إثر انقضاء ثلاث سنوات بعد عقد المؤتمر الفلسفى الدولى عن «ابن رشد والتنوير» بالقاهرة فى عام 1994 حدث تطور جدير بالتنويه فى سياق لقاءات ورسائل متبادلة بين جورج مكلين وبول كيرتس وصاحب هذا المقال. مكلين أستاذ الفلسفة واللاهوت بالجامعة الكاثوليكية بواشنطن ورئيس مجلس البحث فى القيم والفلسفة وسكرتير عام الجمعية الدولية للميتافيزيقا. وكيرتس أستاذ الفلسفة بجامعة نيويورك بافلو ورئيس مركز البحث الحر ببافلو. أما أنا فأستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس ورئيس الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير. وكان الجامع بيننا مشروع مشترك تقدم به مكلين فى عام 1997 وطلب منا المشاركة فى بلورته إذا ارتضيناه، وقد كان. وأنا هنا أنشر اللقاءات والرسائل المتبادلة. فى عام 1985 التقيت مكلين فى نيروبى بكينيا بدعوة منه للمشاركة فى ندوة من تنظيمه عنوانها التراث الثقافى الافريقى والحياة المعاصرة. وفى صياغة أخرى يمكن القول إن عنوانها الهوية الثقافية والمعاصرة. . وفى عام 1987 التقيت مكلين فى مؤتمر فلسفى دولى بكوردوبا بالأرجنتين وكان عنوانه الانسان والطبيعة والتاريخ. وقد رُسم على غلاف نشرة المؤتمر طائر الكونكور وهو يهم بالطيران على نحو ما هو وارد فى الحضارة القديمة لأمريكا اللاتينية. والطائر فى هذه الحركة يرمز إلى الاتجاه نحو وضع قادم يكون من شأنه تغيير وضع قائم. ولزوم التغيير هنا معناه أن الوضع القائم يواجه أزمة، وليس من مخرج لهذه الأزمة سوى استدعاء وضع قادم ليكون بديلا عن هذا الوضع القائم المأزوم. وهنا ثمة سؤالان لابد من إثارتهما: ما هو هذا الوضع القادم ؟ وهل هو متجه نحو التراث أم نحو الثورة العلمية والتكنولوجية؟ وكان جواب مكلين فى بحثه الذى ألقاه فى ذلك المؤتمر أن التراث يحتوى على حكمة وهو لهذا يلهمنا، ومن ثم فالمعركة الحقيقية ليست فى الليبرالية التى تتبنى قوانين السوق فتسحق الشخصية، إنما فى استلهام التراث فى مواجهة الظروف الراهنة والمتغيرة بحيث يصبح التراث مولدا للحرية وليس قاهرا لها. ومن ثم يمكن القول إن التراث ينطوى على إمكانات جديدة تفتح آفاقا جديدة ليس فقط إزاء أنفسنا، ولكن أيضا إزاء آفاق الآخرين فينشأ الحوار الناقد ويتولد التحرر. أما أنا فقد كان عنوان بحثى الديالكتيك والمطلق الأصولي. الديالكتيك ينطوى على تناقض والتناقض قائم فى المطلق بمعنى أنه قائم فى اللحظة التى يتصور فيها الإنسان أنه قد اقتنص المطلق. ثم تساءلت: هل يمكن رفع هذا التناقض مع المحافظة على مطلقية المطلق؟ ممكن إذا تطابق المطلق مع النسبي، أى إذا تجسد المطلق فى الواقع النسبي. والأصولية تزعم إمكان هذا التجسيد بسبب أنها تلتزم حرفية النص الدينى وتقف ضد العلمانية و الحداثة حتى يمكن تجسيد العقيدة الدينية حرفيا فيتطابق المطلق مع النسبي، والحقيقة الأبدية مع التعبير الزمنى عن هذه الحقيقة. وهكذا تكون الحقيقة اللاهوتية فى الماضى هى حقيقة اليوم وغدا وبذلك تختزل الأصولية أبعاد الزمان الثلاثة فى بُعد واحد هو الماضى ثم ترقى بالماضي، إلى مستوى المطلق. وهذا هو المطلق الأصولي. وفى فبراير 1989 انتخبت عضوا فى الأكاديمية الانسانية التى تأسست فى عام 1983 بمناسبة مرور خمسمائة عام على محاكم التفتيش، ومرور ثلاثمائة وخمسين عاما على محاكمة جاليليو، وتضم هذه الأكاديمية ستين عضوا من كبار الفلاسفة والعلماء ويتولى ادارتها بول كيرتس. ويشترط فى العضو المنتخب أن يكون ملتزما بمبادئ البحث الحر المتميز بالابداع مع الانحياز إلى العدالة الاجتماعية. وفى أغسطس من عام 1992 دعانى كيرتس للمشاركة فى مؤتمر دولى عقد فى بروكسل ببلجيكا. وكانت الحرب قد اندلعت فى 2 أغسطس من ذلك العام عندما تم غزو الرئيس صدام حسين للكويت، وحينها أبدى الفلاسفة المشاركون خوفا من حدوث قطيعة بين العالم الغربى والعالم الاسلامي. وعندما سئلت عن كيفية منع هذه القطيعة كان جوابي: إنه الفيلسوف الإسلامى العظيم ابن رشد ثم استرسلت فى تفصيل الجواب وعندئذ تمت الموافقة على عقد مؤتمر فلسفى دولى فلسفى فى القاهرة فى عام 1994 تحت عنوان ابن رشد والتنوير، وقد كان، و كان كيرتس من بين المشاركين وقد ألقى بحثا عنوانه الحرية والعقلانية والتنوير جاء فيه أن ابن رشد قد أسهم فى تطوير التنوير فى القرنين السابع عشر والثامن عشر فى أوروبا، بل يمكن القول إنه من الممهدين للرؤية العلمية الحديثة. فقد تطورت الفلسفة الطبيعية الأرسطية، على يد ابن رشد، إلى بحث علمى عقلانى منظم عن الكون. ومن المؤلم أن يذبل تأثير ابن رشد فى العالم الاسلامى. وكان جورج مكلين من المشاركين فى ذلك المؤتمر. وبعد سنتين من انتهاء المؤتمر طالب مكلين بإجراء حوار حول مشروع مشترك نشترك فى بلورته نحن الثلاثة: مكلين وكيرتس وصاحب هذا المقال. فما هو هذا المشروع؟ لمزيد من مقالات د. مراد وهبة