لا تتوقف الولاياتالمتحدة وغرب أوروبا عن إسداء الوعظ للعالم عن قداسة حرية الأسواق وحركة الأفراد والديمقراطية وحرية التعبير للأقليات العرقية والدينية والجنسية كأساسيات للرأسمالية والحكم الرشيد. ولهذا فإن القرار الأمريكى بفرض التعريفة الجمركية على الصين يأتى فى تناقض مع قلب فلسفة الرأسمالية. فلقد فرضت الولاياتالمتحدة ضرائب جمركية على الصين مقدارها 10% على مجمل صادرات تصل إلى 200 مليار دولار؛ فردت الصين بفرض ضرائب على بضائع أمريكية يصل حجمها إلى 60 مليار دولار. فلقد تحولت الصين إلى هاجس أمريكي، وستكون بؤرة العزم فيما هو قادم من صراعات، وستكون حجر الزاوية فيما ستتبناه الولاياتالمتحدة من تحالفات جديدة وما ستهمله مما (عدى وفات) وصار بلا قيمة. وأصل المسألة ان الصادرات الصينية إلى الولاياتالمتحدة تجاوزت كل التوقعات فى العقود الماضية، فصارت الصين الدائن الأعظم للولايات المتحدة. وليس هنا محل استعراض جوانب اختلال الميزان التجارى بين الصين وأمريكا فهو حقيقة مؤكدة. ولكن المهم أن تلك ليست المرة الأولى فى التاريخ التى يختل فيها الميزان التجارى بين الصين والغرب. ففى القرن التاسع العشر كانت الصين فى أطراف العالم ضخمة واسعة مترامية الاطراف مهولة السكان، لا تتوقع أن هناك من يجرؤ على اقتحام أراضيها الشاسعة وشعبها الموحد الفريد. كان بحر الصينالجنوبى قد شهد التسلل الأوروبي؛ فظهرت ( شركة الهندالشرقية ) الانجليزية فى الهند، وشهد وجود شبيهاتها الهولنديه والإسبانية والفرنسية فى جنوبالهندالصينية تتوسع من فيتنام شمالا. اقتربت شركات التجارة وآليات النهب للصين ولكن نتيجة غير متوقعة فاجأت الجميع. فلقد اختل الميزان التجارى لصالح الصين بسبب إنتاجها (الشاي) الذى كان نباتاً ومشروباً صينياً اكتسح العالم وانجلترا على وجه الخصوص. وعليه فلقد تدفقت الأموال من الخزانة البريطانية إلى الصين. وهكذا فلقد مثل اختلال الميزان التجارى معضلة جاء الرد عليها بتشجيع تجارة الأفيون للصين. شجعت بريطانيا زراعة الأفيون فى منطقة البنجال شمال شرق الهند، وتركت تفاصيل الأمر لشركة الهندالشرقية ترتب مناقصات البيع للتجار والمهربين. ارتفعت مبيعات الأفيون للصين بشكل ضخم وبسرعة كبيرة صحبتها نتيجة اجتماعية مأساوية هى ملايين المدمنين للأفيون مما دفع الامبراطور الصينى إلى إرسال رسالة رقيقة إلى الملكة فيكتوريا يعرض عليها الأمر ومشكلاته، ويبرر اتخاذ الحكومة الصينية قرارا بمصادرة وحرق الأفيون الموجود على الأراضى الصينية. اعتبرت انجلترا ذاك القرار عدواناً على حرية التجارة، وتقليصاً للأسواق. ونشأ على إثر هذا ما عٌرِفَ باسم (حروب الأفيون) التى تقدمت فيها الأساطيل البريطانية المسلحة، فسحقت سفن الجونج الصينية الضعيفة. انتهت الحرب الاولى بإجبار الصين على تعويض بريطانيا عن تكاليف الحرب وعن خسائر تجار الأفيون، وكان من ضمن هذه التنازلات تقديم موطئ قدم لبريطانيا تمارس من خلاله التجارة وكان من تلك جزيرة (هونج كونج ) ثم أُجبِرَت الصين على تقنين تجارة الأفيون داخل الصين ذاتها. وكانت النتائج مأساوية؛ فلقد تقطعت أوصالها ودخلت على أثرها فى دوامة مفرغة من الانهيارات الاجتماعية والتدخلات الاجنبية. الرئيس الصينى (شي) يحمل معه إرثاً طويلاً لبلاد شهدت أحداثاً ثوريةً جساما كان منها (الزحف الطويل) للجيش الأحمر الصينى المكون بالأساس من الفلاحين، وظهور ( ماو تسى تونج ) كقائد شيوعى ووطنى عظيم لأمة كبيرة بعد عمل خارق هو زحف استمر 10000كم من جنوب البلاد لشمالها. حوصرت الدولة الجديدة ولم تعترف بها الولاياتالمتحدة لثلاثين عاما، واعترفت كبديل بحكومة تايوان، الجزيرة الصغيرة التى كانت عضواً دائماً فى مجلس الامن. اتخذ الحزب الشيوعى الصينى قراراتٍ عملاقةً أثّرت فى حياة مليار إنسان، وهى التجربة الأعظم فى الخروج من دائرة التخلف والتبعية فى التاريخ الحديث. ويخطئ من يظن أن النهوض الصينى العملاق هو مجرد ناتج لانفتاح البلاد على الغرب وكأنما كان ممكناً للصين أن تقتحم العالم بصناعاتها، بينما شعبها أسير للإدمان وللقيم الإقطاعية والتعصب الدينى والأمية. فالصين فى ظل (ماو) أرست الأساس لكل ما يدور اليوم. فلقد اختارت تبنى سياسات التوسع فى الصناعة الثقيلة وصناعات المواد الأولية والصناعات التحويلية والعسكرية فى إجراءات اشتراكية ثورية واقتصاد مخطط وخطط خمسية صارمة فى التصنيع والزراعة والثقافة. لم تتغير طبيعة المجتمع الصينى مصادفة أو بالتواكل أو بالدهاء، فلقد تغير المجتمع الصينى وعادات أفراده ومفاهيمهم وعلاقتهم الأسرية إبّان الثورة الثقافية التى كانت حدثاً زلزل الصين من أقصاها إلى أقصاها تحت شعار رفض السمات القديمة للماضى (التفكير القديم العادات القديمة السلوك القديم) ورغم ما اعترى تلك الأحداث من عنف والتى استمرت لعشر سنوات من 1966، إلا أن أمر الثورة الثقافية سيظل مثيراً للجدل لعقود. فهل كان من الممكن أن يظهر الإنسان الصينى الجديد المتعلم القادر على تفهم العصر ومكوناته دون هذا المخاض؟ سؤال لا نملك الإجابة عليه. ولكن مشروع تبسيط رموز الكتابة الصينية قد يكون إشارة إلى الفكر الفريد للقيادة الصينية وثوريتها الحقيقية. فلقد تبنى الثوار الجدد رموزاً جديدةً للكتابة الصينية القديمة، حتى تمحو أمية الشعب بعيداً عن الرموز المعقدة للكتابة الصينية الكلاسيكية. تبنت الصين التى عرفت العلم والإحصاء والحساب السكانى مشروع الطفل الواحد فى عهد (دينح هسياو بنج) الذى سيطر على الانفجار السكاني، وهو ذات القائد الذى صفى بحسم وبلا هوادة أحداث (الميدان السماوي) فى بكين. هذه الأحداث العملاقة لم تتم بتبنى الدولة فقط مشاريع الحوكمة أو بالإصلاحات الديمقراطية، إنما من خلال ثورة عميقة أداتها هى الحزب العقائدى القائد فى الصين يتتبع مشروعه وشعاراته منذ مؤتمره الأول عام 1921، وهى السعى للخروج من دائرة التخلف والتبعية، وهو ما تتبناه الصين وتعض عليه بالنواجذ بمزيج مذهل من الإصرار والمرونة. لمزيد من مقالات ◀ د. حازم الرفاعى