باتت تراجيديا الأقصى هى المشهد الرتيب الشائن للعقل السياسى المعاصر، وأصبح تسريع وتيرة انزلاق الإنسانية نحو البربرية المقيتة المعادية للسلم والأمن هى القانون المستقبلى الذى صاغ ترامب مادته المحورية (مرحبا بالأعداء ووداعا للحلفاء)، وهو ما يستدعى عواصف جولة دموية مع العالم بأسره، من ثم باتت القضية العربية مع الدولة العبرية تخوض منعطفا تاريخيا شائكا له أكبر الخطر بما يحمل من التأزمات السياسية والإستراتيجية ذات الانعكاسات ممتدة الأثر بما يسحق أطياف الأمل فى استعادة الحقوق المسلوبة ويجعلها تجوب دوائر الاستحالات التى تتطلب أمدا زمنيا طويلا إلا إذا استطاعت الكتلة العربية إحياء الدافعية الذاتية واستحداث طاقات استثنائية وتغيير الميكانيزم السياسى والتحرر من هواجس الضعف والدأب نحو استكشاف مكامن القوة لأن البديل عن ذلك هو حتما يفوق التصور ويهزم طموحات الخيال السياسي. ولعل الحادث فى المسجد الأقصى هو بالفعل قديم مملول فى مضمونه لكنه يضيف جديدا لتاريخ الأيام واللحظات المشئومة بما يحققه من أرقام قياسية ترصدها الموسوعات السياسية إزاء الإعتداءات المتوالية على المقدسات فى شتى بقاع الكوكب الأرضي!. مثلما حدث أكثر من مرة عندما قام المستوطنون الإسرائيليون باقتحام المسجد الأقصى لأداء الصلوات داخل المسجد وهى استجابة فورية للدعوات التى أطلقتها منظمات الهيكل إذعانا لبنود إستراتيجية التقسيم الزمانى والمكانى الداعمة لفرض واقع جديد. إن كل ذلك وغيره إنما يستحضر لدينا تساؤلات أولها: هل تزحزح الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية بعض الحقائق والثوابت التاريخية بصدور قانون الدولة القومية اليهودية؟ وماذا بعد أن احتوى هذا القانون العنصرى على كل مفردات الحلم الصهيونى فى أن تصبح أرض إسرائيل هى الوطن التاريخى للأمة اليهودية، وما ينبنى على ذلك من حق تقرير المصير، وأن تكون القدس هى العاصمة الأبدية لها، وأن يظل طوفان الهجرة لإسرائيل مبددا لقضية الشتات اليهودي، وأن تصبح اللغة العبرية هى لغة الدولة، فضلا عن المزيد من تفعيل المد الاستيطاني؟ وهل تكتسب سلطة احتلال مشروعية العبث بمقدرات وطن إلا فى ظل مجتمع دولى مترنح تتخبط مؤسساته باحثة عن هويتها وغيبة وجودها الفاعل بل وتوظيفها كأداة قهر للشعوب وليست كتائب إغاثة؟ ألم تعصف سلطة الاحتلال بنحو مائة وسبعين قرارا دوليا؟ ألم تعتبر أن القانون الدولى هو قصاصات ورق ليس غير؟ من ثم كيف لا تعتمد الكتلة العربية مع ذلك الكيان المختلق تلك الإستراتيجية القاتلة أو إستراتيجية المقاطعة التى نادت بها من قبل ناعومى كلاين وجون برجر باعتبارها الأفعل والأمضى فى التواجه لاسيما مع قانون القومية اليهودية؟ ألم تحتم الصراعات الكبرى فى التاريخ الإنسانى أن توظف الأطراف كافة العناصر المتضادة مع مصالح الآخر؟ ألم تكن آليات التعويق هى وسائل نجاح وانتصار؟ ألم تستوقفنا تحذيرات يورى إفنيرى من تلك المخططات المروعة التى تحاك استهدافا لإبادة الأقصي؟ إن استقصاء واستلهام جوهر التجارب التاريخية -سياسيا واستراتيجيا وثقافيا- وبكل زخمها لابد أن يمنح فرصة التقاط الحلول التى تتسق والتحولات والتغيرات الزمنية، فهناك فرق هائل بين قراءة الحدث وغوص تفصيلاته، وبين الوقوف على فلسفة الحدث ودلالته وعمقه إذا كان السير فى اتجاه تجاوز المآزق الحادة، لكن وفى كل الأحوال تظل الأسس الفكرية لقضية الأقصى وغيرها من القضايا مشيرة إلى الإستراتيجية القديمة القائلة بأن اليد اللينة تقود الفيل بشعرة.! لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبو العلا