ما الذى يدفع بجماعة بشرية تعيش فى الألفية الثالثة، أن تحيا بأجسادها فقط فى القرن الحادى والعشرين، بينما عقولها تنتمى للقرون الغابرة؟! وما الذى يجعل من أمة تمتلك تراكما حضاريا يتسم بالتعدد والتنوع، ثم تصاب بسعار الاختزال، والإقصاء لجذور فكرية وحضارية مختلفة، والإبقاء على جذر بعينه، وما هذا السعى المستمر لضرب الهوية الوطنية المصرية الجامعة، عبر إشعال النعرات الطائفية والعصبية؟. ربما يكون الاستسلام لروح المؤامرة ضربا من المؤامرة ذاتها، وربما يكون استبعادها أيضا محاولة لتسطيح كل شيء، وقراءته بمعزل عن السياقات السياسية والثقافية، والتحولات الدراماتيكية الحادثة فى العالم. وربما يكون منصفا للغاية أن نقول إنه إذا كانت ثمة مؤامرة فإن ثمة قابلية للانصياع والامتثال لغاياتها لدى البعض، فالاستعمار الجديد فى تحالفه مع جماعات الإسلام السياسى لم تكن لمخططاته أن تجد حضورا فى متن التحولات العربية دون أن تمر عبر بوابة حراس التخلف فى عالمنا العربى المنكوب، ولم تكن الهزيمة الفكرية تحدث دون أن تحدث هزيمة روحية أيضا، إن ما صاغه بريجينسكى حول تفكيك النظام الإقليمى العربي، وما طرحه برنارد لويس من مخطط إستراتيجى لتفتيت الوطن العربي، وإعادة تقسيم المنطقة، تحت مظلة الشرق الأوسط الجديد، اعتمادا على المناطق الأكثر هشاشة فى الكتلة الصلبة، لم يكن يحدث دون أن تكون هناك جماعات قابلة للاستخدام السياسي، فتجعل من وجودها المادى والمعنوى اقتطاعا من المتن الجامع للأمم والشعوب المختلفة، وبذلك تصبح الطائفية والقبلية والعرقية معاول للهدم والحصار وحراسة الهزيمة أيضا. ومن هنا يبدأ الخطر، أى من حراسة الهزيمة واعتبارها معنى للوجود ذاته، من التعامل معها باعتبارها واقعة لا محالة، من العيش الجسدى فى زمن، والانتماء العقلى لزمن آخر، من التمييز الدينى أو الطائفى أو العرقي، من مغالبة المحبة وتقديم الكراهية، من الانحياز للقبح فى مواجهة الجمال، من التكريس للتخلف، وإقصاء قيم التقدم. تبدأ حراسة الهزيمة حقا من أسلفة المجتمع، وجعله معنى موازيا للماضي، من تمجيد التراث وتقديسه على الدوام بوصفه ظلا ممتدا للحقيقة، لا يخطئ ولا يأتيه الشك، ومن الاستنامة إلى اليقين والارتماء فى أحضان الجاهز، بدءا من تصورات الجماعة الشعبية ووصولا إلى التصورات التراثية حول تقديس الماضي، وجعله بوصلة للحاضر، وبما يعنى أن ثمة عطبا فى العقل العام حين يلجأ بمحض إرادته إلى مصادرة الراهن لمصلحة السابق، وإقصاء المستقبل لمصلحة الماضي. وتتسع المفارقة أكثر حين تبدو الشعوب على المسار الاجتماعى تحيا فى ظل قشرة من الحداثة المصطنعة، بينما يحيا جوهرها فى ركام من الخرافة والميتافيزيقا، يتعايش معه المجموع، ويصبح التدين الشعبى محركا للسلوك اليومي، فترى جرائم يومية للسرقة والنهب وإهدار المال العام، مصحوبة برشوة قد تكون زيارة لأداء المناسك الدينية مثلا، وبما يعنى أن الواقع الحياتى لدينا قد انفتح على جملة من الارتباكات اللانهائية، والتناقضات العبثية أيضا. وينتقل العالم العربى من حراسة الهزيمة إلى براح التقدم حين ينحاز لقيم التفكير، والعقل النقدي، حين يسائل الأشياء ويراجعها، وحين يتعامل مع الواقع بوصفه ابنا للتعدد والاختلاف، والنسبي، وليس ابنا للتصورات الأحادية واليقينية. إن فض التحالف بين قوى الرجعية وقوى الهيمنة على العالم مهم للغاية، لكن الأكثر أهمية حقا أن نصنع سياقا يحث على إعمال العقل والتفكير النقدي، وليس سياقا يطارد فيه التكفير التفكير، ويصبح الثابت حجة على المتغير، واليقينى محركا للنسبي!. إن تجديد الذهنية العربية، يعنى أن تحدث قطيعة معرفية مع الماضي، أن نبتعد عن صيغ التلفيق بين العلم والخرافة، فنمارس تورية سخيفة تجعلنا نرى أن التراث والحداثة يؤسسان معا للنهضة الفكرية والتقنية لأى أمة، متجاهلين أن التراث نفسه يرى أن الماضى أحق بالاتباع، وبالسير على منواله، لكننا نتجاهل هذه المفارقة الساخرة والمؤسفة أيضا ونكمل دورنا الهزلى فى لعبة تجديد التراث!، وبما يعنى أن ثمة حراسة متجددة للهزيمة تتم مادامت التصورات الماضوية والأفكار القديمة حاكمة للعقل العام فى عالمنا العربي. وبعد.. فى مناخات من العتامة الفكرية، تصبح نقطة النور غاية، ويصبح الضوء المنتظر فى آخر النفق علامة على المعنى الحقيقي، حين ينحاز إلى أنبل ما فينا، ويؤسس فى تمثلاته الخلاقة لكل ما هو حر وإنسانى ونبيل وطليعى وتقدمي، من هنا نقاوم الخطر، نقاوم حراسة الهزيمة التى تحملها أمة ترى فى القرون الأولى أملا وملاذا دائمين، ونرعى الأمل بوصفه بوصلة للحياة والعالم والواقع والأشياء. لمزيد من مقالات د. يسرى عبدالله