كتبت : مروي محمد إبراهيم الاندماج..أم الانفصال, خياران تقف أمامهما أوروبا حائرة وهي تتحسس طريق آمن للمستقبل. فلم تترك أزمة الديون السيادية التي تلعب فيها اليونان دور البطولة- أمام دول الاتحاد الأوروبي بشكل عام. ومنطقة اليورو بشكل خاص خيارا آخر; فهم محاصرون بين زيادة تماسكهم والتحول إلي الحكم الفيدرالي لتصبح النسخة الأوروبية من أمريكا أو بمعني آخر الولاياتالمتحدة الأوروبية.. أو الاختيار الأسوء وهو التفكك والذي قد يبدأ بالضرورة بقرار استبعاد اليونان من العملة الأوروبية الموحدة. وهو القرار الذي تسعي أوروبا جاهدة لتجنبه لأنه سيعقبه قرارات أخري مماثلة قد تقع ضحيتها إسبانيا وإيطاليا.. والبقية تأتي. الولاياتالمتحدة الأوروبية' هو حلم قديم يراود قيادات القارة البيضاء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.. إلا أنه مازال الاختيار الأصعب الذي يتطلب الكثير من حسابات المكسب والخسارة. منذ خمسينيات القرن الماضي, وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية, وأوروبا تعتقد أن قوتها تكمن في اتحادها بهدف حماية أراضيها وشعوبها مما تعرضت له دولها من احتلال ومهانة, ومن ثم فقد سعت جاهدة للتغاضي عن النزعة القومية بين شعوبها, واستبدالها بنزعة أوروبية تساعد بقدر الإمكان علي التقريب بين مواطنيها, وربما توحيد اقتصادها وخط دفاعها بحيث تتصدي لأي عدوان خارجي وتتحول إلي قوة عالمية لا يستهان بها. وكان اتفاق' مجتمع أوروبا للفحم والصلب' عام1951 الخطوة الأولي علي طريق تحقيق حلم أوروبا الفيدرالية عبر خلق سوق تجارية أوروبية مشتركة, وكان أحد الأهداف الرئيسية للاتفاق الجديد هو وضع كلمة النهاية للأبد للحرب بين فرنسا وألمانيا الغربية آنذاك. وتطور التقارب الأوروبي إلي أن بلغت الوقت المناسب لإعلان الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي عام.1993 ويبدو أن حلم الماضي الأوروبي عاد للحياة من جديد قبل شهرين, خاصة مع تفاقم أزمة اليورو واشتداد إجراءات التقشف التي تعاني منها أغلب دول أوروبا في الوقت الراهن. فقد توصلت مجموعة عمل مكونة من عشرة وزراء خارجية أوروبيين إلي نتيجة أكيدة- من وجهة نظرهم- وهي أن زيادة الاندماج بينهم هو السبيل الأمثل لخروج اليورو من مأزقه. ليظهر مرة أخري تعبير' الولاياتالمتحدة الأوروبية' كطوق نجاة للمنطقة. وبالطبع هذا الاقتراح لا يمكن الاستهانة به, فاندماج أوروبا وتحولها إلي فيدرالية سيجعلها مركز قوة ربما تفوق قوة الولاياتالمتحدة نفسها سواء علي الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو حتي من ناحية القوة العسكرية. فأوروبا الفيدرالية ستمثل قوة بشرية ضاربة يصل قوامها إلي نحو731 مليون نسمة تقريبا, كما تعتبر قوة اقتصادية لا يستهان بها وستعطي حينئذ دفعة قوية لليورو لتتجاوز قيمته قيمة الدولار في المستقبل, خاصة وأن الإحصاءات تؤكد أن منطقة اليورو تمثل13% من الاقتصاد العالمي, في حين يعتبر اليورو ثاني أكبر عملة في الاحتياطي العالمي. وذلك بالإضافة إلي السياسات الخارجية الأوروبية المعتدلة, فهي أكثر حيادية من نظيرتها الأمريكية. وهذه العناصر مجتمعة ستخلق بالتأكيد قوة خارقة بديلة للقوة الأمريكية التي استنفدت فرصها في الأعوام الأخيرة. ولكن هذا الوجه المشرق المبشر بمخرج أكيد للأزمات الراهنة للقارة العجوز ليس الوجه الوحيد للعملة, فهناك جانب مظلم يجرد الدول الأوروبية من استقلاليتها وحقها في تقرير مصيرها اقتصاديا وسياسيا وربما اجتماعيا لتفقد في النهاية هويتها. فوفقا للشكل الجديد للدولة الفيدرالية المقترحة, سيتم تقليص سلطة قادة الحكومات القومية في مقابل منح سلطات واسعة للمفوضية الأوروبية وبالتحديد رئيس المفوضية المنتخب والذي سيكون من حقه تشكيل فريق انتخابي ليصبح بذلك أهم دبلوماسي أوروبي. وستتحول كل دولة- مشاركة في الدولة الجديدة- إلي مجرد ولاية تخضع للحكومة الفيدرالية التي ستضع السياسات الدفاعية والاقتصادية وستتحكم في كل مقدرات الدولة, وبالتالي ستصبح عضوية هذه الولايات في العملة الموحدة اليورو أمر لا رجعة فيه. إن التجربة الأوروبية تؤكد أن الاتحاد ليس في كل الأحوال قوة, وعلي الرغم من أن الاندماج الكامل قد يحمل الحل الذي تبحث عنه أوروبا لتجاوز أزماتها الاقتصادية. ولكن ثمن هذه الوحده سيكون باهظا, ستدفعه كل دولة من هويتها ونكهتها الفريدة التي تميزها عن جيرانها واستقلاليتها وحقها في اتخاذ قراراتها وقوميتها..بل وربما لغتها في المستقبل البعيد.