يبقى استحضار الآخر فى الخطاب السياسى لنظم الحكم سلوكا شائعا لدى الكثير من الدول والمجتمعات، يتم توظيفه أحياناً كآلية للفت الأنظار عن سياسات داخلية تثير الرفض فى الظروف العادية، ولكن يمكن قبولها فى حالة وجود تهديد خارجي. وأحياناً أخرى كآلية لتحقيق التماسك الداخلى أو التكامل القومى فى بعض المجتمعات التى تعانى انقسامات جذرية، عرقيا ولغويا أو دينيا وطائفيا. لكن وفى المقابل، يبقى حضور هذه الآلية فى المجتمعات العربية أمرا بالغ الخصوصية إلى درجة تجعل منه ملمحاً رئيسياً من ملامح الثقافة السياسية العربية، بدافع من أمرين أساسيين : أولهما يتعلق بالامتداد الأفقى/ المكانى لعمل تلك الآلية، إذ لا تقتصر على خطابات النظم الحاكمة، بل تطول الفضاء السياسى كله، فهى حاضرة فى جل منتديات التحليل السياسى والإستراتيجى النخبوى التى تشهد سجالا يوميا حول الشأن العام. وكذلك فى المقاهى والتجمعات والمنتديات الشعبية التى تشهد الجدل ذاته، وهكذا فإنها لا تتوقف عند كونها آلية سياسية، بل تصير ملمحاً ثقافياً. وثانيهما يتعلق بامتدادها الرأسي/ الزمانى، إذ لا تقتصر على حالات التأزم الطارئة، إبان المشكلات السياسية الكبرى والمفاجئة بل تطول المزاج النفسى الدائم لدى قطاع عريض من الناس، وحيال العديد من القضايا، إلى درجة تحيلها لدى العموم إلى منهج كامل للنظر يحمل عنوان "نظرية المؤامرة". والحقيقة أن مقولة المؤامرة لا تستحق وصف النظرية بالمعنى العلمى الدقيق، فالنظرية بناء معرفى ينطلق من مقدمات ضرورية كى يصل إلى نتائج منطقية، عبر طرق استدلالية معتبرة. والمفترض أن يكون لها قدرة تفسيرية عامة تنصب على جميع الظواهر المتجانسة، والأخطر من ذلك أن تبقى قابلة للتكذيب حال ثبت عجزها عن تفسير نماذج جديدة مشابهة، أو تراجعت قدرتها على تفسير الظواهر القائمة، فما يقبل التكذيب بحسب فيلسوف العلم الأشهر كارل بوبر، هو نفسه الذى يقبل التصديق، ومن ثم تتوافر له مشروعية الانتماء حقا إلى ما يمكن تسميته "العلم" أو الحصول قطعا على وصف "النظرية". غير أن مقولة المؤامرة وإن افتقدت لجل المقومات التى تصنع منها (نظرية معرفية) فإنها تستند، فى المقابل، إلى قرائن تاريخية عديدة وتناقضات واقعية موحية لا يمكن إهمالها، الأمر الذى يجعل منها مقولة إشكالية تستوجب التحليل والتفسير، وهو ما نقوم به فى هذا السياق انطلاقا من موقف أخلاقى ومعرفى لا ينكر أن ثمة مؤامرات وقعت بالفعل فى التاريخ، وإلا فما هى التسمية الممكن إطلاقها على العدوان الثلاثى ضد مصر عام 1956م. ولكنه فى المقابل لا يقبل باختصار حركة التاريخ كله فى مؤامرة كبرى، متعاميا عن سياقاتها الحضارية، وإلهاماتها الثقافية، ومحفزاتها الإستراتيجية، فجميعها مكونات تصبغ حركة التاريخ بالعقلانية والموضوعية، مثلما تنال من مشروعية تفسيراتها التآمرية.. فإلى تلك الوقفة التأملية للفكرة الإشكالية الأكثر رواجا فى الثقافة السياسية العربية..
السياقات التاريخية للتحيزات الغربية طالما اتسمت العلاقة بين العالم الغربى المسيحى، والعالم العربى الإسلامى بطابع إشكالي، فهما من وجوه كثيرة حضارتان شقيقتان اعتمدتا، ولو بنسب مختلفة، على التراث المشترك للوحى الإبراهيمى وعلى الفلسفة والعلوم اليونانيتين، وتغذتا على تراث الشرق الأدنى وأساطيره القديمة. ولكنهما، رغم ذلك، ظلا يتحاربان معظم فترات تاريخهما المشترك، ولا يزالان حتى اليوم الأكثر تواجها، حتى احتلا موقع الصدارة فى قلب الخريطة السوداوية ل (صدام الحضارات). هذا التناقض الظاهرى بين حقيقة القرابة ونزعة الصدام يحتاج إلى تفسير، نلتمسه فى كون الصدام وليد شعور عميق بالغيرة وليس بالإختلاف. والغيرة، بالمعنى الحضارى، هى نتاج لتشابه جوهرى على مستويين: أولهما دينى حيث يطرح الإسلام نفسه، كالمسيحية، على الإنسانية كلها، ويمتلك نزوعات رسالية لتبشير العالم، رغم الاختلاف الواضح بينهما فى درجة التنزيه. وثانيهما تاريخى، فالعالمان العربى والغربى هما الطرفان اللذان تبادلا الهيمنة العالمية المطلقة فى الحقب المختلفة، خصوصا على منطقة البحر المتوسط، سواء كان ذلك من خلال تشكيلات سياسية لا تزال حية كالبرتغال، وإسبانيا، وهولندا، وفرنسا وانجلترا والولاياتالمتحدة، من جانب، وتركيا وإيران، والعراق، وسوريا ومصر من جانب آخر. أو عبر تكوينات تاريخية عتيقة ومتحللة، كالإمبراطورية المقدونية والرومانية المقدسة، ثم الإمبراطورية البيزنطية، من جانب وقرطاجنة وفارس ثم الخلافتين الأموية، والعباسية، والإمبراطوريتين المغولية والعثمانية من جانب آخر، حتى ولو كانت الهيمنات القديمة، قد تمت تحت مسميات مختلفة شكلا عن الثنائيتين الضديتين المحفزتين للصدام اليوم: شرق غرب، وإسلام مسيحية. وفى هذا السياق لابد من الوقوف عند خبرات ثلاث سلبية حاسمة فى تعقيد العلاقة بين العالمين، وإذكاء فكرة المؤامرة الغربية: الأولى تتمثل الهجمة الإستعمارية على العالم العربى ما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وقد زاد من وطأة الشعور العربى بالعدوانية الغربية خصوصية الموقع الجغرافي، فوجود المنطقة العربية وسط القارات القديمة جعلها منطقة حيوية لجميع القوى فى كل العصور. هذا إلى جانب عدم مناعتها الدفاعية مما ترتب عليه أن تكون على الدوام عرضة للغزو، وبؤرة للأطماع ما جعل سكانها أسرى موقفين لا ثالث لهما: فإما أن يكونوا أقوياء يتخذون موقف الدفاع الهجومي. وإما أن يكونوا ضعفاء، أسرى الضغوط الخارجية، وبالتالى لم يعرفوا وضع الاستقرار المطمئن دون هيمنة على الآخر، أو خضوع له، وهو الوضع الأمثل للتفاعل الثقافى والحضاري، الذى حرمتنا منه التجربة الاستعمارية وما مثلته من تهديد للوجود العربي، وتعال دائم على عذابات الإنسان العربى. والثانية تتمثل فى الهجمة الصهيونية على الأرض العربية، إذ مثلت إسرائيل ورطة حقيقية للعرب، اغتصبت أحد أوطانهم واستنزفت الكثير من مواردهم المادية وكبريائهم الحضارى، ودفعت بهم إلى صراع دموى كان محتما خوضه فى محاولة لاستعادة الكبرياء والأرض معاً، حتى وأن كلفتهم تلك المحاولة خوض ذلك الصراع الاجتماعى الممتد منذ قرن، والذى تبدو فيه إسرائيل مولودا تاريخيا لقيطا وأنانيا تدفعه أنانيته إلى العدوانية والى القمع المستمر للإنسان الفلسطينى وكأنه الإنسان اليهودى فى جيتو أوروبى، يعيد التاريخ روايته مصورة أمام عينيه فى دراما إنسانية أكثر مأساوية يزيد من تعقيدها هاجس الأمن، وعقدة الخوف التى غالباً ما تصاحب كل كائن لقيط لا يجد لنفسه صكوك نسب إلى الزمن، فتصبح القوة، مع المبالغة فى إظهارها، هى الوثيقة الرئيسية، وصك النسب الوحيد، الذى يحول هذا الكائن إلى ملاكم فى حلبة يلاكم دائماً خوفاً من الهزيمة / العدم فى كل جولة رغم انتصاره فى الجولة التى سبقتها لأنه لا يمكن أن يثق ليس فقط فى خصمه ولكن أيضاً فى الحكم/ التاريخ، ولا حتى فى قواعد اللعب التى تجعله محدوداً بزمن لابد أن ينقضي. والثالثة تتمثل فى تنامى النزعة التدخلية الأمريكية بموازاة تنامى دورها العالمى، حيث شرعت الولاياتالمتحدة فى ممارسة أدوار ضاغطة انطلاقا من مبادئ وأفكار متوالية: من نزعة تطهرية فى القرن السابع عشر أسست للدولة فى القرن الثامن عشر، إلى هيمنة على القارة الأمريكية فى الشمال تحت دعاوى المصير المبين أو القدر الواضح، وإلى هيمنة فى الجنوب عبر مبدأ مونرو فى القرن التاسع عشر، ثم الصعود إلى العالمية مع بداية القرن العشرين بإلهام من المثالية الويلسونية، وإلى موقع القطب العالمى منتصف القرن نفسه على قاعدة زعامة العالم الحر فى مواجهة الستار الحديدى السوفيتى، قبل أن تنفرد بالهيمنة على مقادير العالم منذ نحو ربع القرن، مع الانهيار السوفيتى، ونهاية الحرب الباردة، وذلك تحت لافتة النظام العالمى الجديد، ثم العولمة. ولأن العقل الأمريكى عقل ذرائعى، فهو يعوََل فقط على القوة العسكرية وقدرتها على إنتاج تواريخ جديدة ونظم مغايرة، بنفس قدرتها على تحقيق الانتصارات الحربية. وهنا تبدت ضغوطها أكثر وضوحا فى مواجهة العالم العربى، عندما حاولت مرارا إعادة هيكلته بما يسمح لها بالهيمنة على مقاديره، وما يسمح لإسرائيل باحتلال الموقع المركزى فى جل تفاعلاته. وعلى الرغم من أن تلك الخبرات الثلاث تتناثر زمنيا فى نحو القرنين، إلا إنها ترتبط معا وتحضر دوما فى اللاشعور الثقافى للجماعة العربية على وجه العموم، وإن انعكست على مستويات ثلاثة جد مختلفة فى درجة الشعور بها، ينتمى كل منها إلى أحد التيارات الثلاثة الأساسية فى الثقافة العربية، تلك التى صاغتها جهود المفكرين العرب المنشغلين بتجديد الفكر العربى منذ القرن التاسع عشر، وهم بصدد البحث عن مسارات للنهوض العربى فى الحقبة المعاصرة، انطلاقا إما من المرجعية الغربية وتجربة الحداثة.. وأما من المرجعية "السلفية" التى تدعى، وحدها، حق تمثيل التراث الإسلامى أو التجربة التاريخية للذات العربية.. أو من نقطة بينهما، تعكس موقفا نقديا يسعى إلى التوفيق بين الأصالة والحداثة يتمثل فى المرجعية التوفيقية فى الفكر العربي. وهكذا نصبح أمام ثلاثة تصورات لمسارات التفاعل مع العالم الغربى، الأكثر حضوراً فى وعينا العربي، والأكثر بروزا على ساحة المنافسة الاستراتيجية التى تخلق الاحتكاكات وترتب الانتصارات والإنكسارات، كما تثير العقد والهواجس، ومنها بالقطع عقدة "المؤامرة الغربية". تيار المعاصرة والغرب الملائكى على المستوى الأول يتجلى الغرب مثاليا وملهما لدى التيار الحداثوى أو العلموى المفرط فى تقديس (المعاصرة). ومن ثم فهو يقبل به ملهماً لممارساتنا الكلية ويعطيه حق الرقابة على سلوكياتنا السياسية وينزع إلى تقويم واقعنا السياسى بمعاييره وقيمة التى ينظر إليها هذا التيار نظرة تبجيلية، تكاد تكون تقديسية، تعمل خارج إطار الشروط التاريخية المتعينة. يعتقد هذا التيار فى الصورة النمطية الرائجة لفلسفة التنوير الغربى دونما فحص لتناقضات الغرب الواقعية مع صورته النمطية، التى تتمتع لدى هذا التيار بقدسية كبيرة تنصرف ليس فقط إلى الثقافة الغربية وحدها، بل إلى المثقفين الذين شيدوها أيضاً. ولا شك فى أن التنوير الأوروبي، فى سياق تاريخه، وبشروطه المتعينة، وإنجازاته الباهرة له جاذبيته التى لا يمكن إنكارها، وإنجازاته التى لا يمكن إنكارها، ولكنها الجاذبية غير المطلقة، والإنجازات غير المقدسة، فالتيار الغربى العام التنويرى/ العقلانى يستبطن فى تجاويفه الداخلية عقدا وعنصرية بل وأحيانا نزعات أسطورية. أما المثقف الغربى داعية الحرية والعقلانية، الثائر على قيود الإستبداد، فينطوى أحياناً على مفارقات تبدو مذهلة. فمثلا (فولتير) أحد أنبياء الحرية ورواد التنوير، كما تقدمه استعارتنا النمطية للثقافة الغربية، وتردد دوماً مقولته الشهيرة والرائجة عن استعداده لدفع حياته ثمناً لحرية مخالفه فى إبداء رأيه، هو نفسه صاحب كتاب (الملك الشمس) الذى يسكب فيه ولعه وتقديره لملك فرنسا لويس الرابع عشر أحد أبرز نماذج الاستبداد الأوروبى فى العصر الحديث وصاحب المقولة الأكثر شهرة "أنا الدولة". وما من شك فى أن هذا الوصف لدى فولتير يذكرنا بمديح الشاعر العربى الكبير أبى الطيب المتنبى لرجل الدولة سيف الدولة الحمداني. لدى هذا التيار يصبح الغرب، أو يجب أن يكون، آلية تصحيح للأوضاع المختلة.. وهى آلية موجودة أحيانا بيننا، ومؤثرة دوما فينا، فهى حاضرة فى الذهن قابعة فى الخيال محسوب حسابها، ومدروسة احتمالات ردود فعلها من قبل القائم بالفعل ذاته وقبل أن يفعله. كما يتم غالبا خطابها لتقوم بتقديم نصائحها أو فرز ضغوطها غير المباشرة، أو على الأقل مكاشفتها لتكون حاضرة وشاهدة ولو باللوم أو العتاب، مثلما يتصور استدعاؤها أحيانا للتصحيح على نحو مباشر لدى بعض أطراف هذا التيار، على منوال احتلال العراق الذى استحال حلا أمريكيا سحريا لتحقيق الديمقراطية كطريق للخلاص من المحنة وإن جاءت فى ركاب الاحتلال الذى يبدو كالموت الرحيم خلاصا من ألم الاستبداد. وعلى أساس تلك الرؤية الثقافية يصوغ التيار الحداثوى رؤية للتاريخ يمكن وصفها ب "الواقعية البراجماتية" وهى رؤية تهدر القيم الثقافية والحس التاريخى لصالح الواقع الماثل، إذ تفرط فى تسطيح العقل إلى حد اعتباره مجرد أداة عملية انتقائية، ومن ثم تحيله من مركب للوعى الشامل إلى إطار للمصلحة المباشرة، ثم تصوغ سقفا محدودا لحساباته "العقلانية" إزاء الواقع المتغير بالضرورة يكاد يتحدد فى امتداده الأفقى بالموقف الواحد منفصلا عما قبله أو بعده مهملا لما هو إستراتيجى من خيارات، وما هو بنائى من مكونات. كما يتحدد فى امتداده الرأسى بالمصلحة المباشرة / المادية دون الرمزية / المعنوية على نحو يستفز الرؤى الأخرى، التى تجسد أصالة الأمة، إلى الاشتباك معه فتبدو هذه الرؤية دوما وكأنها فى حالة حركة ضد التيار، لأنها تفصل بين الجغرافيا والتاريخ، وبين السياسة والثقافة، ما يؤدى إلى تشوه تكاملية الحركة التاريخية، ويفقد الوعى التاريخى أصالته. هذا التيار الحداثوى، وبإلهام من تلك الرؤية / الواقعية البراجماتية، إنما يثق فى الغرب عميقاً وبشكل يتعالى على التاريخ ومن ثم فهو ينفى عنه أى شبهة للتحيز ضدنا. وفى عرفه يبدو خطاب المؤامرة مفتقدا لشروط ومتطلبات النظرية العلمية وأهمها القدرة على التفسير والتنبؤ بظواهر العالم السياسي، بل هو بالأحرى منتج لذهنية مغلقة تستحضر الأوهام ومن ثم تستحق الرثاء بقدر ما تثير السخرية من تصورها للعالم الذى لا يقبل إدراكه الموضوعى بتلك التقسيمات النمطية بين "عرب" و"غرب" لأن الغرب "الثقافي" ليس موحدا سياسيا، بل ينضوى على دول وطنية وكتل قومية لها مصالحها السياسية وصراعاتها الاستراتيجية. وكذلك العرب أنفسهم ومن ثم فلا معنى أصلاً لمثل هذه الصياغات (الشمولية) من قبيل (العرب)، و(الغرب). وفى اعتقادنا أن هذا التيار إنما يسرف فى التعالى على فكرة رائجة فى ثقافتنا السياسية إلى درجة تجعلها مستحقة للاهتمام والنقاش بغض النظر عن مدى صدقها المعرفى لأن الأفكار عند ما تترسخ ويتراكم تأثيرها لدرجة أن تصبح ملهمة أو حاكمة وعلى نحو يصوغ إطارا إدراكيا للواقع له جاذبيته لدى قطاع واسع نسبياً من الجماعة الإنسانية إنما تكون قد جاوزت حدود النظرية، ولو بمعيار التأثير، إلى مستوى أعمق يفرض التوقف عندها بغض النظر عن صحة أو خطأ تسميتها. وحتى ما يثيره بعض أطراف هذا التيار من احتجاج على هذا الفهم مفاده أن مناقشة الفكرة على أرضية الجدة والاهتمام إنما يكرس للاعتراف بها حتى تسود على كل المستويات ولتصبح فكرة المؤامرة هى الحاكمة لواقعنا، المبررة لكل ما فيه من أخطاء وخطايا على نحو ينزع عنا الشعور بالمسئولية عنها، فإنه، أى هذا الإحتجاج، إنما يحتوى على خلط واضح يتجاهل حقيقة أن الظواهر السائدة أو الراسخة ليست بحاجة إلى اعتراف نظرى بها يبقى من نافلة الأمور وتحصيل الحاصل قدر حاجتها إلى معالجات فكرية وسياسية تسعى إلى وضعها فى حجمها الطبيعى وسياقها المنطقي. كما أنه، أخيرا، يتعالى فكرياً وعملياً على الخبرات التاريخية التى ذكرناها سلفا، والتى تشى بنوع من (التحيز) الغربى ضد الوجود العربي، نازعاً، أى هذا التيار، إلى فرض تصور مثالى على مسيرة ثقافية وتجربة إنسانية تحكمها إلى درجة كبيرة أنانية بعض منتجيها وتدفعها أحياناً كثيرة إلى الخوض فى أخطاء وخطايا تجاه الآخرين تجد فيها مصلحتها أولاً، وتجد لديها القدرة على ارتكابها ثانياً.
التيار السلفى والغرب الشيطانى أما على المستوى الثانى فيتجلى الغرب شيطانا (متآمرا) لدى التيار الأكثر راديكالية فى الثقافه العربية سواء فى رافده القومى المتآكل، أو فى رافده الوطنى الزاعق المتصاعد فى غير بلد عربى ضمنها مصر، وكلاهما يبدى موقفا مناوئا للغرب، يتشكل فى أقنية النخبة الثقافية والسياسية ولكنه غير قادر على حفز جماهير واسعة. وإما لدى التيار السلفي/ التقليدى، الذى نركز عليها هنا، ليس فقط لأنه الأقدر على حفز جماهير واسعة تنتمى إليه وتدين له، ولكن لأنه يؤسس مفهومه عن المؤامرة فى قلب رؤية ثقافية متكاملة ترفض تجربة الحداثة الغربية وتسعى إلى تأسيس نظام حياة مغاير للنمط الذى صاغته، وإن تعاملت مع وسائلها وأدواتها نفعيا، بغرض استخدامها فى هدم مقومات الفلسفية والسياسية المؤسسة لها. ومن ثم يرفض هذا التيار أن يكون الغرب رقيباً على ممارساتنا السياسية أو حتى معياراً لها تقاس به صحتها. وعلى أساس هذه الرؤية الثقافية يصوغ التيار التقليدى رؤية للتاريخ يمكن وصفها ب "السلفية التاريخانية"، وهى رؤية تمعن فى الانحياز إلى البعد الماضى فى الزمن على حساب الحاضر والمستقبل معا، حتى تحيله إلى أسطورة متعالية على الواقع تماما، تملك قوة تفسير إيديولوجى حتى لأكثر الحوادث عملية ومباشرة بما يؤدى إلى تشوه الروح التكاملية للحركة التاريخية من جديد، ويفقد الوعى التاريخى مرونته. وهكذا يصوغ التيار التقليدى اعتقاده فى نظرية المؤامرة على قاعدة مفهومه عن "الهوية المغلقة"، فطالما كان الآخر غريبا على الذات بالضرورة، يتوجب التمايز الأبدى عنه، فإن كل محاولة يبذلها هذا الآخر للتفاعل مع الذات أو التأثير فيها لابد وأن تكون عملا معاديا، يهدف إلى إيذائها والنيل منها. وإذ لا يسعى إلى التأثير ولا يقدر عليه سوى الأقوياء، القابعين فى قلب مراكز التأثير والنفوذ العالمى، يصبح العالم الغربى المسيحى، الذى احتل موقعا مركزيا فى الجغرافيا السياسية والحضارية للعالم الحديث، هو المتآمر الأبدى. هذا التيار، حقيقة، يظل أسيرا لبنية الثقافة الإسلامية كما تمت صياغتها فى العصر الوسيط، خصوصا على صعيد غياب مفهوم (السببية)، والذى يؤدى غيابه إلى إلغاء العلاقة الديناميكية بين العلة والمعلول على صعيد جميع الظواهر الطبيعية والإنسانية. ويعنى هذا على وجه التبسيط أن حركة الطبيعة فى صيرورتها وأفعال الإنسان فى غايتها لا تخضع لقانون أو عله ذاتية، بل تحركها وتربط بين حركاتها عبر الزمن قوة مفارقة لها. ومن ثم يصعب اكتشاف منطق عمل هذه التفاعلات على نحو موضوعى من داخلها تأسيساً لعمومية القانون العلمي، بينما ينفتح الباب على رؤى ميتافيزيقية تنسب هذه التفاعلات إلى إرادة خارجية عنها، أو لقوى خارقة للعادة والطبيعة على السواء. والواقع أن غياب مفهوم السببية يرجع إلى أن المبدأ الأساسى فى علم الكلام الذى شكل لباب الثقافة العربية الإسلامية، خصوصا لدى الأشاعرة، إنما هو مفهوم (الجوهر الفرد) أو (الجزء الذى لا يتجزأ). وحسب هذا المفهوم فإن كل ما يقع من حوادث فى الزمان سواء كان من أحداث الطبيعة أو أفعال الإنسان إنما ينقسم إلى أجزاء متناهية من ناحية الامتداد أو الحركة. هذه الأجزاء، والتى تعد أصغر وحدة من وحدات الأجسام أو الأفعال تظل منفصلة عن بعضها تمام الانفصال. وقد ترتب على ذلك أن كل حوادث الطبيعة وأحداث المجتمع لا تفعل بطبيعة خاصة أو بقانون يشملها لكن الذى يربط بينها ويجعلها بتلك الصورة التى تبدو بها إنما هى إرادة مفارقة لها، تخلق هذه الأحداث وتلك الأفعال فى كل لحظة وهو ما يعرف ب (دليل الحدوث) الذى يمثل الوجه الآخر لمفهوم الجزء الذى لا يتجزأ، وهو الشئ الذى يترتب عليه أمران مهمان يتعلقان بمفهومى الطبيعة والعلية : الأمر الأول: هو قصر الغاية من علم الطبيعة فى الدلالة على معجزة الخالق بأكثر مما تتمثل فى إدراك العالم المخلوق. وبذلك أصبحت الطبيعة أقرب إلى أن تكون جزءً من مبحث الإلهيات أو الوجود منها إلى مبحث المعرفة، وهو الأمر الذى لا يجعل منها موضوعاً للعلم ولا مجالاً لفاعلية العقل البشرى والفهم الإنساني. والأمر الثانى: يتمثل فى ذبول مفهوم العلية، بفعل حلول ما يسميه الأشاعرة ب (عادة الإقتران) محل مفهوم السببية فى تفسير حوادث الطبيعة وأشكال الارتباط الظاهر بينها، فالعلاقة بين السبب والنتيجة ليس لها وجود فى الواقع بل ترجع إلى طبيعة الذهن البشرى ذاته الذى يربط بينهما، لمجرد تكرار حدوثهما معاً أو متتاليين على نحو ظاهرى لا فعلي. ولا شك أن غياب مفهوم السببية على هذا النحو قد أحدث فصاما بين الثقافة العربية وبين الروح العلمية، التى ترتكز على إنجازات ومناهج العلم المعاصر وتشيع فيمن يمارسها ثوابت كالدقة والتنظيم والتفكير السببى/ العقلانى، سواء كان هذا الفصام جسديا، من خلال انحسار التفكير العلمى أفقيا فى بؤر محدودة دون قدرة على الانتشار الواسع فى كل أرجاء الثقافة العربية. أو نفسيا بعجز هذا التفكير عن التغلغل رأسيا حتى فى وعى القائمين به، ليظل وعيهم خليطا من مكونات معرفية وعناصر أسطورية. وعلى الرغم من أن نظام التعليم الحالى فى جل البلدان العربية هو الابن الشرعى للثقافة العربية، إلا أنه أصبح الآلية الرئيسية (المعاصرة) لإعادة إنتاجها، فلا يزال يتأسس على نموذج العلم الصورى القائم على المنهج الاستنباطى الذى تتبلور درجة صدقه من حسن استخلاص نتائجه من مقدماته عبر عمليات استدلالية تقوم على فروض منطقية كامنة فى الوعى الذاتى للفرد القائم بعملية الاستدلال، وتتأثر من ثم بميوله ونزعاته وليس أبداً من مطابقته للواقع الاجتماعى خارج الذات كما فى العلوم الإنسانية أو للظواهر الطبيعية كما تتطلب العلوم التجريبية، لأن من سمات المنهج الاستنباطى أمرين أساسيين يجب التوقف عندهما: الأول: هو ترسيخ الذاتية باعتبارها مكمن الفرض الأول الذى تقوم عليه عملية الاستدلال، أى العمارة الفكرية التى تصبح آنذاك رهينة الوعى الفردى للإنسان وليس الحقيقة المجتمعية أو الطبيعية. والثانى: هو اليقين المنطقى الذى تقود إليه بالضرورة عملية الاستدلال حسب التفكير الصورى، فالمقدمات الصحيحة تؤدى إلى نتائج صحيحة بالضرورة، وكذلك المقدمات الخاطئة فهذه من جنس تلك وأثر من أثارها المنطقية. وهكذا تتوارى النظرة العلمية فى رؤية الطبيعة والإنسان بكل مقوماتها العقلانية والموضوعية، أمام تصاعد المقوم الميتافيزيقى فى بنية العقل العربي، ما يؤدى إلى صياغة مزاجً ثقافى عام يقبل باستحضار القوى المفارقه والغيبية، الخارجية أو الفوقية، القادرة دوما على الفعل والتأثير فى الواقعى والداخلى والعادي.. وإذا كانت هذه القوة المفارقة يتم تفسيرها على مستوى الوعى الشعبى تفسيراً سحرياً تماماً باتجاه خرافات الجان والعفاريت، فإنها تتحول على مستوى المتعلمين، حاملى الشهادات العلمية، وحائزى التدريبات العملية، ولكن المفتقدين إلى منهجية علمية صارمة، نحو تفسير (سياسي) لا خرافى، يستدعى (آخر) لابد وأن يكون مناوئا لأهداف الجماعة الإنسانية على نحو يبرر تاريخياً وواقعياً اتهامه بالعداء وهو الأمر الذى يجعل إسرائيل ثم الغرب يجسدان الصورة المثالية لهذا العدو المتآمر (الشيطان) ويفسح المجال إلى نمو عقدة المؤامرة لدى هذا التيار السلفى. وفى اللحظة التاريخية التى نعيشها وبكل إحباطاتها كان ممكناً لعقل الإسلام السياسى أن يربط عميقا بين الخبرات الثلاث الكبرى: الاستعمار الغربي، والهجمة الصهيونية، والتحيز الأمريكى، التى منحت لهذه العقدة عمقها التاريخى، وأن يستحضرها فى اللاشعور الثقافى لديه وكأنها عملية تاريخية واحدة، ممتدة وغير منفصلة، تتعالى على الترتيب التاريخى للعصور، وكذلك على الشروط الموضوعية للفعل والتأثير، وأن يعيد تفسيرها على نحو يعطيها دلالة خاصة شبه (سحرية)، فهذه التحيزات لا يمكن أن تكون معقولة أو مفهومة فى أى سياق سوى المؤامرة الكونية على الشرع الإسلامى من قبل عالم مسيحى لا ينسى قط كونه صليبيا، أى تبشيريا، حيث يجلس قادته ليحيكونها فى ظلمة الليل قبل أن يقوموا بتنفيذها فى نهار اليوم التالى بتأييد ساحق من شعوبهم ودعم من كنائسهم. وهكذا تجرى عملية تنميط شاملة، فيصير الغرب مفهوما كليا، يتم التعالى على تناقضاته الجغرافية والقومية، مثلما يتم تجاهل الحالة العلمانية المهيمنة عليه منذ قرون، وكذلك الصراعات التى لا تتوقف بين التيارات المادية والروحية، أو بين التيارات الإنسانية النقدية، ونقيضتها العنصرية ليتم حشر الجميع فى تلك الزاوية الضيقة كعالم (صليبى). كما يصير العالم العربى الإسلامى كلا مصمتا، يتم اختزال تنوعاته العرقية والجغرافية والثقافية الممتدة من الشرق الأقصى حتى الغرب الأوسط، فى العقيدة الدينية وحدها. وهكذا نصير وببساطة شديدة أمام عراك دينى واضح القسمات بين المسيحية والإسلام، لا هدف له لدى هذا التيار سوى اقتلاع الإسلام من جذوره العربية بأيدى الغرب القوى المتآمر. بل ويمعن هذا التيار، لدى أكثر تجلياته تطرفاً، فى تجاوز هذه الحسابات (التاريخية) إلى صياغة تناقض مبدئي/ وجودى مع الغرب الذى يلتبس لديه بصورة الشيطان التى أنتجتها المخيله الدينية للشر المحيط بقصة الخلق والوجود البشريين، ذلك الشيطان الذى يقضى العمر كله باذلاً الجهد كله فى محاولة إغواء الإنسان وجره إلى الهاوية. ومن ثم يتحول خطاب المؤامرة لدى هذا التيار ليس فقط إلى نظرية بل إلى نموذج تفسيرى كامل (منظور) للعالم السياسى يتأسس على تلك الضدية الكاملة التى يأخذها الغرب من العرب المسلمين والتى لا تقل فى عمقها عن ضدية الشيطان للموقف الإنسانى منذ بدء الخليقة وقبل أن يبدأ التاريخ. ومن ثم فهو يتبنى خطاباً دعائياً زاعقاً يستحضر المؤامرة ليس فقط فى منطلقاته الفكرية أو رؤاه السياسية، بل وأيضاً فى مواجهة أكثر الحوادث تلقائية ومباشرة. بل أنه يكاد يرى المؤامرة فى السلوك ونقيضه فى الوقت نفسه، فتأخر التدخل الدولى ضد النظام الليبى السابق فسر من قبل بعض أطراف هذا التيار باعتباره سلوكا تآمريا لا مباليا بأرواح الشعب الليبى، يأتى مخالفا لما يروجه الغرب حول احترامه لحقوق الإنسان، فيما لا يأبه بهذه الحقوق خارج إطاره هو. وفيما بعد وعندما حدث التدخل الغربى بقيادة فرنسية وبريطانية مشتركة، رأت هذه الأطراف نفسها فى هذا التدخل مؤامرة على وحدة الشعب الليبى، رغبة فى تقسيمه من جديد، والإستحواذ على ثروته النفطية، على نحو ما تم فى العراق. بل لا يتوقف حديث المؤامرة عند الغرب وحدة باعتباره الآخر الثقافي، أو إسرائيل باعتبارها الآخر الاستراتيجى بل يتمدد أحيانا إلى كل آخر داخلى على منوال الحكومات باعتبارها الآخر من وجهة نظر المعارضة، والعكس حتى وصل الأمر بكاتب سياسى شهير مثل عادل حسين "يرحمه الله" عرف بميوله الإسلامية رغم خلفيته اليسارية، إلى حد اعتبار كارثة زلزال 1992م الطبيعية مسئولية الحكومة المصرية!. التيار التوفيقى والغرب الإنسانى وأما على المستوى الثالث فيتجلى الغرب عاديا "متوازنا" لدى التيار التوفيقى، الحامل الموضوعى للفكر النهضوى العربي، ذلك الذى يعتبر بالحداثة، ويعتبر الحضارة السائدة إنجاز إنسانى كان قد أسهم فيه بنصيب، وإن كان الغرب هو صاحب الإسهام الأكبر فيه الآن. ورغم إدراكه لطبيعة الاختلاف بين كثير من إلهامات الثقافتين العربية والغربية على مستوى الرؤية الوجودية فإنه يؤمن بإمكانية بل وضرورة التوفيق بينهما على الأصعدة العملية كأنماط الإنتاج الاقتصادى والتنظيم الاجتماعى والممارسة السياسية. وهكذا يقبل هذا التيار بالغرب كأحد روافد إلهامنا الثقافى ولكنه لا يعتبره مصدر الإلهام الوحيد، ولا يمنحه حق الرقابة على ممارساتنا السياسية، إذ يعتبره منافسا (استراتيجيا) على امتلاك زمام الحضارة الإنسانية ما يدفع إلى عدم الثقة الكاملة بتصوراته عنا وممارساته نحونا، وإن لم يكن بالقطع (شيطانا تاريخيا) أو (عدوا وجوديا). ومن ثم يصوغ التيار التوفيقى/ النقدى للغرب صورة ثقافية متوازنة لا تنحرف به إلى الملائكية أو الشيطانية وإنما تحتفظ له بطبيعته الإنسانية "العادية". وعلى هذا تنتفى مقولة المؤامرة الحتمية والأبدية وتظهر مقولات من قبيل (التحيز الإستراتيجى) و(المراوغة السياسية) و (الكيل بمكيالين).. وهكذا. وعلى هذه الرؤية الثقافية، يؤسس التيار التوفيقى العربى رؤية للتاريخ تتمتع بالتوازن نفسه يمكن تسميتها ب (الواقعية التاريخية) وهى رؤية جدلية تركيبية تحتفظ بمكون (الواقعية) من التيار الأول (المعاصرة) دون (البراجماتية) حيث التخطيط الاستراتيجى انطلاقاً من مصالح وطنية أو قومية هو المكون الأساسى فى تصوره لبنية الصراع الاستراتيجى العالمي. بينما يحتفظ بالتاريخية من التيار الثانى (الأصالة) دون السلفية حيث إدراكه العميق للبيئة التاريخية التى يدور فيها هذا التخطيط الاستراتيجي، وتساؤلاته الجادة عن مفردات هذه البيئة، وعن طبيعة الإرادات الفاعلة فيها عبر المراحل التاريخية المتعاقبة لكون هذه المفردات، والإرادات هى الصانعة لما يمكن تسميته ب (الذكاء التاريخي) الذى يمنح قوة ما، أو جماعة ما، أو فكرة ما، أو حتى شخصاً ما دوراً مهماً فى لحظة تاريخية بعينها أكثر من سواها، ومن سواه، ومن ثم فهو يتجاوز نفعية التيار الأول، وسلفية التيار الثاني. وبينما يحظى مفهوم التخطيط الاستراتيجى بالوضوح فإن مفهوم الذكاء التاريخى يبقى محتاجاً للإيضاح. والواقع أن التاريخ الإنسانى ينقسم على صعيد هذا الذكاء إلى مرحلتين متمايزتين تفصل بينهما لحظة انبثاق الحداثة كمشروع تاريخى مركب وشامل أحدث تغيراً حاسماً فيما يتعلق بمفردات البيئة التاريخية، وفى طبيعة الإرادات الفاعلة فيها. فى المرحلة الأولى، الممتدة فى عصور طويلة سابقة لهذا المشروع، وعلى تباين هذه العصور فيما بينها، ساد ذكاء تاريخى دائرى حيث تمحورت مفردات البيئة التاريخية حول الفرد الحاكم، أو الأسرة / البيت الحاكم، أو الفكرة الملهمة الحاشدة وخاصة الدين، فكان لهذا الثلاثى بالأساس القدرة الفائقة على صناعة العالم السياسي. فهذا الحاكم يوحد القطرين فتنشأ وطنية مصر التاريخية، وذاك يبنى الأهرامات فتترسخ على أرضها حضارة شامخة لا تزال تكافح الزمن (التاريخ) ثم يأتى حاكم آخر تعوزه الرؤية، أو تنقصه الإرادة فإذا بمصر تحت أقدام قبائل من الرعاة الشرقيين (الهكسوس) وهكذا. وعلى صعيد الأسر أو البيوت الحاكمة نجد فارقاً هائلاً بين الأسرة الفرعونية الثامنة عشرة أسرة أحمس وتحتمس التى حررت مصر من الهكسوس وأعادت صياغة نظريات الأمن والاستراتيجية القديمة فى مصر، والتى لا يزال بعضها إلى الآن يتسم بالجدة والعمق، وبين الأسر من السادسة والعشرين وحتى الثلاثين حيث حكم النوبيون، والليبيون إن ضمناً، أو صراحة وسمعنا أسماء بعنخى، وششنق ملوكاً لمصر بعد تحتمس الثالث ورمسيس الثانى، قبل أن يتكرس احتلالها فارسياً ثم يونانياً مع سقوط الدولة الفرعونية الحديثة (العالمية). بل نجد هذا التباين داخل الأسرة الواحدة والممتدة فشتان مثلاً بين الأسرة الأموية فى بدايتها وفى نهايتها، والعصر العباسى الأولى حيث سطوة أبى العباس، وامتداد الرشيد، وانفتاح المأمون، ثم الثانى حيث لا شئ سوى الضعف والتمزق وسيطرة السلطة الرعوية شبة الإقطاعية على المجتمع العربى. وعلى صعيد الفكرة كانت هناك مقولة السمو العرقى، ملهمة للاسكندر فى تشكيل إمبراطوريته، كما كانت فكرة الدين قادرة على تعبئة أقوام وحشدها معاً، وأيضاً على تمزيق جماعة واحدة فرقا وشيعا، حيث تعذبت روما بالمسيحية ودخلت فى صدام مع كل مستعمراتها الوثنية قبل أن تؤمن بها. بينما اجتمعت قبائل العرب على ما كان بينها من ثارات حول الإسلام، وما هى إلا سنوات قلائل حتى تحول بدو العرب إلى فاتحين متحضرين أصحاب رسالة خرجوا لينشروها فى العالمين. هذا بالنسبة لمفردات البيئة التاريخية، أما طبيعة الإرادات الفاعلة فيها فقد اتسمت بالتغير الشديد على النحو الذى ذكرناه فى هذه المرحلة، فالفاعلون فى حالة تبدل سريع بين قوة وضعف لأنهم يفعلون باعتبارهم أفراداً، أو أسراً، أو حتى أفكاراً ولذا فهم ينزلون إرادتهم على التاريخ بشكل مباشر يؤثر سريعاً، وينتهى أثره سريعاً أيضاً دون قدرة على صياغة أبنية تاريخية يمارسون فعلهم من داخلها وتكون قادرة على الاحتفاظ بمقومات هذا الفعل إلى مدى طويل وعلى نحو مؤثر ، وبالأخص فعل التقدم إلا بقدر محدود وآجال قصيرة محكومة بالعمر البشري. أما المرحلة الثانية فقد سادها ذكاء تاريخى خطى اصطبغ بصبغة الحداثة التى دشنته، فالأخيرة بنية تاريخية شاملة اجتماعية – سياسية – اقتصادية، تأسست على مرحلة جديدة فى العلم الذى هو بدورة أكثر أبنية التاريخ استقراراً واستمراراً لأنه يقوم سواء فى تطوره أو فى تاثيرة على التراكم. ومن هنا فإن التراكم المعرفى لدى أمة يعنى بالضرورة – رغم تبدل الحكام وتعاقب الإيديولوجيات – تراكماً حضاريا. ومن ثم تحول التاريخ، بدءاً من هذه اللحظة، إلى أبنية متمايزة للتقدم حيناً، وللتخلف أحياناً أخرى حسب الموقف من العلم الذى باتت بالضرورة موقف من التاريخ. كما أصبحت الدولة القومية / الوطنية هى وحدة الفعل الأساسية، كما أصبح الاستقرار النسبى وليس التغير المستمر والانقلابى هو طبيعة الإرادات الفاعلة فى التاريخ. ومن نافلة القول أن العالم العربى الإسلامى الذى شهد ذروة تألقه فى العصر الوسيط، أى ضمن المرحلة التقليدية وذكاءها التاريخى الدائرى، قد بدأ رحلة تراجعه بمطلع العصر الحديث، ثم شهد ذرورة ضعفه مع تألق الحداثة الأوربية منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، حيث اتسم التقدم الأوربى بالاستمرارية ، والتخلف العربى بالاستمرارية ذاتها ولم تحدث تحولات تذكر ، ناهيك عن التحولات الانقلابية، فى بنية القوة العالمية منذ قرنين على الأقل اللهم إلا داخل تجاويف الغرب نفسه. ولأن من طبيعة الأشياء وسنن الكون أن الأقوى فى التاريخ هو الأقدر على صياغة قواعده الآمرة وقوانينه المنظمة فقد اطلع الغرب عبر بؤرة القائدة بمهمة وضع هذه القواعد على نحو مستمر ومتعاقب فى حقبة تاريخية أصبح العالم فيها أكثر اتصالاً على نحو مكن لهذه القواعد من أن تُرى وتُعاش، ومن ثم وجد العرب أنفسهم محكومين بقواعد من قبيل (الانتداب والوصاية والحماية). وبمؤسسات على منوال (عصبة الأمم، الأممالمتحدة). وخاضعين لاستراتيجيات من طراز (الحرب الباردة وتوازنات الرعب النووي، والنظام العالمى الجديد، والعولمة) وغيرها من القواعد التى لم يشاركوا أبداً فى صنعها وأحياناً لم يعلموا بها، حيث تحملت الجغرافيا العربية فى القرنين الماضيين بالذات أعباء عجز تاريخها احتلالاً وتمزقاً أمام الغرب وإسرائيل. وفى اللحظة التاريخية التى نعيشها وبكل إحباطاتها كان ممكناً للعقل العربي، وربما مشروعاً، أن يضطرب وأن يعيد تفسير تاريخه وبالذات الأحداث الثلاث الكبرى الاستعمار الغربي، والهجمة الصهيونية، والتحيز الأمريكى، عبر طرائق مختلفة تنتمى لتياراته الثقافية المتباينة: فهى من وجهة نظر التيار الأول (العلموى) لا تعدو تلك الخبرات أن تكون إعمالاً تلقائياً للتخطيط، ثم الصراع الاستراتيجى حول صياغة العالم بين طرفين لكل منهما دوره وغاياته فى التاريخ. ومن وجهة نظر التيار الثانى (السلفى) ليست تلك الخبرات سوى مفردات المؤامرة السياسية الكبرى والمستمرة من قبل الغرب على العالم العربى الإسلامى، منذ وعى بقيمة حضارته وشعر بمدى تفوق دينه، فلم يتوانى عن محاولة تدمير تلك الحضارة واقتلاع ذلك الدين. أما من وجهة نظر التيار الثالث (التوفيقى) فتتأبى تلك الخبرات على التفسيرات التبسيطية المؤكدة على المؤامرة الغربية أو النافية لها، وتدخل فى حيز الأحكام النسبية المعقدة. فالسعى الغربى إلى الهيمنة – وهو حقيقة تاريخية - لم يكن لينجح وهناك قوة كبرى فى العالم خارجه حتى وإن لم تكن فى الجغرافيا العربية. ومن ثم يربط تلك الخبرات بالسياق التاريخى المحيط بالصراع الإستراتيجى بين مناطق العالم المختلفة، لتصبح نتاجا تلقائياً لمفهوم الصراع العالمى بين طرفين لكل منهما دوره وغاياته فى التاريخ.. نعم يدرك هذا التيار كيف سلك الغرب طرقا واتخذ مواقفا تضر بعالمنا العربى الإسلامى، ولكنه يدرك أيضا كيف اتخذ الغرب العديد من المواقف المشابهة ضد عوالم أخرى فى أقصى الجنوب الإفريقى أو أقصى الشرق الآسيوى، بل أن هذا الغرب هو ما تقاتل مع نفسه، وانقسمت دوله إلى معسكرات دخلت فى حروب دينية شرسة حول المذاهب والطوائف، ثم حروب علمانية دارت بين الدول القومية حول المستعمرات قبل أن يكمل الغرب مسيرة حداثته، ويتجاوز ضيق أفقه الذى يشبه ما نعانى منه الآن. وعلى هذا فإن هذا التيار لا يمكنه الإفلات تماما من صوت عميق يضج بالشكوى من ممارسات الغرب المنحازة ضد مصالحنا، ولكنه لا يقبل بخطاب المؤامرة الزاعق، بل بوجود نوع من التحيز الغربى يتغذى على مركب شامل من دوافع ثقافية واستراتيجية، تضغط باتجاه ضراوة الممارسات الغربية إزاء العالم فى العموم، ولكنها تصنع نوعاً من الذكاء التاريخى السلبى إزاء العالم العربى الإسلامى فى الخصوص، نظرا لتاريخه الحضارى وموقعه الاستراتيجى الذى جعله دوما منافسا حقيقيا للغرب، بل هو بالأحرى، القوة الوحيدة التى تمكنت من وضعه داخل حدوده، وإحكام السيطرة عليه لعدة قرون من الزمان. وعلى هذا النحو ربما استبطن هذا التيار ذهنية (التحيز) أحيانا، ولكن تغيب عنه قطعا عقدة (المؤامرة) كما تتبدى لدى التيار السلفى دوما وأبدا، كما تغيب عنه النظرة الفوقية النافية لمفهوم المؤامرة أساسا وابتداء لدى التيار الحداثوى، ومن ثم ربما كان هو التيار الأكثر عقلانية وموضوعية، فى مقاربة تلك القضية الإشكالية.
يعتقد التيار العلموى العربى فى صورة مثالية ونمطية للتنوير الأوروبى دونما فحص لتناقضاتها الواقعية ف (فولتير) أحد أنبياء الحرية الذى يردد دوماً مقولته الشهيرة عن استعداده لدفع حياته ثمناً لحرية مخالفه فى إبداء رأيه هو نفسه صاحب كتاب (الملك الشمس) الذى يسكب فيه ولعه بالملك لويس الرابع عشر صاحب المقولة الأكثر شهرة «أنا الدولة».
يؤسس التيار السلفى نظريته التآمرية على قاعدة «الهوية المغلقة».. فطالما كان الآخر غريبا على الذات فإن كل محاولة يبذلها للتأثير فيها لابد وأن تكون عملا معاديا يهدف إلى النيل منها. وإذ لا يقدر على التأثير سوى الأقوياء القابعين فى قلب مراكز النفوذ العالمى يصبح الغرب هو المتآمر الأبدى.
يرى التيار التوفيقى أن الغرب ليس إلا منافسا (استراتيجيا) وليس «شيطانا تاريخيا» أو «عدوا وجوديا» ومن ثم يضعه فى سياق توازنى لا ينحرف به نحو الملائكية أو الشيطانية بل يحتفظ له بطبيعته (الإنسانية) ولذا يستبدل فكرة المؤامرة الحتمية بمقولات كالتحيز الاستراتيجى والكيل بمكيالين.. وهكذا
لا يمكن الحكم على نسق فكرى بالإيجابية إلا بمقدار ما يثمره فى حركة الواقع مهما تكن جاذبيته اللفظية أو هندسته العقلية فمن دون معيار الصلاحية العملية لا يكون النسق الفكرى بابا للحفاظ على الهوية والخصوصية، بل وصفة للانغلاق والتقوقع.
تبادل المشرق الإسلامى مع الغرب المسيحى موقع الهيمنة العالمية، سواء من خلال تشكيلات تاريخية لا تزال حية سياسيا كالبرتغال وإسبانيا وهولندا وفرنسا وإنجلترا والولاياتالمتحدة من جانب، وتركيا وإيران والعراق وسوريا ومصر من جانب آخر أو عبر تكوينات تاريخية تحللت سياسيا كالإمبراطوريات المقدونية والرومانية المقدسة والبيزنطية من ناحية وقرطاجنة وفارس والخلافتين الأموية والعباسية، فالإمبراطوريتان المغولية والعثمانية من ناحية أخرى.