تتجه الأنظار في تونس إلى يوم بعد غد الإثنين حيث يلقي الرئيس الباجي قايد السبسي كلمته بمناسبة عيد المرأة التونسية فيما يتصاعد الجدل حول تقرير اللجنة التي شكلها بعنوان الحريات الفردية والمساواة في نفس اليوم من العام الماضي. الحملة على التقرير وصلت إلى التحرك في الشارع ضد ما تضمنه من مقترحات لسن تشريعات تجعل البلاد الأولى عربيا في الدخول إلى المنظومة العالمية للحريات الفردية والمساواة من إلغاء عقوبة الإعدام و السماح للمرأة بالمشاركة في الولاية على الأسرة والمساواة في الميراث مع الرجل وتعديلات على القوانين تمس النفقة والعدة و حضانة الأطفال والنسب فضلا عن ضمانات حرية الفكر والتعبير و السلامة الجسدية والحريات الجنسية .
فبعد حرب البيانات بين المؤيدين والمعارضين للتقرير تحرك المناوئون له في الشارع وكان ملحوظا توزيع البيانات على المقاهي والتي ذهب أحدها و يحمل توقيع «التنسيقية الوطنية للدفاع عن القرآن والدستور والتنمية العادلة وفي البند الأول من 11 بندا إلى اتهام اللجنة ب «إباحة الشذوذ الجنسي والتشجيع عليه ..» .وقد أعتبر البيان أن التقرير يمثل خضوعا لإملاءات الاتحاد الأوروبي وبرلمانه. كما شهد عدد من المساجد تحريضا من خطبائها ضد التقرير واللجنة برئاسة بشرى بلحاج حميدة.ولكن اتضح أن التعبئة المناوئة للتقرير في شوارع وسط العاصمة تونس ليست في زخم البيانات وسخونة كلماتها. قاد حزب «تيار المحبة « المحافظ الشعبوي الهامشي الحضور في البرلمان والساحة السياسية والذي لم يحصد أي مقعد في البلديات مسيرة محدودة بشارع الحبيب بورقيبة.وشهدت المسيرة حضورا لعدد من أئمة المساجد. لكنه زاد على ذلك الصلاة الجماعية بالشارع ، الأمر الذي استدعى من وزارة الداخلية على الفور إصدار بيان باتخاذ الإجراءات القانونية ورفع دعوى قضائية ضد الحزب لتوظيفه الصلاة بالطريق العام ضمن تظاهرته السياسية ومخالفة نصوص في الدستور والقوانين . كما شهدت مدن في الداخل التونسي الأكثر محافظة في اليوم ذاته تحركات مناهضة للتقرير تصدر صورها أيضا عدد من أئمة المساجد.ولعل أهمها في صفاقس عاصمة الجنوب حيث انطلقت مسيرة من ساحة أحد المساجد الشهيرة . وتتضارب التقديرات حول المشاركين بهذه المسيرة، لكنه لا يمكن مقارنتها بأي حال بالمسيرة التي نظمها مناصرو المساواة في الميراث بالعاصمة 10 مارس الماضي بمشاركة بضعة آلاف قطعوا نحو ثلاثة كيلومترات إلى مقر البرلمان . وناهيك عن ذلك ، فإن بتونس حساسية من الدولة وقطاعات واسعة في الرأي العام من استغلال المسجد في المسائل الخلافية والصراعات السياسية المجتمعية . وفي كل الأحوال ، فإن تونس لم تعرف بعد تعبئة كبرى في الشارع ضد التقرير كما لم يدع بعد حزب أو جمعية أو هيئة ذات وزن لمثل هذه التعبئة، لكن الانتقادات الصادرة في عدد من البيانات والمنابر الإعلامية وأبرزها بيان وقعه 32 من أساتذة جامعة الزيتونة في 28 يونيو الماضي أي بعد 16 يوما من اعلان التقرير قال أن « التقرير مناقض لصريح الدين المجيد و السنة النبوية الشريفة مثل تحريم الزنا واللواط والسحاق». وقال أيضا أنه « مخالف لأحكام الأسرة القطعية في الإسلام وأضاف أنه يمثل «مصادمة لهوية الشعب التونسي العربية الإسلامية وتعديا على مقدساته الدينية و قيمه الروحية والأخلاقية وأعرافه الاجتماعية السوية «واختتم مطالبا بسحب التقرير وإلغائه. استدعت هذه البيانات المعارضة للتقرير تشكيل ائتلاف لمكونات المجتمع المدني المساند له ، وإطلاق ميثاق تونس للمساواة والحريات الفردية الذي وقع عليه في مؤتمر انعقد بمدينة الثقافة بالعاصمة الشهر الماضي نحو مائة نقابة وجمعية تتقدمها الرابطة التونسية لحقوق الإنسان الحاصلة على نوبل للسلام ونقابة الصحفيين . وقال الميثاق:«أن تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة يدعم الديمقراطية ويقطع الاستبداد ويكسر قيود التخلف الحضاري والاجتماعي والتشريعي». وتضمن الميثاق عشرة أهداف منها «إلغاء عقوبة الإعدام وكافة اشكال التمييز القانوني بين النساء والرجال في الزواج و الجنسية والميراث ورئاسة العائلة والولاية على الأطفال وحضانتهم واللقب و ضمان حرمة الجسد وحمايته من التعذيب والأذى والألم ، وكذا حرمة الحياة الخاصة للفرد والحريات الجنسية للبالغين و حماية الدولة لحرية الفكر والتعبير والإبداع . ودعا إلى مراجعة قوانين الطوارئ والإرهاب، وإلغاء كل الممارسات التمييزية على أساس الفكر أو الضمير أو الدين . وعلى الرغم من أن الشق المساند للتقرير بين المجتمع المدني أكثر نفوذا وتنظيما في المجتمع والإعلام والفضاء العام بالبلاد من ذلك المناوئ له، إلا أن اتحاد الشغل كبرى منظمات المجتمع التونسي وأعرقها تجنب اصدار بيان او موقف واضح من مقترحات التقرير ومضمونه وإن عبر في غير مناسبة عن ادانته للتشهير بأعضاء لجنته و تكفيرهم . وخارج المنخرطين في الاستقطاب، فإن المجتمع التونسي يبدو منقسما حول ما بلغه من مضمون التقرير فيما يعبر العديد من الناس في لقاءاتهم مع «الأهرام « عن عدم اكتراث وباعتبار أن الهموم المعيشية اليومية تحتل الأولوية . والأحزاب الكبرى بكتلها النيابية الوازنة والأكثر تأثيرا في تقرير مصير التشريعات في البرلمان تنأى الى حد كبير بنفسها عن الانخراط في هذا الاستقطاب الحاد أو محاولات للتعبئة في الشارع قبل 13 أغسطس حيث تتضارب التخمينات عن حدود ما سيعلنه الرئيس السبسي استنادا إلى التقرير وهل سيتقدم بمبادرة تشريعية أم لا؟. وعلى سبيل المثال فإن «عبد الرؤوف الخماسي» القيادي بنداء تونس والمنسق العام لهياكله وعضو هيئته السياسية (أعلى مستوى بالحزب) أبلغنا بأن أيا من مستويات الحزب القيادية لم يناقش بعد مضمون التقرير. وقال قبل ساعات من أول اجتماع للهيئة السياسية منذ نحو 16 شهرا جراء الخلافات داخل الحزب:«تونس تخوض عدة معارك على جبهات بما في ذلك الاقتصاد ونحن في حاجة إلى تهدئة الأوضاع والتماسك ،ومن حق لجنة الحقوق والحريات أن تضع مقترحاتها لكننا كسياسيين لسنا ملزمين بأن نأخذ بكل مقترحاتها وليس من السهل تغيير العادات الاجتماعية بين عشية وضحاها «وكان حزب النهضة من جانبه قد عبر عن تحفظات تجاه توجه التقرير في متن بيان لمكتبه التنفيذي أصدره الشهر الماضي، لكنه أكد على «قيمة الحقوق والحريات والمساواة بين الجنسين وعلى أهمية تعميق التشاور والحوار حول مضمون التقرير» ممتنعا عن الخوض في تفاصيل ومواقف محددة إلى حين صياغة مشروعات قوانين تعبر عنه. ويستند المؤيدون للتقرير والمدافعون عن اللجنة في مواجهة مايصفونه بحملة التكفير والتشهير والتحريض الى الفصل الثاني في الدستور الذي يؤكد على أن «تونس دولة مدنية» كما يؤكد لنا «جمال مسلم» رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان. لكن مناهضي التقرير يلجأون بدورهم الى الفصل الأول الذي يقول عن تونس بأن «دينها الإسلام». ويقول جمال مسلم أن ردود الفعل الأولية من معارضي التقرير اتسمت بالعنف اللفظي و وصلت الى حد تكفير أعضاء اللجنة ،لكنه لم يستبعد إمكانية ان يحدث السجال مستقبلا حول كل نقطة بالتقرير في أجواء أهدأ وعبر وسائل الإعلام والندوات .وفسر غياب مثل هذا النقاش حتى الآن بالأوضاع داخل الأحزاب و»حالة التشنج» تحت قبة البرلمان . ومن جانبها أكدت بشرى بلحاج حميدة رئيسة لجنة الحريات الفردية والمساواة ل «الأهرام» أنها قدمت أول شكوى لسلطات التحقيق القضائية ضد من تناولوها واللجنة بالتشهير والتكفير وأنها كلفت مجموعة محامين بمتابعة مثل هذه الهجمة . وفي سياق تقييمها لردود الفعل على التقرير قالت إنها متباينة بين مؤيد ومعارض. لكنها عابت على المؤيدين عدم التحرك بالقدر الكافي وكأن «القضية محسومة» وعلى المعارضين أنهم «تطرفوا وتصوروا احتكار تأويل الدين وأن معظمهم لم يقرأ التقرير». وأضافت :«بعض الأئمة استغلوا المساجد للدعوة للعنف والتكفير ووضعوا حياة أعضاء اللجنة في خطر استنادا إلى مغالطات». وعندما سألنا عن فرص إدارة حوار موضوعي ناضج بين مختلف الاتجاهات حول مضمون التقريرومقترحاته، أجابت:«مازال الحوار الجاد يجرى في غرف مغلقة وفضاءات غير مفتوحة.. ولم يمتد إلى الآن إلى برامج تلفزيونية جادة». رئيسة اللجنة ترى أيضا أن الوضع السياسي والاقتصادي المعقد والصعب لا ينبغي أن يؤجل هذا الحوار الموضوعي الجاد حول قضايا الحريات الفردية والمساواة ولما يتضمنه كما قالت من مكتسبات للمواطنين التونسيين على أصعدة عدة تشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية كالحق في العمل . وإذا كانت هذه هي أبرز الملامح العامة بتونس بشأن الجدل حول تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة ، فإن المصادر التي تحدثنا إليها قدمت إجابات متباينة عن السؤال: ماذا سيفعل الرئيس السبسي بالتقرير في احتفال عيد المرأة التونسية؟ رئيس رابطة حقوق الإنسان قال: «ربما يطرح المساواة في الميراث معلنا عن مشروع قانون يقدمه إلى البرلمان مع تأكيد حرية اختيار المورث صاحب المال والملكية بين القبول بهذه المساواة أو تركها وكما اقترح التقرير ذاته ولعلها صيغة وسط يتقبلها الحداثيون والمحافظون ؟» واستبعد القيادي بنداء تونس طرح أي مبادرة رئاسية في هذا التوقيت أما رئيسة اللجنة ذاتها فقد بدت متفائلة بتفاعل الرئيس السبسي ايجابيا مع التقرير وقالت لنا : «أنا متأكدة بأن عيد المرأة التونسية سيشهد إعلان الرئيس السبسي عن أمر جديد وهام».