قبل غروب شمس تلك الجمعة, وصل إلي ميدان التحرير للمرة الأولي في حياته, ولم يغادره مرة أخري أبدا.. كان رجلا وسيما, في بدلة كاملة ورابطة عنق, نظارته الطبية فوق عينيه, وقلمه الحبر الثمين في جيب الجاكيت, في رأسه المفكر تتزاحم الأفكار, وفي قلبه تضطرب مشاعر متناقضة وعنيفة, في عينيه وعلي وجهه نظرة ازدراء, لا يعرف منذ متي رافقته. للمرة الأولي في حياته, في تاريخه, الذي يحسبه مجيدا, خضع! لم يخضع فقط, بل انضم للقطيع مسلما قياد نفسه له, مذهولا مما يفعل, ويأتي. خرج, أخيرا, من عزلته, وفرديته العزيزة علي قلبه, الأثمن من حياته ذاتها, خرج من جلده للمرة الأولي, ليسير في الشارع كواحد من كل, لا قيام لفرديته سوي به. طوال المسافة من بيته للشارع الرئيسي, ثم أخذه للتاكسي ووصوله للتحرير, كان يوغل في حلم, في فيلم سينمائي, يمثله ويتفرج عليه ويخرجه هو وحده. كان قد أصابته براءة وجوده الجيد, وصفعت وجهه, بلا سبب, وبلا اختيار, وبدون مناسبة جليلة, أيضا. وصل الميدان حتي صار بين جموع الناس, في زحمة الخلق, وترك لفيضان حركة الأجساد قيادة جسده, وتحديد حركته, ومكان جلوسه, واستقراره النهائي. دفعته الأجساد من حوله حتي وصلت به للسور الحديدي المحيط بالميدان, وامتدت إليه أياد كثيرة رفعته, أفسحت له بينها, وأجلسته بين اثنين فوق السور, فوجد جسده جالسا, مزنوقا بين جسدين, ورجلاه مدلتان. تلفت عن يمينه, وعن يساره, فلم ير سوي وجوه رائقة, باسمة بعيون, لامعة, وضيئة. كان اسمه الذي اختاره له أبوه هو'آدم', وآدم لن يعود لسريره في غرفه نومه, بعد اليوم, والليلة لن يعود أبدا, لما كان عليه طيلة عمره القصير, البالغ أربعين عاما. الليلة سيفتح لروحه النافذة الأبدية التي كانت أمامه طيلة الوقت ولم يرها, سيفتحها ولن تغلق مرة ثانية أبدا. يده المهتزة, أصابعه المرتعشة, وقلبه الواجف, وعقله العلمي, كل هؤلاء كانوا يقفون خلف كل طريق سلك, ووراء كل فعل أتاه. بين الجسدين الدافئين, المحصور بينهما, فجأة, أدرك أنه كان يعيش في موت مقيم, وظلمة دامسة, حواسه الكاملة شديدة الرقي كانت معطلة عن العمل, آه.. تعطلت طويلا عن القيام بوظائفها الجميلة حتي صارت صدئة, غير نافعة في رؤية لون ورقة شجر, أو سماع بلبل يغرد في هدأة الليل, أو تذوق طعم حبة كريز. كان يمشي في الشوارع ليلا, دون أن ينتبه للقمر في السماء, ولصوت النهر عن ييمنه, وأرواح الكائنات االبشرية التي تروح, وتجيء, أمام عينيه المفتوحين علي اتساعهما. لكن العينين كليلتي النظر, لا تبصران شيئا. تحت نظارته الأنيقة, رهيفة العدسات, كانت عيناه تعملان مثل ماكينة يدور ترسها بلا فرم, ماكينة تمده بصور زائفة, واهية وقبيحة, توقظ في روحه ماضيه الميت, أو مستقبله المجهول, فيعمي عن كل شيء. كان جسده يتنفس, يأكل, ويشرب, ويتحرك, يذهب للعمل, يحاضر ويكتب المذكرات الدراسية, جاثيا في قاع نهر حياته الجاري. لم يدرك يوما ما منبع أيامه, ولا المصب الذي تسير نحوه لياليه. اليوم, الليلة, في هذه اللحظة المشرقة رأي المنبع, والمصب مجسدا أمام عينيه بعد أن خلع نظارته, وحدق دون زجاج, وعدسات. عندما نظر, وحملق فيما حوله, غردت في روحه طيور, وغنت عصافير, وشدت بلحن سماوي دائم, متصل, لا ينفد, ولا ينتهي. وهو جالس فوق حديد سور الميدان, كان جسده القصير, بكرشه المترهل تحت الجاكتة, محكمة الغلق, قد صار عينا واحدة, واسعة, لها قدرات خارقة, في رؤية كل شيء أمامها, عن يمينها, عن يسارها, حولها ووراءها. كان قد صار ما يملك من جسد أشعة للشمس, تسري بلا عائق, أو صاد. أمامه, علي امتداد بصره اللامتناهي, عينة عظمي من الإنسان, حين يغلبه شوقه للحرية, حين يغضب ويصرخ في وجه الكون مطالبا بفك أسره, وإطلاق سراحه من عبوديته. كان آدم قد نسي جسده وأناه, وصار منفصلا عما حوله من بشر, ونبات, وحجر. كان وحيدا تماما مع مشهده, ورؤاه, كل الناس هو, صار الرائي والمرئي. علي امتداد بصره الخارق يري آدم نفسه يسعي علي أسفلت الميدان بمئات ألآف الأقدام, يسعي عملاقا, غاضبا, وحانقا من طول سجنه في الظلمة, محتجا علي تكبيل رجليه وقدميه ويديه, وإخفاء قلبه وعقله عن بصره. بكلمتين, كان آدم يطلب أن يصير حرا, وكريما. فوق رأس آدم كانت تحوم تلك الكلمة المعجزة, والتي لا تعني شيئا محددا بعينه, لكنها صوت خلاصه, ولغة إرادته الأبدية, الكلمة الجميلة, جميلة الجميلات, أعذب لحن يمكن أن يعزفه إنسان. فوق رأسه, وحوله, كان يصدح ملايين الناس:' حرية.. حرية'. طرب آدم في مكانه, فاهتز كيانه. لم يخش أن يؤدي اهتزاز جسده إلي الوقوع من فوق السور, وعلي أجساد الناس المتزاحمين أمامه, كان خوفه قد ولي منذ جاء ها هنا, اختفي وزال ساعة أدرك أنه آدم, كالناس جميعا, طالب للحرية, وساع إليها, لا يرضي بسواها. من جسده خرجت روحه الجديدة تحلق حوله, حمامة بيضاء, تزقزق وتغني, تطير بلا ثقل من لحم ودم. صار آدم أثيريا كشعاع شمس, فقد ذاته, وانتهي أمره علي أجمل ما يكون. حين رآه الناس جسدا يسقط من فوق السور فوقهم كتلة من خشب يابس, برفق أفرجوا بينهم مساحة علي الأسفلت, ومددوه, وسع من حوله, واقترب منه من صاح' أنا دكتور..وسع وسع'. كان الطبيب, في مثل عمر آدم تقريبا. الطبيب رفع يد آدم اليسري, ووضع معصمه بين بين إبهامه وسبابته, كان يتحسس النبض ويستشعره بإصابعه,بقلب الطبيب, بكل حواسه. تحولت, وتغيرت, ملامح وجهه كثيرا, وهو ينصت لصوت الدم الساري في الجسد الممدد بين يديه. ركبتاه علي الأرض ووجهه منكب بالتحديق في آدم الساكن. كان النبض في جسد آدم قد توقف, لكنه في الروح قد بدأ. وجه آدم صار لملاك, أجمل ملاك يمكن تخيله, ملاك أرضي سماوي, له جمال فريد, وهيبة تزيح من أمامها كل عين تحدق فيه. حين رأي الناس هذا الوجه الفريد تراجعوا عنه مع الطبيب, خشعوا, ثم صعقوا, وراحوا يبتعدون عنه ببطء, وعيونهم معلقة به. توسعت دائرة الفراغ حوله, واختفي الناس, كل الناس, وصار وحده في مركز دائرة الميدان, فوقه صمت جليل, صمت كامل, تام, نهائي, صمت يمهد لعزف لسيمفونية جليلة..