فى نحو العاشرة والنصف من صباح السبت الماضى فاجأنى الصديق القديم الذى اسمه سامى شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر فى مكالمة تليفونية عاتبا ومعاتبا فى عبارة رقيقة هو يقول: يا عم عزت.. عصر جمال كله ما فيهوش حاجة حلوة خالص.. حاجة مضيئة.. كله سواد فى سواد.. كما كتبت النهاردة؟ أليس هذا يا عزيزى هو عبد الناصر الذى أيقظ الأمة العربية كلها من سبات عميق.. ليسمع العالم كله صوتها مدويا لأول مرة..
قلت له مقاطعا: أنا معك قلبا وقالبا: فإنه لأول مرة يسمع العالم كله صوت أمة العرب بلسان وفكر وكلمات عبد الناصر.. وأنا شخصيا.. عندما سافرت إلى سوريا فى أول رحلة صحفية لى خارج الديار فى عام 1964 قبل نكسة 1967 بثلاث سنوات.. كان الإخوة والأخوات فى دمشق «ياخدونى بالأحضان» لمجرد أن يسمعوا صوتى أتكلم باللهجة المصرية فى الشارع.. فى المطعم.. على نهر بردي.. فوق جبل قاسيون.. ويتسابقون فى دعوتى إلى بيوتهم.. ويسألونى أول ما يسألونى عن الأخ الزعيم جمال عبدالناصر بخير والحمد لله؟ ثم إننى يا عزيزى أكتب شهادة زميل عزيز وكاتب صحفى مرموق له وزنه وقلمه ومقامه اسمه صلاح منتصر.. قال: عندك فى مكتبة الأهرام كتبى عن عبد الناصر وعصره.. أرجو أن تقرأها ثم قل بعدها ما تريد.. قلت له: أنا أكتب الآن شهادة صحفى قدير اسمه صلاح منتصر على عصر عبد الناصر كله.. والذى لم ينته منها بعد.. تعالوا نقرأ معا ما قاله وما كتبه بالإحساس الوطنى كله وبالضمير الصحفى اليقظ.. تحت عنوان: شهادتى على 5 يونيو قال الصديق العزيز صلاح منتصر فى كتابه شهادتى على عصر عبد الناصر: «وقعت إسرائيل فى الفخ». أربع كلمات قالها الأستاذ أحمد سعيد فى الراديو التاسعة صباح الاثنين 5 يونيو 67 انطلقت فى أعقابها الزغاريد من البيوت، وارتفعت أصوات أجهزة الراديو فى كل مقهى وكل بيت تردد أناشيد النصر.. ووجد الناس فى الشوارع أنفسهم يحادثون بعضهم بصوت عال يعبر عن القوة والكرامة.. وترك جنود المرور مواقعهم فرحا وأصبح الشارع فى قبضة شعب يشعر بأن هذا اليوم هو أسعد أيام حياته.. وأنه خلال ساعات ستكون القوات المصرية قد ثأرت لكل ما حدث سواء فى 48 أو 56 أو كل جريمة ارتكبتها إسرائيل. عانقت زوجتى رحمها الله مهنئا.. وأسرعت إلى مبنى «الأهرام» فى مقره القديم على قمة شارع شريف وسط القاهرة وأنا أشعر طوال الطريق بأننى أسير فى بلد يحتفل بأزهى أعياده. فور وصولى تم تقرير أن أتولى تغطية الحدث الأكبر للصحيفة فبدأت فى جمع البيانات العسكرية التى توالت وزفت إلى الناس أخبار الطائرات الإسرائيلية التى أسقطتها قواتنا. كان «دسك» صحيفة «الأهرام» فى مبناه القديم فى شارع الشريفين يقع فى صالة المبنى المتواضع فى الدور الأول وملحقة به غرفة توجد بها ستة أجهزة تيكرز كل منها خاصة بوكالة أنباء (رويتر، يونايتد، أسوشيتد، الألمانية، الشرق الأوسط، نوفوستى...) وقد لاحظت فور وصولى اغلاق باب هذه الحجرة بالمفتاح من الخارج وقيام سكرتيرة الأستاذ هيكل بفتح الغرفة كل ساعة وجمع الأخبار التى ترسلها الوكالات وأخذها مباشرة إلى الأستاذ دون أن ترينا ورقة واحدة منها رغم أنه كان المفروض أن تصب أمامى كل المصادر، إلا أننى حتى السادسة مساء لم يصل إلى سوى البيانات الرسمية التى تزايدت فيها أرقام الطائرات الإسرائيلية التى أسقطناها حتى وصلت إلى 89 طائرة. فى الثامنة مساء استدعانى الأستاذ هيكل وسلمنى ورقة كتب فيها 13 سطرا عناوين للصفحة الأولى يتصدرها سطر يقول: معارك ضارية على كل الجبهات مع العدو، وفى السطر الثالث: «اسقاط أكثر من 115 طائرة للعدو». قلت بصوت هامس: البيانات التى أمامى تقول بإسقاط 89 طائرة فقط. قال الأستاذ بحسم: على بالليل حيبقوا 115.. انتظرت البيانات الصادرة التى تؤكد ارتفاع عدد الطائرات التى أسقطناها إلا أننى لاحظت أنه منذ الخامسة مساء لم يصدر أى بيان عن القيادة.. مما اضطرنى للاتصال بالأستاذ الساعة الحادية عشرة قبل منتصف الليل.. وفى الطبعة الثانية التى جرت فى منتصف الليل شطبت ال 115 وكتبت 89، ولعلها أول مرة فى التاريخ تتناقص فيها خسائر العدو مع مضى الوقت!. فى أكثر من مرة عندما كان يتكلم عن معركة تأميم قناة السويس فى يوليو 56 كرر الأستاذ محمد حسنين هيكل أن الرئيس جمال عبدالناصر ظل يفكر فى حسابات تلك المعركة وأنه خلال ذلك أمسك مسطرة قسم بها صفحة ورقة وكتب أعلى الصفحة: تقدير موقف. وعلى الناحية اليمنى كتب الأسئلة التى يمكن أن تثار وفى الناحية اليسرى كتب إجابة هذه الأسئلة. ولتوقفه أمام سؤال لم يعرف رده فى قبرص فإنه أرسل مندوبا مصريا التقى «مكاريوس» رئيس الجزيرة وكانت تربطه علاقات حميمة بمصر. وعاد المندوب برد مطمئن عن القوات البريطانية الموجودة فى الجزيرة وأنه يصعب استخدامها. وجاء الرد فى الوقت الذى كان عبد الناصر يستعد لإلقاء خطاب اعلان تأميم القناة يوم 26 يوليو 56 كان هذا فى 56 أما فى 67 فلم نقرأ أو نسمع كلمة واحدة عن خطة حشد القوات المصرية يوم 16 مايو فى سيناء والأحداث التى تلتها. لم نسمع أن عبد الناصر جلس لدقائق وفعل ما فعله قبل 11 سنة وكتب «تقدير موقف» للأزمة التى يواجهها، وربما كان التفسير المنطقى لهذا الاختلاف بين ما قام به عبد الناصر فى 56 وما حدث فى 67.. أنه فى 56 لم تكن عقدة سوريا قد ظهرت. أما فى 67 فقد أصبح التفكير كما وضح محكوما بجراح الوحدة والانفصال. مازلنا نقرأ صفحات كتاب: شهادتى على عصر عبد الناصر للكاتب الكبير صلاح منتصر: وكان سؤال الساعة أيامها: ماذا ستفعل مصر بعد هذه الهزيمة المروعة وغير المتوقعة؟ ولابد من سؤال آخر: ماذا فعلت أمريكا أيامها مع العرب؟ لقد بادر الرئيس الأمريكى ليندون جونسون يوم 19 يونيو 67 بعد تأكده من هزيمة عبدالناصر وصدور قرار من مجلس الأمن يكتفى بوقف إطلاق النار على الجبهات المصرية والسورية والأردنية دون أى انسحاب لاسرائيل، إلى إعلان ما أسماه مبادئ جونسون الخمسة لتسوية الصراع القائم وهى المبادئ التى تضمنت مايلي: 1 ينبغى أن يكون لكل دولة فى المنطقة الحق فى أن تعيش دون تهديد بالهجوم عليها أو القضاء عليها (أى تأمين إسرائيل ضد أى اعتداء تتعرض له). 2 ينبغى توطين أكثر من مليون لاجئ عربى مشرد بصورة عادلة قبل الوصول إلى سلم دائم (فقرة إنشائية لا آلية لتنفيذها بل ترهن تحقيق السلام عليها). 3 يجب احترام حقوق الملاحة ويجب تقرير حقوق المرور البرئ عبر الممرات المائية الدولية لجميع الشعوب (أى منح اسرائيل المرور فى خليج العقبة وقناة السويس). 4 يجب تخفيض إرسال شحنات الأسلحة إلى المنطقة. 5 يجب تقرير ضمان الحدود والاعتراف بها حتى يمكن الوصول إلى احترام للوحدة السياسية ووحدة أراضى جميع الدول فى المنطقة (بما يعنى وضع حدود جديدة تعكس الوضع المتميز الذى أصبحت عليه اسرائيل). ولم يعد أمام عبدالناصر بعد ضياع كل شىء إلا اللجوء إلى الاتحاد السوفيتى.. كما قال محمود رياض وزير الخارجية. وتفرغ عبدالناصر بعد الهزيمة لإعادة بناء القوات المسلحة.. وكتب سامى شرف أن عبدالناصر لم يكن ينام إلا بعد أن يطمئن من الفريق فوزى على أحوال الجيش.. وفى 29 يونيو سافر عبدالناصر إلى موسكو فى زيارة نجح فيها فى عقد صفقة كبيرة من السلاح السوفيتي، أضافت إلى القوات المسلحة مجموعة جديدة من الصواريخ فى منطقة القناة فاجأت إسرائيل بإسقاطها صباح يوم 30 يونيو أربع طائرات اسرائيلية منها 2 فانتوم و سكاى هوك، بالاضافة إلى أسر 3 طيارين إسرائيليين، وفى الأيام الخمسة التالية ثم إسقاط خمس طائرات أخرى منها 2 فانتوم. ولكن فى أول يونيو 67 بعد 20 يوما من هزيمة ثقيلة حاولت إسرائيل بقوة من الدبابات والمشاة التقدم لاحتلال «بورفؤاد» على الضفة الشرقية للقناة وكان الاسرائيليون قد أجلوا الاستيلاء عليها، إلا أنهم فوجئوا بقوة مصرية ظلت صامدة فى منطقة قريبة تسمى «رأس العش» تصدت للقوات الاسرائيلية وكبدت الاسرائيليين خسائر فادحة وأجبرتهم على الانسحاب. أما فى يوم 21 أكتوبر 67 فكان اليوم التاريخى الذى شهد تدمير وإغراق المدمرة الاسرائيلية «إيلات» بكل مافيها من ضباط ورتب وبلغت خسائر اسرائيل 47 قتيلا ومفقودا بخلاف الجرحي. كانت المدمرة إيلات سفينة مصرية تتبع الأسطول الملكى المصرى عندما تحولت إلى مدمرة حربية إلا أن البحرية الفرنسية أسرتها فى عدوان 56 وسلمتها لاسرائيل التى غيرت تسليحها وأطلقت عليها «إيلات». وقد راحت المدمرة تستعرض نفسها بالاقتراب من مياهنا فصدرت الأوامر بالتصدى لها.. ونجح الرجال فى إغراق «إيلات» التى كان إغراقها يوما مشهودا فى التاريخ وضع أنف اسرائيل فى التراب! أسأل صلاح منتصر الصحفى وليس الصديق ورفيق الطريق: ماذا أعجبك فى عبدالناصر بصراحة كده؟ قال بعد لحظات صمت وتفكير عميق: لم أحب زعيما سياسيا كما أحببت جمال عبدالناصر، فقد كان الرجل الذى بدأت فى ظله فى يناير 1953 وأنا قرب سن العشرين (من مواليد 6 أغسطس 1933) مشوار عملى الصحفى فى مجلة آخر ساعة تحت رياسة أستاذى محمد حسنين هيكل. ومثل ملايين المصريين فى ذلك الوقت جذبتنا شخصية اللواء محمد نجيب، لكن سحرتنا كاريزما عبدالناصر خاصة وأننى وجدت الأستاذ هيكل فى مواقف كثيرة ينحاز لعبدالناصر ضد نجيب. صورة نادرة لعبد الناصر وهو يشرب من «القلة» التى يشرب منها فقراء القوم فى بلدنا! وطوال حياتى لم أختلف مع أخى الأكبر «مصطفى» الذى يكبرنى بعشر سنوات يوما واحدا إلا على عبدالناصر. فقد كان أخى رحمه الله متأثرا بما حدث فى سوريا من انقلابات عسكرية، فأخذ موقفا مضادا ضد «يوليو 52» باعتباره انقلابا عسكريا سيؤدى إلى كارثة. وقد زاد ارتباطى بعبدالناصر عندما انتقلت للعمل فى دسك صحيفة «الأهرام» وعهد إلى الأستاذ محمد حسنين هيكل كتابة المقدمة التى ألخص فيها فى صدر الصفحة الأولى خطب وأحاديث جمال عبدالناصر العديدة فى مختلف المناسبات والتى تجاوزت المئات. وهكذا فإننى لسنوات كنت ظلا لعبدالناصر فيما يقول مؤمنا ومصفقا له. وكان عبدالناصر كشخص يتصف بالنزاهة وقد عاش طوال فترة حكمه فى بيته بمنشية البكرى حياة بسيطة عادية. وأذكر أنه عندما اضطر للإقامة فى الاسبوع الأخير قبل وفاته فى فندق هيلتون حتى يكون قريبا من مقر قمة الملوك والرؤساء العرب فى مقر الجامعة العربية أن دهش هيكل عندما رأى عبدالناصر يطلب عشاء له «سندوتشين جبنة»! ويحكى هيكل أنه قال لعبدالناصر بدهشة: جبنة.. جاى سيادتك فندق كبير فيه مطبخ عالمى وتطلب جبنة؟ قال له عبدالناصر: أمال كنت أطلب إيه؟ قال هيكل: فيه حاجة اسمها «سيمون فيميه» ولا «فواجراه» وعندك طبق «كافيار».. ويقول هيكل إن النقاش انتهى بأن سخر عبدالناصر مما قاله هيكل وأصر على سندوتشين الجبنة! تصفيق حاد.. منى هذه المرة لأنضم أنا إلى قافلة محبى عبدالناصر الذى قابلته مرتين فى حياتى كلها.. مرة عندما كنت تلميذا فى مدرسة القناطر الخيرية الثانوية.. والمرة الثانية عندما ذهبت اصطاد مع ابن عمى محمود السعدنى السمك بالسنارة أمام استراحة الملك فاروق التى أصبحت استراحته فى القناطر الخيرية.. كما قلت هنا فى نفس هذا المكان من قبل.. ولكن بقى أن أحكى لأول مرة حكايتى أنا مع يوم 5 يونيو 67.. حكايتى مع أطول يوم فى تاريخ مصر وحياتى الصحفية.. ولكن ذلك حديث آخر إن شاء الله
--------------------------------------- وكان عبدالناصر كشخص يتصف بالنزاهة وقد عاش طوال فترة حكمه فى بيته المتواضع بمنشية البكرى حياة بسيطة عادية كأى مصرى آخر! Email:[email protected] لمزيد من مقالات عزت السعدنى