ما هى حكاية المشروع المشترك الذى ارتآه جورج مكلين وكان موضع رسائل بيننا نحن الثلاثة: هو وبول كيرتس وصاحب هذا المقال؟ الحكاية بدايتها رسالة تسلمتها من مكلين فى 26 يونيو 1996، أى إثر انتهاء المؤتمر الفلسفى الدولى الذى انعقد فى القاهرة تحت عنوان: ابن رشد والتنوير, فى عام 1994 وكان من بين المشاركين بول كيرتس وجورج مكلين. ونص الرسالة على النحو الآتي: من دواعى غبطتى التقائى بك فى القاهرة فى 13/ 6/1996 وأظن أن الفكرة المحورية التى سادت محاوراتنا كانت تدور حول البحث عن أفضل الطرق فى تناول مسألة الدين فى الحياة الاجتماعية. والشائع أن عقلانية التنوير التى حددت معنى الحداثة كانت فى جوهرها تتدفق بالعلمانية التى هى ببساطة فصل الكنيسة عن الدولة والتى تستلزم البحث عن وسيلة تمتنع فيها العلمانية عن التوغل فى المجال الديني. وهو أمر كان مرفوضاً من العالم الاسلامى ولا يزال لأن أسس الحياة لديه دينية بما فى ذلك الثقافات. ومع ذلك فإن ما يتصوره العالم الاسلامى قد حدث ما يماثله فى باريس فى القرن الثالث عشر حيث كانت المواجهة بين تيارين: تيار مسيحى متأثر بأفكار الفيلسوف اليونانى الوثنى أفلاطون والتى تمثَلها الفيلسوف المسيحى أوغسطين، وتيار آخر متأثر بالفيلسوف الاسلامى ابن رشد. التيار الأول اسمه الأفلاطونية المسيحية والتيار الثانى اسمه الرشدية اللاتينية. وكان المطلوب فى حينها إحداث توافق بين التيارين لأن انتصار أحد التيارين كان يعنى حدوث كارثة للحضارة الغربية. وكانت هذه هى المهمة التى أداها الفيلسوف المسيحى توما الأكوينى عندما أثار مسألة المغزى المسيحى للحياة وجعلها محوراً للحوار من أجل إحداث تكامل بين التيارين بديلاً عن إحداث الافتراق بينهما. إن أسلوب التوافق هو المطلوب أيضاً فى القرن الحادى والعشرين مثلما كان مطلوباً فى القرن الثالث عشر، وهو مطلوب الآن بسبب التخوف من أن يكون هذا الزمان هو زمان نهاية العصر الحديث. لا أحد يريد أن يحيا بلا عقل أو بلا منتجات العصور الحديثة. ومع ذلك فثمة مَنْ يرى أن العقلانية الحديثة يعتريها الغموض إلى الحد الذى يقال عنها إنها مدمرة. ومن هنا يمكن القول إن الطريق المبدع الذى يمكن السير فيه يكمن فى الارتقاء بمستوى الحوار إلى مجاوزة التيار الذى يفصل بين الله والانسان، والذى من شأنه أن يدفع الانسان إلى اختيار لا لزوم له لأنه مدمر: إما الله وإما الانسان. وإذا حدثت هذه المجاوزة فإن النتيجة اللازمة هى التوافق مع الدين وهو فى حالة كشف عما ينطوى عليه من نزعة انسانية وهى النزعة التى تناضل أنت وكيرتس من أجلها. حقاً، إنها تكون نتيجة مبدعة وتفتح الطريق أمام السلام. ثم يستطرد مكلين قائلاً: لماذا لا نلتقى معا ونسير فى هذا الطريق ونصدر منفستو ينص فيه كل بند على عدم الهجوم على الدين مع البحث عن التوافق وعن الأسس التى يقوم عليها التقدم الاجتماعي. ثم تحدثنا سوياً بعد ذلك فى قضايا ليس فى الإمكان تجاهلها ومن بينها قضية المعتقد أو ما يطلق عليه باليونانية الدوجما، إذ هى ما تميز هوية الجماعة، ومن ثم فإن اقصاءها يعنى توقف الانسان عن الوعى بهويته. الحرية للانسان على نحو ما نفهمها أنت وأنا هى دوجما غير قابلة لأن تكون موضع حوار أو تكون نسبية. ولا يمكن أن ينكرها أى منا لأن انكارها يعنى امتناعنا عن أن نكون أصحاب نزعة انسانية أو دينية أو بهما معاً. والمغزى أنه إذا كان كل شىء نسبيا بلا مطلق نلتزم به فالغابة ومعها العنف تكون فى انتظارنا. وثمة قضية أخرى خاصة بشكل اللقاء الذى يضمنا ويضم معنا آخرين. وهنا ارتأى مكلين أن الشكل الذى ينبغى أن يكون عليه هذا اللقاء هو سمينار وهو مااعتاد عليه فى وشنطن عندما يكون المطلوب التفكير العميق من أجل البحث عن عقل مبدع لرؤية وضع قادم وليس البحث عن حلول جاهزة فى سياق دوجما جاهزة، سواء كانت علمانية أو دينية، ومع ملاحظة أن مكلين ليس من أنصار تناول لفظ دوجما لأنه لفظ مماثل للفظ سلطة إذ إن كلا منهما يساء فهمه بدعوى أنه يحرض على الفوضي. وقد اتفقت معه على عقد هذا السمينار حتى نكون مبدعين فيما ننتهى إليه من أفكار. وحركة التاريخ تشجعنا على ابداع الحلول اللازمة ولكن بشرط أن يكون المشاركون فى السمينار على درجة عالية من الروح الأكاديمية، وأن يصدر عنه «منفستو انسانى جديد» معبراً عن روح القرن الحادى والعشرين. وقد سبق أن تحدث مكلين مع كيرتس فى هذا الشأن فى أثناء عقد مؤتمر الجمعية الفلسفية الأمريكية، ثم أخبرنى بتفاصيل هذا الحديث فى رسالته بتاريخ 17/ 2/ 1997. وفجأة حدث تغير مفاجئ، إذ أصيب كيرتس بأزمة مزدوجة: عمليات جراحية فى القلب مع اقصائه من إدارة مركز البحث الحر. أما مكلين فقد واجه توقفا فيما كان ينشده من تجديد الخطاب الدينى بسبب تجميد التوجهات الاصلاحية الخاصة بمؤتمر الفاتيكان الثانى ( 1962 1965). وبعد ذلك غادر كل منهما هذه الحياة الدنيا. وها أنذا أكتب سلسلة من المقالات تحت عنوان العلمانية والدين على أمل أن تكون مقدمة لكتابة المنفستو المنشود. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة