د. عماد شاهين: أزمة الهوية صراع نخبوى لا وجود له عند الإنسان البسيط د. حمدى والى: الهوية العربية والإسلامية تحررنا من الدونية والقابلية للخضوع فجر عاطف صحصاح يؤكد مشروع الدستور الجديد فى مادته الأولى فكرة "الهوية"؛ حيث ينص على أن: "الشعبالمصرىجزءمنالأمتينالعربيةالإسلامية،ويعتزبانتمائهلحوض النيلوالقارةالإفريقيةوبامتدادهالأسيوى،ويشاركبإيجابيةفىالحضارةالإنسانية"، وقد توقفنا عند تلك المادة؛ لأنه لم يكن من المنتظر وجود من يعترض عليها، أو يرى أنه من الأهمية النص على هوية أخرى، وإذا دل ذلك على شىء، فإنما يدل على أثر تحديد الهوية على اختيارات الشعوب، وأنماط سلوكها، ورؤيتها للمستقبل. يقول د. عماد شاهين -أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية-: "إن الدساتير إذا نصت على هوية فهذا فى حد ذاته شىء جيد ومهم، وإن كانت الهوية فى حقيقتها لا تترسخ بالدساتير، وإنما بما يثبت فى وجدان وعقل الأفراد عن طريق عدد من الوسائل أهمها التعليم، والتنشئة، والثقافة". ويضيف أن من تداعيات إحساس الشعوب بهويتها نجد أثر ذلك فى اللغة المتداولة، وفى مجموعة القيم التى يستمد منها الإنسان إطاره المرجعى، كما تؤثر الهوية على علاقات الطوائف المختلفة داخل البلاد أو على المجتمع فى علاقته بالمجتمعات الأخرى، فعلى سبيل المثال الحال الذى نحن فيه حين يعتز مشروع الدستور بالانتماء المصرى للأمة العربية والإسلامية، فهذا سيكون بالطبع له انعكاساته على السلوك المحلى، والسياسة الخارجية، مثلا فى القضايا المشتركة التى تهم الأمة العربية، وداخليا فى الاعتداد باللغة العربية، وبقيم الدين، وذلك خاصة فى مؤسسات التنشئة أو فى المقررات التربوية والتعليمية. وعلى النقيض إذا قلنا إن الأمة المصرية تعتز بانتمائها إلى حوض البحر المتوسط، فهذا سيكون له تبعاته بضرورة تعلم اللغات اللاتينية -التى هى أصل اللغات فى البحر المتوسط- ولا بد أن أنتمى إلى الحضارة الفينيقية واليونانية، والحضارة الإغريقية، وأن يتعلم المواطن كل شىء عن تلك الحضارات بشكل جيد جدا، كما يصبح من الأهمية تعلم أكثر من لغة؛ لأننا سنصبح فى مجتمع متعدد الثقافة. صراع نخبوى للهوية ولكن هل الإنسان المصرى بداخله حالة من حالات صراع الهوية، يجيب د. عماد: "للأسف نعم"، يضيف: "وذلك نتيجة لأن النخب عندنا التى من المفترض أنها تقود الحراك الثقافى، أو هى التى تطرح الأسئلة الثقافية الكبرى، تلك النخب ما زالت حتى الآن مخلخلة ومزعزعة فيما يخص الهوية، ومن جهة أخرى فقضية الهوية تُطرح -وللأسف أيضا- بشكل سياسى من آن لآخر، ودون أى ضرورة لذلك". ومن ذلك مثلا أن السادات عندما اتجه إلى منحى القومية المصرية بخلاف القومية العربية التى كان عبد الناصر يركز عليها، فوجئنا أن كاتبا مؤثرا ك"توفيق الحكيم"، بدأ يطرح سؤال الهوية، وأثار جدلا كبيرا وقتها، فى حين أن هذا الجدل السبب فيه بالأساس هى السياسة، لا المجتمع -أى أنه ابن للرؤية السياسية وليس معبرا عن تساؤل حقيقى نابع من الإنسان العادى البسيط- وهو نفسه الكلام الذى كان قد أثير قبل ذلك فى الثلاثينيات. ومن ثم –وللأسف- فسؤال الهوية لم يحسم فى مصر، ولكن عند فئات بعينها؛ فى حين أن الإنسان المصرى الريفى قد حسم هذا الأمر بالكلية، ولا يعيش هذا الصراع الذى يثيره البعض، فهو إنسان يتصرف بتلقائية طبيعية، فهو ببساطة مصرى مسلم عربى، يرى أنه امتداد للجغرافيا والتاريخ والنيل والزراعة والدين والكنيسة والمسجد، فالفلاح المصرى منذ سبعة آلاف سنة يذهب لأرضه يزرعها ويتوضأ من ماء الترعة المجاورة، ويصلى حين يحين الوقت، وليست عنده أزمة أو مشكلة، فى حين أن من يتحدثون عن الهوية المركبة أو المزعزعة أو المخلخلة، هؤلاء هم أصحاب المشكلة". هل هذا يعنى أن حالة التغريب هى التى تسيطر على بعض النُّخب، فتدفعهم إلى هذا الصراع الذى ينقلونه إلى الأفراد، فى حين أنه غير موجود بالأساس، يقول د. عماد: نعم بالطبع، ولكنى أعبر عنه ليس ب"حالة التغريب"، ولكنه تحدى الثقافات والأسئلة الوافدة، ثم الفشل فى التعامل معها بشكل إيجابى، أو هو عجز -بعض النخبة- عن حسم إشكاليات تلك القضايا بشكل متوافق مع الفهم الصحيح لطبيعتنا الجغرافية والتاريخية والثقافية والدينية. فهل يعد ذلك هروبا من المرجعية الدينية بشكل خاص، يضيف د. عماد: فى هذا السياق يجدر بنا أن نفسر العلمانية فى مصر بأنها: "رفض شمولية الدين فى المجتمع"، فالشخص العلمانى ليس هو الذى يفصل بين الدين والسياسة فقط، ولكن العلمانية حالة ذهنية يلجأ فيها الفرد إلى تجزئة الدين، أو تجزئة الشريعة؛ بحيث يقبلها مثلا فى مجال الأحوال الشخصية ويرفضها فيما عدا ذلك من أمور مجتمعية كالسياسة، أيضا يقبل من الدين جانب المعاملات فى حين أنه يقول إن العبادة ليست لها الأهمية نفسها، المهم أن يحسن الإنسان فى تعاملاته وعلاقاته بالآخرين. ولذا فالعلمانى فى مصر لا يتحرر من الدين نفسه، ولكنه يتحرر من شموليته لكل مناحى الحياة؛ بحيث تغيب عن وعيه تلك الشمولية، فى حين أن الماركسية مثلا أو الرأسمالية أو غيرها من الأيديولوجيات لا تقبل أن يكون الفرد انتقائيا لها، وفى المقابل لا يصح فى الإسلام أيضا أن يقبل الفرد منه جانيا ويرفض آخر؛ ولذا فهناك من يقع فى تلك العلمانية حتى ممن هو فى أساسه متدين أو يؤدى العبادات على وجه جيد. وموقع الهوية فى ذلك أن الفرد قد يذهب إلى روابط أخرى لتنطلق أو تستند إليها الهوية مثل الجغرافيا أو اللغة أو التاريخ، وكأن هذه الأمور كلها غير مرتبطة بدين، فى حين أنه فى الخلفية لهذه الأمور قد نجد البعد الدينى، ولذا فكثير من العلمانيين الآن يطالبون باتخاذ العامية لغة رسمية، وهذه هى مشكلة العلمانيين أو القوميين أو الليبراليين العرب. فإذا أرادوا أن يبنوا الهوية المصرية على أساس اللغة، فلا يمكن فصلها عن الدين؛ لأن القرآن هو المقوّم للغة، وهو المصدر لها، وإذا حاولوا تأسيسها على أساس الجغرافيا أو التاريخ بالحديث مثلا عن الحضارة الفرعونية وغيرها، فالمشكلة الأساسية هنا أنهم يحاولون التأسيس لهوية مخالفة عن هوية الغالبية العظمى من الشعب، وهذه هى المعضلة الكبرى التى تواجههم؛ لأن الشعب المصرى بطبيعته شعب متدين محافظ، يشكل الدين الأساس له. المنتج الثقافى وللربط بين الهوية والرؤية الثقافية بمنتجاتها الأدبية والفكرية والنقدية، يشير بداية د. حمدى والى -أستاذ الأدب والنقد بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا- إلى أن تأكيد الهوية له أثر واضح فى تحديد ملامحالشخصية وتحريرها من التبعية، وتحريرها أيضا من عقدتى الدونية فى نظرة الإنسان إلى المؤثرات الغربية أو الحضارات الأخرى، فالدونية هى شعور الإنسان بأنه دائما أقل فى نظر نفسه من مثيله فى الغرب أو فى أمريكا أو أوروبا بالذات. وهذه العقدة تجعل الإنسان يشعر بالتبعية ومستعد نفسيا لأن يُحتل أو يُبتز أو يُظلم أو يقبل الظلم، ولذا فالدستور بتلك الهوية يحرر الإنسان أو يحصنه من القابلية لتلك المذلة أو الظلم أو التبعية أو أن يكون دون الآخرين. وهذا المعنى وحده يعد مكسبا عظيما، من الناحية القيمية الأخلاقية المعنوية الحضارية، فتأكيد الهوية العربية الإسلامية هو تأكيد للحق فى السيادة والقيادة والعالمية، خاصة أن الإنسان المصرى كان يعانى من ضياع هويته وشخصيته تحت حكم لا يراعى هذا المعنى القيمى أو الأخلاقى أو الإنسانى، فبسبب عقدة الدونية تلك، نزلت مكانة مصر عالميا وكانت فى أدنى مستوياتها. ولكن هل المنتج الثقافى والأدبى مما تظهر فيه أزمة الهوية تلك؟ يجيب د. حمدى: دائما المنتج يكون انعكاسا أو صورةلطبيعة الإنسان الذى يصدره، فكلما تحرر الإنسان وتحررت طبيعة فكره؛ بحيث كانت طبيعة منفتحة أو حرة -ليس التحرر من الإطار الدينى والأخلاقى بالطبع- انعكس ذلك على طبيعة المنتج؛ لأنه لا يمكن للإنسان المقيد أن ينتج أو يعطى قيمة حرة. إنما النفس الحرة هى التى تنتج الحرية وتصنعها، ولذا سنجد بذلك الوضع الجديد أدبنا أو خطابنا الثقافى أو الدينى سيكون خطاب تحدٍ؛ يقبل حالة التحدى للثقافات الأخرى، ويرتقى فوقها، وبالتالى فالمنتج المتوقع بإذن الله، سيكون راقيا يرفعنا إلى مستوى التحدى الحضارى الذى خُلقنا له أصلا، الذى هو حقنا فى قيادة البشرية. وهل المنتج الأدبى كان طيلة الفترة الماضية يعانى من أزمة هوية، أو يتحيز للثقافات الوافدة؟ يرى د. حمدى أن المنتج الأدبى لنا، الذى مثلته التيارات الأدبية والمدارس الفكرية التى عُرفت حتى نهاية القرن العشرين إنما كان انعكاسا لضياع الهوية، أو عدم وضوحها، وقد رأينا ذلك مثلا فى الشعر فى الانضواء تحت لواء المدارس الأدبية كالبنيوية والحداثة والسريالية، وقبلها المدارس الكلاسيكية والرومانسية، أى أن حتى مسميات المدارس كانت أجنبية، فلم نجد القدرة على التحرر حتى فى مسمى المدارس التى نريد أن ننتمى إليها، كذلك لم يكن لدينا منتج يحدد هويتنا أو ثقافتنا، أو ينتصر لانتمائنا العقدى والدينى. أما الآن فحالة الثورات العربية قد هيأتنا إلى ممارسة وعى مدرك لحقيقة المهمة؛ جعلنا على استعداد لأن ننافس المدارس الأدبية العالمية، ونمثل هويتنا الحقيقية، وذلك بعد أن تكتمل لدينا الهوية الإسلامية باتساعها وامتدادها التاريخي، فنستطيع أن نمارس -من خلال هذا الانتماء الواضح والمحدد- أدبا عالميا نقف به على قدم المساواة -بل ربما نزيد- أمام الحضارات العالمية. ونستطيع من خلال ذلك أن نقدم للعالم زادا حُرم منه طويلا، خاصة العالم يتهيأ الآن للاستماع إلينا، ونحن نتهيأ أيضا لمخاطبة العالم من مكان القيادة الذى هو مقام الخيرية الذى انتدبنا إليه منذ أن جاءت رسالة الإسلام، وستكون مصر حادى تلك القافلة إلى تصدير الفكر الإسلامى العالمى من جديد إلى العالم.