فجر الرئيس التونسى الباجى قايد السبسى النقاش على نحو غير مسبوق فى بلاده حول المساواة فى الميراث بين الرجل والمرأة بكلمته أمام الاحتفال بيوم المرأة التونسية والذى يوافق 61 عاما على قانون الأحوال الشخصية الذى يجرم تعدد الزوجات ويمنح المرأة حق الطلاق أمام القضاء كالرجل وبين ليلة وضحاها إنتقل الاهتمام فى المنابر السياسية والإعلامية من فرص إجراء الانتخابات البلدية فى موعدها 17 ديسمبر 2017 وحدود الأزمة الاقتصادية واحتمالات التعديل الوزارى وترشح رئيس الحكومة يوسف الشاهد للرئاسة عام 2019 بعد صعود شعبيته الى مبادرة المساواة فى الميراث . بل وفرضت هكذا المبادرة نفسها على نقاشات التونسيين بالأماكن العامة والخاصة على نحو لم تعرفه القائمة الطويلة من عناوين أجندة الجدل السياسى هذا الصيف. ودون الخوض فى الجدل الدينى الفقهى بهذا الشأن فإن فهم المبادرة الرئاسية التونسية المثيرة للجدل والتى وصفتها صحف تونسية بأنها «ثورة «وتنبئ بمشهد سياسى جديد يتطلب: أولا .. التعرف على سياق اطلاق المبادرة، وثانيا .. ما الذى طرحه الرئيس التونسى بالضبط؟ ..وثالثا وأيضا تقييم ردود الفعل الأولية وماتنبئ به من انعكاسات وتداعيات على المسرح الحزبى والسياسى . وأولا فإن الدعوة للمساواة فى الميراث تتبناها منذ عقود جمعيات نسوية وحقوقية بتونس ترى أن البلد مهيئ للانتقال الى هذه الخطوة بميراثه الحداثى إنطلاقا من الإجراء الاجتماعى الأهم بعد أقل من أربعة أشهر من الاستقلال ( مجلة أو قانون الأحوال الشخصية) ولما قطعته المرأة التونسية من أشواط فى الحياة الإقتصادية وفى مختلف مجالات العمل ( على سبيل المثال 41 فى المائة من القضاة و 60 فى المائة من الأطباء و 50 فى المائة من المهندسين فضلا عن حمل السلاح فى صفوف الجيش والشرطة) و تحملها أو مشاركتها فى تحمل مسئولية إعالة الأسرة ( وبنسبة 47 فى المائة) . وفى صيف العام الماضى تقدم النائب بالبرلمان المهدى بن غربية (وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية حاليا ) باقتراح لسن تشريع فى هذا الاتجاه .لكنه لم يجد طريقه الى التصويت بعدما عاد نواب أيدوه وسحبوا توقيعاتهم قائلين « الوقت غير مناسب بعد «. ولاشك أن مبادرة الدعوة للمساواة فى الميراث التى اطلقها السبسى هى الأهم فى إذا ما أخذنا فى الاعتبار أن أيا من برامج الأحزاب والشخصيات الرئيسية التى خاضت الانتخابات التشريعية والرئاسية خريف 2014 لم يطرح صراحة هذه الدعوة. إطلاق المبادرة الرئاسية بما لها من ثقل غير مسبوق فى طرح المساواة فى الميراث جاءت محمولة على زخم أطلقه تصديق البرلمان فى 26 يوليو الماضى باجماع النواب الحضور (بما فى ذلك نواب النهضة ) على قانون القضاء على العنف ضد المرأة، والذى عزز لدى النخبة التونسية بمختلف مشاربها شعورا بالريادة فى مجال حقوق المرأة . ولقد صحب هذه الخطوة أمران : الأول هو التذكير بما يتضمنه دستور ما بعد الثورة ( الجمهورية الثانية) من تأسيس لمرحلة جديدة من التحولات الاجتماعية على صعيد الحقوق الفردية وحرية الضمير و المساواة فى كل المجالات وحقوق المرأة. والثانى هو تسويق تونس الى أوروبا والمجتمع الدولى بوصفها أول بلد عربى يسن مثل هذا التشريع وبأنها الأقرب فى محيطها للحاق بالمنظومة الحقوقية الكونية . وثمة فى تونس الآن تيار مؤثر يمتد من المجتمع المدنى بجمعياته وحقوقييه وحركته النسوية الى داخل مؤسسات صنع القرار السياسى يرى أن هناك إمكانية للانتقال الى خطوة أخرى بفضل الزخم الناجم عن إقرار قانون القضاء على العنف ضد المرأة.وعلما بأن تونس استحدثت بعد الثورة نظاما انتخابيا يعتمد التناصف بين الرجال والنساء على قوائم المرشحين.وأسفر الآن عن برلمان تشغل المرأة بالانتخاب 31 فى المائة من مقاعده . وثانيا .. من يتابع كلمة الرئيس السبسى بمناسبة عيد المرأة التونسية وما صحبها من قرارات بامكانه أن يتبين مالذى طرحه بالضبط بشأن الإرث وكيف ؟. فهو لم يصل بالمفاجأة الى مداها ويعلن التقدم بمبادرة تشريعية ( مشروع قانون ) الى البرلمان . إنه فقط إختار أن يقول للتونسيين رسالة قوية واضحة مفادها : أننا أصبحنا مؤهلين للمضى نحو المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة استنادا الى الإرث الحداثى البورقيبى و الدستور الجديد وماأكتسبته المرأة من مسئوليات بما فى ذلك الانفاق على الأسرة لكننا سنسعى ألا نصطدم بمشاعر دينية لدى قطاع من الرأى العام .وعلى المستويين الشخصى والمؤسسى ( الرئاسة ) أكد انحيازه لهذه المساواة . وقد انعكس هذا الانحياز أيضا على «لجنة الحريات الفردية والمساواة» التى شكلها و المكلفة باعداد تقرير فى غضون ستة أشهر يعالج المساواة فى الميراث وغيرها .وهذا سواء بالنسبة لتوجهات وخبرات أعضائها التسعة (ليس من بينهم رجل دين واحد ومعظم الأعضاء حداثيون أو أقرب للحداثة) أو رئيستها النائبة الليبرالية «بشرى بلحاج حميدة « التى طالما دخلت فى تجاذبات مع الإسلاميين . وفى كل الأحوال فقد فتح الرئيس السبسى النقاش على نحو غير مسبوق بشأن المساواة فى الميراث مع تجنب التعجل بالذهاب لاختبار ماطرحه أمام البرلمان صاحب سلطة التشريع. وثالثا ..فى ظل غياب نتائج استطلاعات رأى الى حينه فإن ردود الفعل الأولية على مبادرة السبسى بين المواطنين التونسيين فى شوارع العاصمة تونس تبدو شديدة التباين بين مؤيد متحمس و معارض ومتحفظ ولامبال ومن يرى أن «فى البلاد من المشكلات والهموم المعيشية ما يستحق أن يكون أولى بالمبادرات الرئاسية والنقاش». وبالطبع فإن القادمين من وسط وجنوب البلاد هم الأكثر معارضة ، وحيث مازالت بعض النساء يتنازلن أو يجبرن على التنازل عن حصصهن فى الميراث بالأصل للحفاظ على ملكية الأراضى والعقارات فى ذات الأسرة . أما ملامح ردود الفعل على خريطة الحياة السياسية والحزبية فهى الأكثر مدعاة للانتباه. وإجمالا يمكن القول الى حينه أن الأحزاب والقوى الليبرالية واليسارية الرئيسية تؤيد المبادرة الرئاسية ،مع قليل تحفظ بين رموز يسارية تحت عناوين « الأولويات» و« التوقيت». ولقد كان لافتا فى مشهد حضور الاحتفال بعيد المرأة التونسية وكلمة السبسى جلوس حافظ السبسى نجل الرئيس المدير التنفيذى لحزب «نداء تونس » وخصمه السياسى اللدود محسن مرزوق الأمين العام لحزب «مشروع تونس» الانشقاق الأكبر والأهم عن «النداء» والذى يشغل الكتلة الثالثة بالبرلمان متجاورين ،ما يحمل رسالة باصطفاف أهم حزبين ليبراليين معا خلف الرئيس السبسى فى مبادرته. ولكن الأنظار تتركز أكثر على حزب حركة النهضة حليف السبسى ونداء تونس فى الحكم والذى أصبح الكتلة الأولى فى البرلمان بعد الإنشقاقات على «النداء». وفى ظل غياب رئيس النهضة راشد الغنوشى خارج البلاد عن حضورخطاب السبسى وعدم انعقاد أى هيئة قيادية بعد بإمكانها أن تناقش مؤسسيا وتصدر بيانا ، فإن التصريحات الصادرة عن قيادات الحزب تتسم بالحذر مع تنوع فى الاجتهادات الشخصية بين مؤيد ومنزعج ومطالب بالاستفتاء الشعبى وعلما بأن النهضة تحرص منذ انتخابات عام 2011 على تأكيد انها لاتعارض قانون الأحوال الشخصية وما تضمنه من مكتسبات للمرأة .كما أنها اندفعت للاحتفاء والاحتفال بالقانون الجديد للقضاء على العنف ضد النساء . وثمة بين المراقبين فى تونس من يشكك بقدرة قيادة النهضة فى ابتلاع خطوة المضى الى المساواة فى الميراث والقبول بها،وذلك مراعاة لطبيعة كوادرها وجمهورها . وهناك ما يفيد بأن مبادرة السبسى فاجأت النهضويين وأربكتهم .كما أنها وضعتهم فى اختبار صعب: إما مجاراة المبادرة بما يحمله هذا الموقف من انعكاسات سلبية داخل الحركة وبين جمهورها وفى مناطق شعبيتها الأكبر بالجنوب ، وإما إعلان المعارضة لها مما يهدد توافقها وتحالفها مع الرئيس السبسى و«النداء» ،وهى شديدة الحرص عليه .كما يمس بصورتها « المتطورة والحداثية » بالخارج والأسئلة المطروحة هنا هى : هل تفتح مبادرة المساواة فى الإرث الباب أمام العودة الى أجواء الاستقطاب ( العلمانى / الإسلامى) التى كانت سائدة قبل انتخابات نهاية 2014 وفى غضونها؟. وهل تجرى الانتخابات البلدية المقبلة فى أجواء استقطاب ما يعزز فرص «نداء تونس» مراهنا على استعادة وتعبئة خزانه الانتخابى الكبير بين النساء وفرض مسألة استئناف مسيرة الحداثة البورقيبية على أولويات أجندة الانتخابات البلدية المقبلة ؟