لماذا تراجعنا وتقدم غيرنا؟ د. سليمان عبد المنعم ثمة أسئلة تتكرر في حياة العرب والمسلمين منذ أمد بعيد ومازالت الاجابة عنها عصية محيرة.. فمنذ أكثر من مائة عام تساءل شكيب أرسلان ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ ثم كانت صرخة زكي نجيب محمود في كتابه تجديد العقل العربي. حتي مراجعات محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي. وها نحن اليوم نلوك ذات الاسئلة: إلي متي تزداد الفجوة اتساعا بين العرب والعالم المتقدم؟ كيف أصبحت دول مثل كوريا الجنوبية وماليزيا خلال عدة عقود قوي اقتصادية وصناعية عالمية ومازال العرب يتجادلون حول أسئلة الحداثة والتنوير التي تجاوزتها أوربا منذ نحو ثلاثة قرون؟ ثم جاءت أحداث11 سبتمبر ليزداد العرب حيرة وشتاتا ولتصبح العلاقة بينهم وبين الغرب شديدة الصعيد والالتباس.. ولم يعد المأزق الحضاري العرب- اسلامي مطروحا علي الصعيد الداخلي فقط بل أصبحت له تداعياته واشتباكاته الخارجية في العلاقة مع الغرب. وبينما تتكرر كثيرا في الندوات والمؤتمرات عبارة حوار الثقافات فإن العقول والنفوس مازالت تمتليء بالوساوس والشكوك المتبادلة من الجانبين.. فالحرب علي الارهاب تكاد تختلط ان لم تكن قد اختلطت بالفعل بأوراق أخري لا علاقة لها بالارهاب مثل محاولات العبث بالجغرافيا السياسية العربية, والتحرش بعقائد وثقافات العرب والمسلمين.. واستحضار أحداث تاريخية قديمة طواها النسيان, أو توظيف الاعلام في تعميم صورة نمطية سلبية عن العرب والمسلمين.. أما علي الجانب الاخر فمازالت نظرة أغلبية العرب والمسلمين الي مجتمعات الحداثة الغربية تتسم بالحيرة والارتباك وربما التناقض! وهي نظرة تختلف من الواقع الي العقل الي الخيال.. ففي الواقع يعيش العرب حياتهم اليومية بفضل منجزات وعلوم وتكنولوجيا الغرب.. وفي العقل ارتباك ازاء بعض قيم الحضارة الغربية لاسيما قيم الديمقراطية والحرية والعلمانية.. فالعرب يؤمنون بقيمة الديمقراطية أو هكذا أصبحوا!! لكنهم يتوجسون أحيانا من قيمة الحرية لاسيما في بعض صورها ويرفضون في غالبيتهم قيمة العلمانية.. أما في الخيال فمازال موقف العرب والمسلمين من مجتمعات الحداثة الغربية محكوما ببعض العقد والانطباعات المسبقة.. وهو نفس ما يوجد في الخيال الغربي أيضا من عقد وانطباعات مسبقة عن العرب والمسلمين. هكذا لم يعد ممكنا في ظل هذا المأزق الحضاري العربي فصل السياسي عن الاقتصادي, ولا الحضاري عن النفسي, ولا الاجتماعي عن الثقافي.. يبدو ذلك كله علي خلفية تساؤل آخر متكرر وممل, وهو لماذا لم تحقق الامكانيات والموارد العربية( الطبيعية والبشرية) معدلات التنمية المرجوة وتصنع حالة التقدم المنشود؟ صحيح أن هناك ايجابيات وانجازات متفرقة هنا أو هناك.. وأن ما تحقق في بعض المجتمعات العربية كدول الخليج والسعودية مثلا لا يقارن بما كان عليه الوضع منذ خمسين عاما. لكن رغم ذلك تبدو المحصلة الاجمالية في السباق الحضاري العالمي في غير صالح العرب بالتأكيد.. ان بلدا مثل كوريا الجنوبية أو ماليزيا اللتين كانتا حتي أربعين عاما مضت في عداد الدول النامية التي لا يذكرها أحد قد أصبحتا اليوم قوتين اقتصاديتين وتكنولوجيتين هائلتين.. والارقام وحدها لا تحتاج الي ايضاح.. فنسبة الامية في كوريا الجنوبية تقل عن2% بينما يصل متوسط نسبة الامية في الدول العربية الي26%. وفيما يتعلق بإصدارات الكتب سنويا فإن كوريا الجنوبية قد أصدرت في عام2006 نحو36000 كتاب, بينما لم يتجاوز اجمالي اصدارات الكتب العربية17,000 كتاب.أما صادرات كوريا الجنوبية فبلغت عام2006 حوالي284 مليار دولار في الوقت الذي لم تتجاوز فيه الصادرات غير النفطية لكل الدول العربية مجتمعة نحو150 مليار دولار. يبدو المأزق العربي إذن في ظل هذه الارقام اقتصاديا.. وثقافيا.. كما أنه يكتسب أبعادا سياسية في ظل ما يحدث في العراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال.. أما علي صعيد الشعور بالخوف من المستقبل والقلق من المجهول فإن المأزق يبدو نفسيا بالدرجة الاولي.. ولعل أخطر ما يواجهه العرب والمسلمون اليوم هو حالة الشك في ذاتهم والشعور بانعدام الثقة.. وكان مقدمة كل ذلك الاخفاقات المتتالية ابتداء من هزيمة يونيو1967 واكتمالا بأهم حدثين مصيبتين في تاريخ العرب الحديث وهما أول أغسطس1990 تاريخ الغزو العراقي للكويت و11 سبتمبر2001 تاريخ تدمير برجي نيويورك. ولئن كانت هزيمة يونيو مصدرا للاشفاق علي العرب وعدم الاكتراث بهم فإن أحداث11 سبتمبر بدت مصدرا للغضب عليهم والعبث بجغرافيتهم والتحرش بثقافتهم.. حدث ذلك علي خلفية من تهيئة سياسية واعلامية وثقافية وعسكرية أخذت العرب جميعا بجريرة من قاموا بهجمات11 سبتمبر. وفي ظل هذا المناخ الغاضب علي العرب وتفاقم ضعفهم وزيادة حيرتهم التي بلغت مداها ليلة اقتحام عاصمة الرشيد أخذت الوساوس والشكوك تنتابهم في أهم مظهرين لهويتهم العربية والاسلامية. الهوية العربية أولا حيث خفت الحديث عن العروبة وكاد الكثيرون يفقدون ايمانهم بالفكرة ناهيك عن جدواها! وأصبحت احلام الوحدة ومشروعات التكامل مثيرة للغرابة وربما السخرية! أما عن الهوية الاسلامية فقد كان استحضار بعض القراءات والتفسيرات المتطرفة والمتجنية علي الاسلام والتركيز عليها سببا في خلط الاوراق وتجاهل الرؤية التقدمية والمستنيرة للاسلام.. وكان أخطر وأمكر ما يروج له هو اصطناع الصدام بين مسلمي ومسيحي الشرق العربي تحت زعم ان الاسلام لا يستوعب الاخر المختلف.. وأمام وطأة هذه الحملة وذكائها ودرجة تنظيمها بدأ الشك يتطرق للبعض في الجانب الاسلامي حول مدي توافق اسلامهم مع معايير الحداثة وأسباب التقدم.. كان ذلك ومازال يحدث بينما المتطرفون يتقدمون والمستنيرون يتراجعون وربما يتغيرون! أما الحركات الاسلامية الحزبية فهي باستثناء النموذج التركي تعاني التخبط والارتباك وخلط الاولويات في ظل تساؤل أزلي كبير حول كيفية التوفيق بين مقتضيات المنهج الاسلامي وضرورات الدولة المدنية الحديثة. هكذا يبدو المشهد العربي والاسلامي وكأن العرب والمسلمين يقفون علي قارعة طريق الحضارة الانسانية.. يرنون بعين الحنين الي ماض لا يمكن استعادته وينظرون بعين القلق الي حاضر تكثر مخاوفه.. فهم يعتقدون في أنفسهم انهم الضحية بينما يري الاخرون أنهم المتهم!! الأمر المؤكد في كافة الاحوال أن اسهامهم الحضاري مازال جد متواضع ان لم يكن هو الاقل وسط التجمعات الانسانية الاخري.. لكن المفارقة الساطعة رغم ذلك تبدو في أن تراجعهم الحضاري كدول وتجمعات لم يمنع من تفوقهم وتميزهم كأفراد حينما يتاح لهم الوجود والعمل من داخل منظومة المجتمعات الغربية المتقدمة!! انها اشكالية هجرة الادمغة العربية؟! خلاصة المشهد اذن: أننا كعرب ومسلمين نعاني من مأزق حضاري تتعدد تجلياته السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية.. فهل ثمة تفسير واحد يستوعب كل تجليات هذا المأزق الحضاري العربي؟ أم أن التفسيرات تتعدد بقدر هذه التجليات؟ عن صحيفة الاهرام المصرية 21/1/2008