كان كارل بوبر، فيلسوف العلم الأكبر فى القرن العشرين، قد اعتبر الحوار ممكنا بين الحضارات المختلفة، غير أنه وضع شرطين أساسيين لنجاحه يمكن اعتبارهما وجهين لعملة واحدة: أولهما هو الشعور بالثقة، وثانيهما هو الشعور بالتواضع. فالحوار يفقد كثيراً من قيمته العظمى إذا كانت إحدى الثقافات المتصادمة تعتبر ذاتها هى الأعلى والأكثر تفوقاً بشكل عام، أو إذا اعتبرها الآخرون هكذا، لأن أعظم قيمة للصدام الثقافى تكمن فى قدرته على استدعاء النقد. فإذا ما بات فريق مقتنعاً بتفوقه، وآخر مقتنعا بدونيته، فإن الاتجاه النقدي، أى محاولة التعلم من الآخر سوف يحل محله نوع من التسليم الأعمي. وفى ظنى أن الحوار الحضارى بين العالمين: الغربى المسيحي، والعربى الإسلامى لم ينقطع أبدا بطول التاريخ، بل حدث مرارا بين البنيات القائمة فعليا على نحو اتسم بالتلقائية والعفوية، وعبر عمليات سادها الأخذ والعطاء، سواء على التوازى أو على التوالي، حيث تم تناقل كل ما هو أكثر رقيا وتمدينا بين الجانبين بحسب الظروف والإمكانات عبر المراحل المختلفة، خضوعا لمنطق التقدم التاريخي. أما الخطابات الثقافية عن الصدام الحضارى فتنتمى إلى عالم الصراعات السياسية التى تغطى على هذا المنطق التقدمى أحيانا وهى خطابات تنتمى إلى (إيديولوجيا الهيمنة)، التى تبرر لكل طرف سلوكه الاقتحامى لجغرافية أو عقل الطرف الآخر، أو بالأحرى تمنحه منطقا ففى خضم هذا الصراع السياسى وحده تتبلور مقولات الأعلى والأدني، ولعل هذا هو ما تبدى جليا مع عاصفة الحداثة التى ساد معها وبفعلها وعى الأعلى على الجانب الغربى لدى تيار عنصرى استعلائى نما فى تربة المركزية الأوروبية ونزعتها الكولونيالية، كما ساد وعى الأدنى على الجانب العربى الإسلامى لدى تيار تقليدي/ سلفي، وأحيانا جهادي، يتجذر عموما فى ظاهرة الخوارج التاريخية. وهنا تصادمت (الخطابات الفكرية) وسيطرت الهواجس السياسية المتبادلة على الجانبين، سواء تلك التى كشف عنها العقل الغربى صراحة منذ العقدين فقط فى نظرية صدام الحضارات، أو التى كان العقل العربى قد استبطنها، منذ القرن على الأقل، فى نظرية المؤامرة؛ فالنظريتان، على الأرجح، ليستا إلا عقدتين حضاريتين تعبر كل منهما عن نوع من التعصب للذات/ الهوية، وإن اختلفت ركائزه بين شعور بالتفوق والاستعلاء هناك يجعل الهوية معادلا للحاضر الحديث، وشعور بالدونية والخوف هنا يجعل الهوية مرادفا للماضى التليد، ولذا فقد اختلفت أشكال أو تمظهرات العقدة الحضارية على الجانبين. فالتعصب العربى للهوية يتبدى باعتبارها (أصالة السلف) حيث تعيش الحضارة العربية إشكالية الخوف من الحداثة، وما أدت إليه من طرح متوتر لطبيعة العلاقة مع منتجيها، وهو التوتر الذى قاد إلى رفضها صراحة وبشدة من قبل تيار تقليدي/ سلفى خشية تأثيرها على الأصالة العربية الإسلامية التى نظر إليها هذا التيار وكأنها فوق تاريخية. وقد أدى هذا النمط من التعصب للهوية إلى التعامل مع التاريخ بآلية اختزالية عندما قام بتثبيته عند لحظة بناء هذه الهوية فى الماضي، الذى صار هو البعد المرجعى لحركة التاريخ، وكذلك البعد المركزى بين أبعاد الزمن الثلاثة، بحيث يتم تقييم البعدين الآخرين (الحاضر والمستقبل) والحكم عليهما قياسا إليه وحده، ما يجعل من كل تحرك بعيدا عنه بمثابة حركة فى الاتجاه الخطأ، وكل مسافة تفصل الأمة عنه مسافة تفصلها عن حقيقتها، تزيد فقط من اغترابها وتغريبها. وفى المقابل يتبدى التعصب الغربى للهوية ممثلا فى مفهوم (الحداثة) التى فهمها العقل الغربى ومارسها على أنها جوهره ورسالته التى يتوجب عليه نشرها ولو قسرا واقتحاما، ولذا فلم يتوقف عند حرية الآخر خارجه، ولم يكترث بإلهاماته ورموزه، بل وقع فى مأزق التناقض بين الحداثة المفترض لها أن تؤسس لفعل الحرية، وبين الحرية ذاتها، عندما اعتدى على الآخرين واحتل أراضيهم باسمها، معتبرا أن الحرية له وحده، مثلما أن الحداثة إنجازه وحده. ولابد من الاعتراف بداية بأن الوعى الغربى الحديث قد راكم (تراثا حديثا) للحرية له الحق فى أن يباهى به كإنجاز تحقق له بعد إخفاقات وإحباطات شتى تولدت عن لحظات صعبة ساد التعصب بعضها، والعراك مع التعصب وضده بعضها الآخر، حتى تمكنت الحرية من الانتصار وصبغ التيار الرئيسى فى الوعى الغربي، ثم الإنساني، بصبغتها. ولكن ما يجب التوقف عنده والتشكك فيه، إنما هو إدعاء الغرب بأن الحرية هى جوهر وعيه بإطلاق، ولحمة تاريخه باستمرار، وأنه قد ولد ونما وتطور فى سياق الفردية والحرية، منذ استطاع بروميثيوس أن يتحدى الآلهة ويسرق النار محققا إرادة واستقلال الإنسان بحسب الأسطورة الإغريقية. خطورة ذلك الادعاء لا تنبع فقط من كونه كذبا على التاريخ، ولكن من دوره فى صوغ المستقبل، كونه يمنح الغرب مقعدا على أفق الزمن، يدفع به إلى رؤية الآخرين جميعا من موقع بدايته، مثلما يتمتع الإنسان المعاصر بميزة تفحص الإنسان البدائى الذى يمثل لهذا الإنسان المعاصر نقطة انطلاقه، بعد أن يكون هو نفسه قد وضع المعايير وصاغ الأقيسة التى بها يتم تعيين حدود البدائية وكذلك قواعد المدنية. هذا الإدعاء الذى يجعل من الحرية محركا أول (أرسطيا) للتاريخ، هو ما دشن مسيرة تعصب طويلة حيث أصبح الحاضر فى صورته الأخيرة (الزاهية) ليس فقط هو نقطة انطلاق الغرب نحو الماضي، بل كذلك نحو المستقبل حيث تمثل مقولة صدام الحضارات محض قراءة مشوهة وغائية تهدف إلى الحفاظ على وحدة الغرب وتجانسه فى المستقبل، صدرت فى ظل لحظة تاريخية اتسمت بالميوعة الاستراتيجية أعقاب تداعى منظومة تحالفات الحرب الباردة، لترسم مسارا جديدا للصراع، هو نفسه بمثابة أفق جديد لهوية سالبة تنهض على التناقض مع الآخر، المسلم فى هذه اللحظة. وعلى الرغم من التشابه القائم بين العقدتين على صعيد المنطلقات، فإن ثمة اختلافا جوهريا بينهما تصنعه أبعاد ثلاثة أساسية تمنح لعقدة المؤامرة قدرا أكبر من المشروعية، كما تجعل لعقدة صدام الحضارات درجة أكبر من الخطورة. لمزيد من مقالات صلاح سالم