الطائفة الإنجيلية: التعاون بين المؤسسات الدينية والمدنية يعكس حضارة مصر    «القومي للمرأة» يهنئ إيناس عبد الدايم لإعادة انتخابها رئيسة للمجمع العربي للموسيقى    الفجر بالإسكندرية 5.45.. جدول مواقيت الصلاة في مدن الجمهورية غدًا الأربعاء 29 أكتوبر 2025    وكيل «خطة النواب»: الاتفاق المصري الأوروبي يعزز أداء الاقتصاد الوطني    مدبولي: تجهيز شاشات عرض بالمحافظات لمتابعة فعاليات افتتاح المتحف المصري الكبير    محافظ الفيوم يوجه بتسريع ملف التصالح وتحسين مستوى النظافة في طامية    مسؤول فلسطيني: مصر تؤدي دورًا تاريخيًا في دعم القضية ووقف العدوان على غزة    كييف تعلن إسقاط 26 طائرة مسيرة روسية خلال الليل    شريف يقترب من العودة.. موقفه من السوبر المصري يتحدد بعد مواجهة بتروجت    شوبير يكشف حقيقة العرض الليبي لضم أشرف داري من الأهلي    إطلاق الخطة العربية للوقاية من المخدرات من داخل مركز علاج الإدمان في مصر    المتحف الكبير أصبح حقيقة.. مدير المشروع يكشف تفاصيل رحلة ال15 سنة    بعد تصدرها ب «هات إيديك يا ولا».. معلومات عن الحاجة نبيلة «بلبل الشرقية»    محمد قناوي يكتب: «السادة الأفاضل».. سينما تفضح نفاق المجتمع بابتسامة ساخرة    جهود لبنانية - أمريكية لحصر السلاح بيد الدولة.. وحزب الله يرفض التسليم    ضمن «صحح مفاهيمك».. واعظات «الأوقاف» يقدمن لقاءات توعوية لمكافحة العنف ضد الأطفال بشمال سيناء    شقق شركة مدينة مصر تبدأ بمقدم 140 ألف جنيه وقسط شهري 5 آلاف فقط.. تفاصيل المشاريع وفرص الاستثمار العقاري    لتعزيز الصدارة.. موعد مباراة نابولي ضد ليتشي والقناة الناقلة    موعد مباراة أتالانتا وميلان في الدوري الإيطالي    حسم موقف آدم كايد من مباراة الزمالك والبنك الأهلي    رابطة الأندية: لا تأجيل لمباراتي بيراميدز.. وطولان لم يقدم برنامج إعداد المنتخب الثاني    وزيرة التخطيط: تهيئة بيئة الاستثمار لتوسيع نطاق مشاركة القطاع الخاص    الداخلية تعلن البدء فى إجراء قرعة الحج بعدد من مديريات الأمن بالمحافظات    صانع محتوى يدّعى تعرضه للسرقة لزيادة المشاهدات.. والأمن يكشف الحقيقة    حملات أمنية مكبرة بكافة قطاعات العاصمة.. صور    بدء إضافة المواليد على بطاقة التموين 2025 عبر استمارة تحديث البيانات الجديدة    الرئيس السيسى يثنى على الخدمات المُقدمة من جانب صندوق تكريم الشهداء    سنوات رسم خريطة جديدة لمصر    المسألة المصرية وعقلية «روزاليوسف» الاقتصادية    افتتاح المتحف المصري الكبير 2025.. مصر تبهر العالم في أضخم حدث ثقافي بالقرن الحادي والعشرين    من قلب الأقصر.. «مدينة الشمس» تستعد لاحتفال أسطوري بافتتاح المتحف المصري الكبير| فيديو    الإفتاء توضح الحكم الشرعي لتقنية الميكرو بليدينج لتجميل الحواجب    جراجات مجانية لأعضاء النادي في انتخابات الأهلي    محافظ أسيوط يستقبل الرحلة الجوية المنتظمة بين القاهرة وأسيوط دعما لمنظومة النقل والتنمية بالصعيد    عشرات شاحنات المساعدات تغادر رفح البري متجهة إلى غزة عبر كرم أبو سالم    مقتل ثلاثة أشخاص في جامايكا أثناء الاستعدادات لوصول إعصار ميليسا    رئيس جامعة سوهاج يعلن تكليف 1113 أخصائي تمريض لدعم المستشفيات الجامعية    الشبكة هدية أم مهر؟.. حكم النقض ينهى سنوات من النزاع بين الخطاب    جامعة القناة السويس تنظم قافلة شاملة بقرية أم عزام بمركز القصاصين    دراسة: زيارة المعارض الفنية تُحسن الصحة النفسية    ب«الشيكولاتة والعسل والتوت».. طريقة عمل ال«بان كيك» أمريكي خطوة بخطوة    غيران ولا عادي.. 5 أبراج الأكثر غيرة على الإطلاق و«الدلو» بيهرب    اتصال هاتفي بين وزير الخارجية ومستشار الرئيس الأمريكي لبحث تطورات الأوضاع في السودان وليبيا    ضبط صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع رقص ب«ملابس خادشة» في الإسكندرية    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 2026 ومكانته العظيمة في الإسلام    ضبط (100) ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    ضبط 3 أطنان دقيق في حملات مكثفة لمواجهة التلاعب بأسعار الخبز الحر والمدعم    استعدادات مكثفة لمتابعة جاهزية المراكز الانتخابية قبل انطلاق انتخابات النواب بقنا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 28-10-2025 في محافظة الأقصر    14 شاشة لمشاهدة احتفالات افتتاح المتحف المصري الكبير بأسوان    وزير الداخلية التركي: لا خسائر بشرية جراء زلزال باليكسير    ميسي يكشف عن موقفه من المشاركة في كأس العالم 2026    نزلات البرد وأصحاب المناعة الضعيفة.. كيف تتعامل مع الفيروسات الموسمية دون مضاعفات؟    الباعة الجائلون بعد افتتاح سوق العتبة: "مكناش نحلم بحاجة زي كده"    استقرار اسعار الفاكهه اليوم الثلاثاء 28اكتوبر 2025 فى المنيا    خالد الجندي: في الطلاق رأيان.. اختر ما يريحك وما ضيّق الله على أحد    بالصور.. سفارة باكستان بالقاهرة تحيي ذكرى يوم "كشمير الأسود"    سفير الصين يشيد بجهود مصر في اتفاق غزة ويؤكد التزام بكين الثابت ب"حل الدولتين"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آدم
نشر في الأهرام اليومي يوم 18 - 08 - 2012

قبل غروب شمس تلك الجمعة‏,‏ وصل إلي ميدان التحرير للمرة الأولي في حياته‏,‏ ولم يغادره مرة أخري أبدا‏..‏ كان رجلا وسيما, في بدلة كاملة ورابطة عنق, نظارته الطبية فوق عينيه, وقلمه الحبر الثمين في جيب الجاكيت, في رأسه المفكر تتزاحم الأفكار, وفي قلبه تضطرب مشاعر متناقضة وعنيفة, في عينيه وعلي وجهه نظرة ازدراء, لا يعرف منذ متي رافقته.
للمرة الأولي في حياته, في تاريخه, الذي يحسبه مجيدا, خضع!
لم يخضع فقط, بل انضم للقطيع مسلما قياد نفسه له, مذهولا مما يفعل, ويأتي.
خرج, أخيرا, من عزلته, وفرديته العزيزة علي قلبه, الأثمن من حياته ذاتها, خرج من جلده للمرة الأولي, ليسير في الشارع كواحد من كل, لا قيام لفرديته سوي به.
طوال المسافة من بيته للشارع الرئيسي, ثم أخذه للتاكسي ووصوله للتحرير, كان يوغل في حلم, في فيلم سينمائي, يمثله ويتفرج عليه ويخرجه هو وحده. كان قد أصابته براءة وجوده الجيد, وصفعت وجهه, بلا سبب, وبلا اختيار, وبدون مناسبة جليلة, أيضا.
وصل الميدان حتي صار بين جموع الناس, في زحمة الخلق, وترك لفيضان حركة الأجساد قيادة جسده, وتحديد حركته, ومكان جلوسه, واستقراره النهائي. دفعته الأجساد من حوله حتي وصلت به للسور الحديدي المحيط بالميدان, وامتدت إليه أياد كثيرة رفعته, أفسحت له بينها, وأجلسته بين اثنين فوق السور, فوجد جسده جالسا, مزنوقا بين جسدين, ورجلاه مدلتان. تلفت عن يمينه, وعن يساره, فلم ير سوي وجوه رائقة, باسمة بعيون, لامعة, وضيئة.
كان اسمه الذي اختاره له أبوه هو'آدم', وآدم لن يعود لسريره في غرفه نومه, بعد اليوم, والليلة لن يعود أبدا, لما كان عليه طيلة عمره القصير, البالغ أربعين عاما.
الليلة سيفتح لروحه النافذة الأبدية التي كانت أمامه طيلة الوقت ولم يرها, سيفتحها ولن تغلق مرة ثانية أبدا. يده المهتزة, أصابعه المرتعشة, وقلبه الواجف, وعقله العلمي, كل هؤلاء كانوا يقفون خلف كل طريق سلك, ووراء كل فعل أتاه. بين الجسدين الدافئين, المحصور بينهما, فجأة, أدرك أنه كان يعيش في موت مقيم, وظلمة دامسة, حواسه الكاملة شديدة الرقي كانت معطلة عن العمل, آه.. تعطلت طويلا عن القيام بوظائفها الجميلة حتي صارت صدئة, غير نافعة في رؤية لون ورقة شجر, أو سماع بلبل يغرد في هدأة الليل, أو تذوق طعم حبة كريز. كان يمشي في الشوارع ليلا, دون أن ينتبه للقمر في السماء, ولصوت النهر عن ييمنه, وأرواح الكائنات االبشرية التي تروح, وتجيء, أمام عينيه المفتوحين علي اتساعهما. لكن العينين كليلتي النظر, لا تبصران شيئا. تحت نظارته الأنيقة, رهيفة العدسات, كانت عيناه تعملان مثل ماكينة يدور ترسها بلا فرم, ماكينة تمده بصور زائفة, واهية وقبيحة, توقظ في روحه ماضيه الميت, أو مستقبله المجهول, فيعمي عن كل شيء.
كان جسده يتنفس, يأكل, ويشرب, ويتحرك, يذهب للعمل, يحاضر ويكتب المذكرات الدراسية, جاثيا في قاع نهر حياته الجاري. لم يدرك يوما ما منبع أيامه, ولا المصب الذي تسير نحوه لياليه. اليوم, الليلة, في هذه اللحظة المشرقة رأي المنبع, والمصب مجسدا أمام عينيه بعد أن خلع نظارته, وحدق دون زجاج, وعدسات.
عندما نظر, وحملق فيما حوله, غردت في روحه طيور, وغنت عصافير, وشدت بلحن سماوي دائم, متصل, لا ينفد, ولا ينتهي.
وهو جالس فوق حديد سور الميدان, كان جسده القصير, بكرشه المترهل تحت الجاكتة, محكمة الغلق, قد صار عينا واحدة, واسعة, لها قدرات خارقة, في رؤية كل شيء أمامها, عن يمينها, عن يسارها, حولها ووراءها. كان قد صار ما يملك من جسد أشعة للشمس, تسري بلا عائق, أو صاد. أمامه, علي امتداد بصره اللامتناهي, عينة عظمي من الإنسان, حين يغلبه شوقه للحرية, حين يغضب ويصرخ في وجه الكون مطالبا بفك أسره, وإطلاق سراحه من عبوديته. كان آدم قد نسي جسده وأناه, وصار منفصلا عما حوله من بشر, ونبات, وحجر. كان وحيدا تماما مع مشهده, ورؤاه, كل الناس هو, صار الرائي والمرئي.
علي امتداد بصره الخارق يري آدم نفسه يسعي علي أسفلت الميدان بمئات ألآف الأقدام, يسعي عملاقا, غاضبا, وحانقا من طول سجنه في الظلمة, محتجا علي تكبيل رجليه وقدميه ويديه, وإخفاء قلبه وعقله عن بصره.
بكلمتين, كان آدم يطلب أن يصير حرا, وكريما.
فوق رأس آدم كانت تحوم تلك الكلمة المعجزة, والتي لا تعني شيئا محددا بعينه, لكنها صوت خلاصه, ولغة إرادته الأبدية, الكلمة الجميلة, جميلة الجميلات, أعذب لحن يمكن أن يعزفه إنسان. فوق رأسه, وحوله, كان يصدح ملايين الناس:' حرية.. حرية'.
طرب آدم في مكانه, فاهتز كيانه.
لم يخش أن يؤدي اهتزاز جسده إلي الوقوع من فوق السور, وعلي أجساد الناس المتزاحمين أمامه, كان خوفه قد ولي منذ جاء ها هنا, اختفي وزال ساعة أدرك أنه آدم, كالناس جميعا, طالب للحرية, وساع إليها, لا يرضي بسواها. من جسده خرجت روحه الجديدة تحلق حوله, حمامة بيضاء, تزقزق وتغني, تطير بلا ثقل من لحم ودم. صار آدم أثيريا كشعاع شمس, فقد ذاته, وانتهي أمره علي أجمل ما يكون.
حين رآه الناس جسدا يسقط من فوق السور فوقهم كتلة من خشب يابس, برفق أفرجوا بينهم مساحة علي الأسفلت, ومددوه, وسع من حوله, واقترب منه من صاح' أنا دكتور..وسع وسع'.
كان الطبيب, في مثل عمر آدم تقريبا.
الطبيب رفع يد آدم اليسري, ووضع معصمه بين بين إبهامه وسبابته, كان يتحسس النبض ويستشعره بإصابعه,بقلب الطبيب, بكل حواسه. تحولت, وتغيرت, ملامح وجهه كثيرا, وهو ينصت لصوت الدم الساري في الجسد الممدد بين يديه. ركبتاه علي الأرض ووجهه منكب بالتحديق في آدم الساكن.
كان النبض في جسد آدم قد توقف, لكنه في الروح قد بدأ.
وجه آدم صار لملاك, أجمل ملاك يمكن تخيله, ملاك أرضي سماوي, له جمال فريد, وهيبة تزيح من أمامها كل عين تحدق فيه.
حين رأي الناس هذا الوجه الفريد تراجعوا عنه مع الطبيب, خشعوا, ثم صعقوا, وراحوا يبتعدون عنه ببطء, وعيونهم معلقة به. توسعت دائرة الفراغ حوله, واختفي الناس, كل الناس, وصار وحده في مركز دائرة الميدان, فوقه صمت جليل, صمت كامل, تام, نهائي, صمت يمهد لعزف لسيمفونية جليلة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.