول. وأضاف أنه لا يمكن المنازعة فى أن الحكومة المصرية تستطيع فى أى وقت أن تسحب الامتياز الذى منحته لشركة قناة السويس اذا ما اقتضت ذلك المصالح الحيوية للبلاد، وبشرط منح تعويض عادل. كما أكد أن شركة القناة المؤممة شركة مصرية خاضعة للقوانين وللسلطان القضائى فى مصر، وأنه لم يكن لها أبداً أىُ شأن بضمان حرية الملاحة فى القناة أو الدفاع عن أمنها، ولم تتمتع أبدا بالأهلية أو السلطة بالاضطلاع بمسئولية من هذا القبيل. وإن مسئولية من هذا القبيل تقع على عاتق مصر، باعتبارها الدولة ذات السيادة، التى تمر عبر أراضيها القناة، وهو وضع منصوص عليه بوضوح فى اتفاقية عام 1888. ورابعا، أن عبد الناصر قد أصدر قراره- بتأميم شركة قناة السويس وسحب حق الامتياز، الذى منحته مصر لها- فى سياق الصراع من أجل انتزاع استقلال مصر السياسى والاقتصادى، وفى ظروف الصدام مع الغرب. وأما السبب المباشر لتأميم القناة فقد كان قرار البنك الدولى والولايات المتحدةوبريطانيا بسحب عروض تمويل مشروع السد العالى، بذريعة رفض مصر شروط تقديم هذا التمويل. وكانت هذه الشروط انتقاصا جسيما لسيادة مصر، لكن السبب الأهم كان رفض السياسة الخارجية لمصر، وخاصة بعد ابرامها صفقة الأسلحة التشيكية، واعترافها بجمهورية الصين الشعبية، ومقاومتها لإقامة أحلاف غربية بالمنطقة. وكان الهدف الاقتصادى المصرى لتأميم القناة هو توفير التمويل اللازم لتنفيذ مشروع السد العالى، وجاءت هذه القرارات ردا على العدوان الثلاثى وتجميد الأرصدة الاسترلينية المصرية فى لندن، وغير ذلك من العقوبات الاقتصادية التى اتخذتها بريطانيا وفرنسا ضد مصر ردا على تأميم القناة. وخامسا، أن تأميم قناة السويس تم مقابل تعويض مناسب وعادل لحملة الأسهم، كما بينت دراسات دقيقة موثقة. والأهم، أن العائد الاقتصادى المباشر لتأميم شركة قناة السويس كان كبيرا بالقياس الى حصة مصر فى أرباح الشركة قبل التأميم وقياسا الى الموارد المتاحة آنذاك لمصر. وتكفى الإشارة لأن حصة مصر فى عام 1955 لم تتجاوز نحو 7% فقط من إجمالى دخل شركة قناة السويس، ولم تتعد قيمة التعويضات العادلة للمساهمين، التى قدرت على أساس القيمة السوقية للأسهم، بنحو 28 مليونا وثلاثمائة ألف جنيه، أى نحو 67 % من دخل شركة قناة السويس فى عام 1958. وهكذا، كان دخل الدولة من تأميم قناة السويس اضافة للشركات الأجنبية المهيمنة على الاقتصاد المصرى ركيزة انطلاق مشروعات التصنيع فى إطار برنامج السنوات الخمس للصناعة. ويبقى سؤال وينبغى الإجابة عنه فى تناول لاحق: ما مدى اقتراب السياسات الداخلية والخارجية فى مصر الناصرية من تحقيق غايات التقدم الشامل بما تتضمنه من تعظيم للكفاءة الاقتصادية وتحقيق للعدالة الاجتماعية وتعزيز للأمن القومى وإعلاء لدولة المواطنة؟ لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم