حال الوطن وحال الأمة ومصالحهما يلتقيان فى التفكير السليم والرؤية العاقلة، ويجب ألا يتصادما، وإذا حدث فيجب مشاركة الرأى العام، ولا نخشى المكاشفة، لنعرف من المصيب ومن المخطئ أو المتجاوز. ولعل أكثر الأمثلة لهذا الصدام ما حدث عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد التى مر عليها 40 عاما، عندما قررت مصر المضى قدما فى صناعة السلام الإقليمي، بدءا بنفسها حتى تخرج المنطقة ككل، وليس مصر وحدها، من النفق المظلم التى حُشرت فيه منذ قيام إسرائيل فى أربعينيات القرن الماضي، وطرد الفلسطينيين من أراضيهم باتفاق دولى مجحف، اشترك فيه العالم كله، وظلم الفلسطينيين، بإهداء أراضيهم لإسرائيل. وعندما قررت مصر المضى قدما فى صناعة السلام بعد اتفاقية كامب ديفيد لم يكن اتفاقا منفردا مع إسرائيل للانسحاب من أراضيها، ولكن القضية العربية، وفلسطين وعاصمتها القدس، كانت حاضرة فى كل مراحل التفاوض، والورقة الثانية للاتفاق واضحة لا لبس فيها، أنه لا سلام بدون حل كل المشكلات العربية، على أن يكون الحل سلميا، عبر التفاوض، وبمشاركة المجتمع الدولى وقواه المؤثرة، وأصحاب المصلحة المباشرة، من الفلسطينيين والعرب. وهذه الاتفاقية، وقد مرت عليها أربع حقب، ظلت صامدة، وهذا يعنى أنها لم تعد اتفاقية بين حكام، بل كانت الشعوب حاضرة، ومقرة بما جاء فيها. وذلك رغم التوترات والظروف التى مرت بها، ومرت بالعلاقات المصرية الإسرائيلية، ومرت بالشرق الأوسط والمنطقة العربية ككل، وشعور الرأى العام المصرى والعربى غير المستريح والغاضب من السياسات الإسرائيلية التى مازالت تظلم وتجحف بحق الشعب الفلسطيني، ولا تقر بحقوقه المشروعة، وقيام دولته. ومع كل ذلك استمر مسار كامب ديفيد، وتدعم باتفاقية إسرائيلية مع الأردن، ثم باتفاق أوسلو مع الفلسطينيين، وانتقال السلطة الفلسطينية من المنفى إلى أراضيها فى رام اللهوغزة، وأصبحت الدولة الفلسطينية حقيقة واقعة، ونراها فى كل المحافل الدولية، وفى الأممالمتحدة، حتى إن فلسطين احتلت أخيرا مقعد الرئيس فى مجموعة ال (77 والصين) فى دورة الأممالمتحدة الأخيرة 2018. وقد اعترفت جامعة الدول العربية بالمسار الذى أقرته مصر منذ 40 عاما، عندما وافقت على المبادرة العربية عام 2002 للسلام، وهى التى تم إقرارها بمعرفة كل الدول العربية بعد سقوط عصبة الصمود والتصدى من السيطرة على القرار العربي، وهى المجموعة البعثية التى حاربت مصر، وجمدت العلاقات العربية معها، ثم عادت علاقات مصر بعالمها العربي، وتطورت إلى حد كبير، كما أن مصر تعاملت مع القضية الفلسطينية والفلسطينيين بنفس الروح والقدرة والرؤية الواضحة للحق العربى والفلسطيني، كما كانت عليها قبل اتفاقية السلام. ولعلنا نشير إلى الانقسامات الفلسطينية- الفلسطينية بين غزة والضفة الغربية، ونؤكد أنها مسئولية فلسطينية بحتة. إن ما بدأته مصر فى البحث عن حل عادل لا ينكره أى فلسطينى أو عربي، ولعلنا كذلك نشير إلى أن مصر لم تلجأ أبدا لتأخذ الفلسطينيين بأخطائهم فى حقها، ولعل آخر تلك الأخطاء هو التدخل الحمساوى المعيب فى الشأن المصرى الداخلى بعد أحداث الضعف الذى اكتنف الدولة المصرية بعد عام 2011، حتى إن حماس اعترفت بأنها ميليشيا لجماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وأخذت على عاتقها الاشتراك فى الدفاع عنهم، إلى أن أدرك العقلاء منهم خطورة هذا المنحى على العلاقات العربيةذ العربية. تذكرت ذلك، عندما رأيت مصر تقود، بقدرة سياساتها، وتميز بين الحق والقوة فى الأممالمتحدة لصناعة السلام الإقليمي، وهو ما يميزها عن جيراننا الإيرانيين والأتراك فى تعاملهم مع قضايانا التى تهددها تفاعلات بين دول الشرق الأوسط الكبري، كإيران التى تتحكم فى عدة بلاد عربية (سوريا ولبنان والعراق واليمن)، ثم تركيا التى تجاوزت كل الخطوط فى (العراقوسوريا). أما دول الخليج العربى فقد صححت المسار عندما واجهت قطر بتداخلاتها المعيبة فى حق الدول العربية، ودعمها للإرهاب والتطرف وتهديدها لمصر والبحرين فى الداخل، فأنشأت تحالفا مصريا سعوديا إماراتيا بحرينيا، لتصحيح أوضاع قطر، ومنع التداخلات الإيرانية التركية فى شئون المنطقة العربية. ولكن صورة الشرق الأوسط والأوضاع العربية الراهنة لا تسر أى عربى بأى حال من الأحوال، ولكن المصريين يجب ألا يجلدوا أنفسهم، بل يجب أن يشعروا بالفخر، فهم لم يتدخلوا فى الشئون الداخلية لأى دولة عربية، فى المغرب أو المشرق أو الخليج، وأنهم يعملون على وأد الصراعات، وتقوية الجناح العربى المهيض، فالقرار ليس قرارهم وحدهم، وعلينا أن ندرك أنه عندما يتصادم حال الأمة بحال الوطن، فإن الوطن يجب أن يحتل الأولوية، لأن استقرار مصر سيكون فى صالح الأمة ككل. ولعلنا نتمني، وندعو إلى الله أن يقوم الجناح الذى تكّون من أجل مواجهة التداخلات الخارجية فى الشأن العربي، بإنشاء نظام عربى جديد، قادر على لجم القوى الإقليمية، سواء كانت تركية أو إيرانية أو إسرائيلية، أو أية قوى أخرى تستخدم التطرف والإرهاب وتياراته الدينية لإخضاع العرب لطموحات توسعية، باستغلال قضايا عفى عليها الزمن، فنحن الآن فى عالم جديد، يجب أن تسوده حقوق الشعوب، كل الشعوب. لمزيد من مقالات أسامة سرايا