ثمة تناقض بين ابن رشد والرشدية. فابن رشد من أسرة رفيعة المقام اسمها بنو رشد. من أبرزها الإمام ابن رشد الجد. كان من أكبر فقهاء الأندلس، وكان ابنه قاضياً أيضاً، و كذلك كان الحفيد ابن رشد. وبعد ربع قرن من وفاة ابن رشد فى عام 1198 لم ينتشر فكره فى قرطبة إنما انتشر فى أوروبا، إذ أصبحت فلسفته موضع حوار أدى فى نهايته إلى تأسيس «الرشدية اللاتينية» التى كانت هى السبب فى نشأة الاصلاح الدينى فى القرن السادس عشر وفى شيوع التنوير فى القرن الثامن عشر. ومن هنا نشأ التناقض الحاد بين ابن رشد والرشدية فى العالم الاسلامى فى حين أن هذا التناقض لم يكن وارداً فى العالم الأوروبى. وقد أطلقتٌ على هذا التناقض الحاد «مفارقة ابن رشد» ، ومعناها أن ابن رشد ميت فى الشرق حى فى الغرب. وفى عام 1999 انعقدت ندوة دولية فى ليون بفرنسا تحت عنوان «ابن رشد والرشدية». وفى الجلسة الافتتاحية قال المستشرق الفرنسى روجيه أرنالديز أنه عندما نحتفل بمفكر مات منذ قرون فثمة سؤال لابد أن يثار: ما هى فاعليته الآن فى مواجهة مشكلات العصر ؟ وهذا سؤال يمكن أن يكون موضع دهشة لأن ابن رشد لم يكن له أتباع فى العالم الاسلامى، ولأن تأثيره كان محصوراً فى الفلاسفة المسيحيين. ومن ثم لا يكون من حقنا التساؤل عما يفيده المسلمون المعاصرون من فكر ابن رشد إذ الجواب متروك لهم. صحيح أن الماضى يكشف للمؤرخ أن ابن رشد كان شاهداً على الحياة السياسية والثقافية فى اسبانيا الاسلامية. إلا أن هذه الشهادة لا علاقة لها بالتساؤل عن مدى فاعلية ابن رشد. ومع ذلك فإن القول بأن فيلسوفاً عظيماً يكون معاصراً على الدوام هو قول مردود إلى أن تاريخ الفلسفة مغاير لتاريخ العلم لأن الفكر الفلسفى يثير مسائل هى حاضرة على الدوام فى حين أن الفكر العلمى يثير مسائل فى عصر تكون مغايرة لعصر سابق. فنظرية أن الذرة لا تنقسم ظلت كذلك حتى نهاية القرن التاسع عشر، ومع بداية القرن العشرين كانت الذرة فى طريقها إلى الانقسام. وفى القرن السابع عشر قال نيوتن بأن كلا من الزمان و المكان مطلق وفى القرن العشرين قال أينشتين بأن كلا منهما نسبى. أما فى تاريخ الفكر الفلسفى فإن مسألة الله مثارة منذ أفلاطون حتى الآن. وكذلك مسألة العلاقة بين الفلسفة والدين. ومن هنا يكون الفارق بين فيلسوف وآخر هو فى كيفية انتقاء المسألة المحورية التى تدور حولها مسائل أخرى. وفى هذا السياق نثير السؤال الآتى: ما هى المسألة المحورية التى أثارها ابن رشد؟ هى مسألة العلاقة بين الفلسفة والدين. والذى دفعه إلى تناول هذه المسألة على أنها المسألة المحورية هو ما فعله الغزالى فى القرن الحادى عشر باتهامه فلاسفة المسلمين بالكفر والالحاد بسبب انصياعهم لفلاسفة اليونان الوثنيين. وبسبب ذلك الاتهام توارت الفلسفة وتوارى معها الانفتاح على أية ثقافة مغايرة للثقافة الاسلامية، وتوارت معها مشروعية التفلسف دينياً. ومن هنا ألف ابن رشد كتابه المعنون «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». ومغزى هذا العنوان ضرورة الدعوة إلى إحداث اتصال بين الشريعة والحكمة أو بالأدق بين الدين والفلسفة إلى الحد الذى انتهيت إليه من تعريفى للفلسفة فى سياق هذا الاتصال بأنها الشريعة مؤولة. ومغزى هذا التعريف أن التأويل هو الوسيط بين الفلسفة والشريعة ولكن بشرط ألا يكون هذا التأويل من صنف التأويل الذى يمارسه علماء الكلام مثل الأشعرية والمعتزلة والصوفية لأنه، فى رأى ابن رشد، تأويل فاسد، وفساده يكمن فى الدعوة إلى انفصال الفلسفة عن الدين بهدف القضاء عليها. ومن هنا يقول ابن رشد بأن المتكلمين هم علة البدع، والبدع هى علة انفصال الفلسفة عن الشريعة، بل علة العداوة بينهما. ومن هنا أيضا يمكن القول بأن ابن رشد لم يكتف بتأليف ذلك الكتاب بل أضاف إليهما كتابين أحدهما عنوانه «مناهج الأدلة فى عقائد الملة وتعريف ما وقع فيها بحسب التأويل من الشبه المزيفة والبدع المضلة» يكرر فيه ما قاله فى الكتاب الأول من أن الأشعرية والمعتزلة والصوفية هم أصحاب التأويل الفاسد. أما الكتاب الآخر فعنوانه «تهافت التهافت» وهو مكرس للرد على كتاب «تهافت الفلاسفة» للغزالى. والسؤال بعد ذلك: مَنْ الذى انتصر فى نهاية المطاف؟ انتصر المتكلمون فى العالم الاسلامى وانتصر ابن رشد فى العالم المسيحى. ومن هنا لم يعد هذا التناقض الحاد بين المتكلمين وابن رشد مقصوراً على القرن الثانى عشر بل صار ممتداً حتى القرن الحادى والعشرين. ومن هنا مغزى إثارة «مفارقة ابن رشد» فى ندوة ليون، إذ وردت فى أحد البحوث وعنوانه «مستقبل أعمال ابن رشد فى العالم العربى». وفيه أُثير ما كنت قد أثرته فى سؤالين: هل الدول النامية فى حاجة إلى التنوير؟ وهل فلسفة ابن رشد قادرة على توليد التنوير فى هذه الدول؟ وقيل عن هذين السؤالين إن لهما أهمية رئيسية فى ضوء انتشار الأصوليات الدينية بارهابها فى هذا الزمان. والمغزى أنه إذا أردنا مواجهة الارهاب بالفكر فيلزم مواجهته بتأسيس تيار مناقض لتيار الأصوليات ولن يكون هذا التيار غير التيار العلمانى. ومن غير تأسيس هذا التيار فالارهاب لن يتوقف مهما أنفقنا ما طاب لنا من مليارات الدولارات على شراء الأسلحة لقتل الارهابيين. فالقتل هنا قتل للبدن وليس قتلاً للعقل. البدن يفنى ويبقى العقل الارهابى مولداً للارهابيين. لمزيد من مقالات مراد وهبة;