مصادر فلسطينية: صدى الانفجارات والقصف وصل من قطاع غزة إلى جنوب الضفة الغربية    4 أهداف لريبيرو مع الأهلي أمام المحلة .. ماعلاقة الزمالك والمصري؟    رسميًا.. القادسية الكويتي يعلن تعاقده مع كهربا    شيكابالا يتحدث عن.. احتياجات الزمالك.. العودة لدوري الأبطال.. ومركز السعيد    بهاء الخطيب.. ذبحة صدرية أودت بحياة الفنان الشاب    تنسيق جامعة الأزهر 2025.. مؤشرات القبول والحد الأدنى المتوقع لكليات البنين والبنات (موعد ورابط التسجيل)    تنسيق المرحلة الثالثة، الأخطاء الشائعة عند تسجيل الرغبات وتحذير من الرقم السري    الاحتلال الإسرائيلى يقتحم بلدتين بالخليل ومدينة قلقيلية    "وول ستريت جورنال": البنتاجون يمنع أوكرانيا من استخدام الأسلحة بعيدة المدى لضرب العمق الروسي    في 12 مقاطعة ب موسكو.. الدفاع الروسية تُسقط 57 مسيرة أوكرانية    تصل كييف خلال 6 أسابيع.. إدارة ترامب توافق على بيع 3350 صاروخا بعيد المدى ل أوكرانيا    فرنسا تستدعى السفيرة الإيطالية بعد تصريحات نائب رئيس الحكومة الإيطالية ضد ماكرون    وزير الاتصالات: الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى اندثار بعض الوظائف.. والحل التوجه لمهن جديدة    بينهم مصريون.. بنك HSBC يُغلق حسابات 1000 من أثرياء الشرق الأوسط    عقوبة تزوير الكود التعريفي للمعتمر وفقًا للقانون    الظهور الأول لمودريتش.. ميلان يسقط أمام كريمونيزي في افتتاحية الدوري الإيطالي    فينجادا: حزنت من انتقال زيزو إلى الأهلي.. والكرة المصرية تعاني من عدم الاحترافية    محافظ الإسكندرية يزور مصابي حادث غرق شاطئ أبو تلات بمستشفى العامرية    تفاصيل مصرع طفلة في انهيار سقف منزل قديم بالغربية    خسوف القمر الكلي.. مصر على موعد مع ظاهرة فلكية بارزة في 7 سبتمبر.. فيديو    انقلاب سيارة محملة بالزيت على الطريق الدولي ومحافظ كفر الشيخ يوجه بتأمين الطريق    للحفاظ على عمر البطارية.. نصائح مهمة لمستخدمي هواتف أندرويد وآيفون    وداعًا للبطاريات.. خلايا شمسية جديدة تشغل الأجهزة من إضاءة الغرف    مروة ناجي تتألق في أولى مشاركاتها بمهرجان الصيف الدولي بمكتبة الإسكندرية    بالصور.. ليلى علوي وأحمد العوضي وإلهام شاهين في الساحل الشمالي    الكاتب سامح فايز يعتذر لصاحب دار عصير الكتب بعد 3 أعوام من الخلافات    شاب بريطاني لم يغمض له جفن منذ عامين- ما القصة؟    وزير الصحة: نضمن تقديم الخدمات الصحية لجميع المقيمين على رض مصر دون تمييز    خلال اشتباكات مع قوات الأمن.. مقتل تاجر مخدرات شديد الخطورة في الأقصر    مصرع طفل وإصابة 2 آخرين في انهيار حائط بسوهاج    مهرجان القلعة.. أحمد جمال يطوي الصفحة الأخيرة للدورة 33 (صور)    في المباراة ال 600 للمدرب.. ويسلي يفتتح مسيرته مع روما بحسم الفوز على بولونيا    قصف مدفعي جديد يستهدف وسط غزة    وزير الإسكان يتابع موقف عدد من المشروعات بمطروح    رسميًا.. موعد المولد النبوي 2025 في مصر وعدد أيام الإجازة للقطاع العام والخاص والبنوك    برشلونة يقلب تأخره لفوز أمام ليفانتي بالدوري الاسباني    «قولتله نبيع زيزو».. شيكابالا يكشف تفاصيل جلسته مع حسين لبيب    مستثمرون يابانيون: مصر جاذبة للاستثمار ولديها موارد تؤهلها للعالمية    تاليا تامر حسني: التنمّر ليس مزحة.. إنه ألم حقيقي يدمّر الثقة بالنفس (فيديو)    عيار 21 الآن بعد الانخفاض.. أسعار الذهب اليوم الأحد 24 أغسطس 2025 محليًا وعالميًا    قلق عن الأحوال المادية.. حظ برج العقرب اليوم 24 أغسطس    لا صحة لوقوع خطأ طبي.. محمود سعد يوضح تطورات الحالة الصحية للفنانة أنغام    وسط ترقب وهتاف.. الجمهور ينتظر تامر حسني بحماس في مهرجان مراسي (صور)    رسميًا الآن بعد الانخفاض.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 24 أغسطس 2025    «المصري اليوم» في جولة داخل أنفاق المرحلة الأولى للخط الرابع ل«المترو»    محافظ شمال سيناء يوجه بتشغيل قسم الغسيل الكلوي للأطفال بمستشفى العريش العام    إحالة المتغيبين في مستشفى الشيخ زويد المركزى إلى التحقيق العاجل    "سلامة قلبك".. مستشفى جديد لعلاج أمراض وجراحة القلب للأطفال مجانًا بالمحلة الكبري    "كنت بشوفهم بيموتوا قدامي".. شهادة ناجية من فاجعة غرق طالبات سوهاج بشاطئ أبو تلات بالإسكندرية    «أوقاف المنيا» تعلن بدء احتفال المولد النبوي غدًا الأحد 24 أغسطس    تعرف على استعدادات تعليم كفر الشيخ للعام الدراسي الجديد    هل يجوز الطلاق على الورق والزواج عرفي للحصول على المعاش؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف تدرب قلبك على الرضا بما قسمه الله لك؟.. يسري جبر يجيب    أوقاف الدقهلية تبدأ اختبارات أفضل الأصوات في تلاوة القرآن الكريم    هل يجوز قراءة القرآن أثناء النوم على السرير؟.. أمين الفتوى يجيب    الجندي يشدد على ضرورة تطوير أساليب إعداد وإخراج المحتوى العلمي لمجمع البحوث الإسلاميَّة    حصاد الأسبوع    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زهرة واحدة تعمر هذه الروح
نشر في الأهرام اليومي يوم 30 - 03 - 2012

حركة فرحة تجتاح البيت والقرية‏,‏ يهل الصيف بحصاده فتتطلع العيون للحظة تمرح فيها بعد شتاء طويل‏,‏ أقدام تهزها توقيعات الدفوف فتراقص الجسد المتعطش للحظة بوح قصيرة يحلق فيها عبر سماء الروح خفيفا وجليلا‏.‏ بترقب هادئ أرقب الرجال والنساء والشباب والبنات المتجمعين بدارنا لحضور زفاف أختي, يقدمون تهانيهم ويشعل كل منهم لحظة فرحة, موج هادئ من ضوء يتراقص فوق الوجوه والعيون فيكشف ما بها, ويفصح ارتجافات الأبدان والأيدي المستترة بالجيوب وخلف الملاءات الثقيلة الكابسة فوق الأبدان المتحفزة.
وكأنني أقرأ صفحات غائمة من أيامي وانتفض انتفاضة حمامة تنظر للسكين التي تشحذها أمي, أرقب وجه أختي المتلون بألوان الفرح في كوشتها حولها بنات صغيرات بلبس بياض يحاكيهن, تدور عيني علي الوجوه المتعللة بالفرح فتشيع في الجو بهجة وفي النفس رقصة طويلة تبدأ توقيعها من نبض الدم حتي اختلاج الجلد, بهدوء كنت أكتوي بناء من قالت: طائرك غريب.
قريب من نبع الماء تتفجر كل أيامي بحثا, ترصد لهفة الطائر بين يدي أمي وسواد العين الذي يأخذ في الابيضاض, وتغمض العين اغماضتها الأخيرة ترتعش يدي والليل يلطف الجو بنسمات من عند نخلة الجدة حيث النهر كاسحا هواء جبليا حرق الوجوه والصدور طوال نهار طويل متعب.
تزغرد أمي كلما احتضنت إحدي النساء وتدفع بإحدي الفتيات المتمنعات لحلقة الرقص, فتقوم البنت وتنزل فوق البدن وتأخذ قدرها من الرقص, الشباب يتبادلون الأدوار والغناي سادر في غنائه للبنت الجميلة خلف الشال الاسود الطويل طالبا منها أن تلف.. تلف حتي يندفع الهواء بردا وسلاما علي قلب يحترق.
كأن كل ما أراه الآن هو صورة معكوسة لسنوات طويلة قبل مفاوضة القرية أيام الصبا الست أم عزيز جارتنا تحمل الشاي وتوزعه علي الحريم والبنات وتزغرد فرحة وتنزل تأخذ حقها من الرقص وتعود إلي صينية الشاي, تمسح عرق البدن والوجه بطرف طرحتها, ورأيتني وأنا الصغير انفلت في دار أم عزيز وهي تزوج ابنتها صفا مطلقا لنفسي عناني فأرقص أنا الطفل وسط البنات وهن يرقصن حولي وأمي توزع الشاي علي نساء البلدة المتجمعات يزغردن ويرقصن ويضربن علي الدفوف ويساعدن في أعمال الطبيخ, يرقصن للعروسة صفاء ويغنين لجمالها, وأمي توزع بهجتها علي أكواب الشاي وتطلق زغاريدها للحبيبة وبنت الحبيبة والبنت سناء بنت خالتي أم عزيز كما اعتدت أن أناديها. تضع يدها الصغيرة حول وسطي وترقص, كانت أصغر وأقصر مني, نلتحم في رقصة طويلة, نطاوع أجسادنا الطفلة, عندما ضايقتنا البنات برقصهن, رحنا للكوشة ورقصنا وحدنا أمام صفاء وهي تصفق وعيناها هناك علي فرج الجالس بين والدي والمقدس, بينما أمي وخالتي أم عزيز يضحكن لنا نحن الصغيران.
أنتبه لنفسي علي فرفرة الحمام المذبوح بسكين الام تجهيزا لعشاء عرائس الليلة, وكنت أتساءل هل الحمام يعرف أن السكين تسن من أجله فتبدو بعينه نظرة انكسار وحزن هادئ, غير أنه لا يقدم أبدا علي الفرار, يلبث هكذا هادئا ومطأطئا رأسه لالتقاط أخر حبات له علي الأرض, مواجها ضوء السكين بنظرة باردة وجامدة.
وأنا أري من جلستي فوق السرير الحديد الذي صنعه فرج الأضواء الغامرة وجوه البنات والشباب, فيمد أحدهم إصبعه يتحسس مكان دبلة خال فتضحك إحدي البنات فتقرصها جارتها بدلع وبسمة كبيرة, يوخذني السرير في ساقي فأقوم واقفا مستنشقا هواء الليل الذي تبدل عن صهد النهار, فيفتح الجسد مسامه لأزمنة بعيدة تهاجمه, تبدو كنقط ضوء غائمة, شائهة الملامح, غير إنها تأخذ في التجمع لتبح ضوء قويا يشك العين ويبهرها للحظات مخلفا كيا خفيفا يحرق عرق البصر, والذاكرة المشتعلة بأشياء قديمة غطتها سنوات كثيرة من الرمال والكتب وتفتح العقل, وإغلاق قلب وحبس روح خلف جدران عالية وأفكار وعادات تبدأ من أول العيب ومنتهية بالحرام, فتظل الروح كطائر الحمام المقدم علي حد السكين وغير قادر علي الفرار.
أمي لا تكف عن الزغردة لابنتها التي سيأخذها ابن خالها, العروسة أختي في كوشتها تتحلي بأبيضها وسط الضوء المنهمر من بين أوراق الموز وجريد النخيل, بجوارها سناء, آه, كبرت الآن واستوت بنتا يترصد الشباب حركتها عند الموردة غير طامعين إلا بنظرة واحدة من عينها, ونظرات طويلة لجسدها الملئ.
تمسك هي سناء بدفتر تقيد فيه اللواتي ينقطن أختي وتضحك, أشعل أنا سيجارة مداريا بها ارتجاف يدي وهزهزة البدن المتجاوب مع الغناء وكأن جسدي الآن يفلت مني.
أتلقي التحية من أحد الشباب وأسكن الجسد بالجلوس علي السرير الجريد, غير أني وقفت حين رأيت فرج زوج صفاء قادما ناحيتي, قبض علي بيده الناشفة وقال كلمات مباركة متمنيا أن يحضر فرحي أعطيته سيجارة وجلس بجواري, وراحت ذاكرتي تقلب أوراقها الكثيرة مثبتة ورقة أمامي, رأيتني والعيال نعابث فرج وهو يصنع الأسرة الجريد تحت النخل الذي قطع أبي جريده, وهو غير متلفت لنا مركزا بعمله, يقطع بالبلطة الجريد ويسويه صفوفا, يضع علامات عليها, ينظر إلينا بعينيه الجاحظتين قليلا:( العبوا بعيد) يثقب الجريد في موضع العلامات التي وضعها ويرصها من جديد.
بهدوء تسحبنا عندما نهرنا وهب فينا, عبرنا الترعة الواسعة من فوق العبارة وابتعدنا قليلا, وقفنا وفي نفس واحد شتمناة, لو أن عاصفة هي التي أطارته ما كانت تجعله ينط الترعة الواسعة, هكذا بقفزة واحدة, ماسكا بإحدي يديه العصا الجريد, نطير نحن أيضا ضاحكين وسادرين في شتمه تجاه الجبل, يقف وعيناه في وسط رأسه المنكوش الشعر يشتمنا وتربية العزبات لنا, ونهرب نحن تجاه البيوت.
بينما جالس أنا وأمي وأختي نتعشي أختطفني والدي بعنف من قفا الجلباب وركلني تجاه الباب, صرخت, وأمي وقفت غير قادرة علي السؤال, مسكني من يدي وطرحني خارج البيت وهو يضربني ثم ألقاني مشبوحا أمام دكان المقدس واقيم جارنا وصرخ في والدي: قول يا ابن ال.... مين كان معاك ؟ وما كنت قادرا علي قول شيء والتراب يملأ فمي والدم النازف من رأسي يختلط بالتراب ويلتصق بالجلباب, لم ينقذني منه سوي المقدس واقيم حيث جري وأحتضنني زاعقا بأبي: حرام عليك.. عيال صغيرة وأنا أشهق من البكاء وأبي يهدر بكلام لا أدريه, وفرج جلس ساكنا فوق الدكة الموجودة أمام الدكان, نادي المقدس علي زوجته خالتي أم عزيز وقادني عزيز من يدي إلي الداخل وأنا أبكي, وضعت هي البن علي الرأس بعد أن غسلته من الدم ومسحت الدم من علي الجلباب ونفضت التراب العالق به, كانت أختي وسناء تبكيان ونمت هناك.
تنهيدة طويلة أخرجها الصدر القابض علي فراغه وخرجت من الباب للشارع متابعا نظرة سناء المتلصصة ورن بأذني الصوت طائرك غريب.
الرجال يجلسون علي المصاطب وفوق الدكة يشربون الشاي ويدخنون السجائر ويثرثرون بحكاياتهم البعيدة وهمومهم اليومية, دارت عيني في الشارع ورأيت دكان المقدس واقيم للخياطة مغلقا, تمتد أمامه الدكك, جلس علي أحدها ابنه الكبيرة عزيز الذي تعلم صنعة الخياطة من والده, بينما يجلس المقدس واقيم جوار أبي في مواجهة باب البيت يشدون أنفاس الشيشة المشتعلة أمامهم.
لم أر أبدا الدكان مغلقا, دائما هو مفتوح, صارت للمقدس شهرة واسعة في البر كله بدقته في الصناعة وضربة مقصه التي تعجب الشباب قبل الكبار وفوق هذا لسانه الحلو, أكثر أيام العمل تكون دائما هي الأيام التي تسبق الأعياد, حيث يكون العمل ليل نهار, حتي أني سمعت أن زوجة عزيز تقوم بالخياطة داخل المنزل هي والست أم عزيز.
تقدمت قليلا تجاه البراح ورأيت النهر المطل في ليلة العرس هادئا ونخلة الجدة تتمايل بجريدها كأنها ترمي علي السلام, و رأيت تغريبتي الآن طويلة وقاسية, دائما كنت أختار جذع نخلة الجدة وأستند عليه واسلم نفسي لأروح الكتب حابسا روحي أنا منعزلا في مدينة بعيدة, رأيتني كأنني حبل البامية الذي تعلقه أمي في الهواء كي تنشف البامية بهدوء ودون ضجيج, هكذا أجف.. أجف كلون الورق حين يسقط من علي الشجر, تاركا نهر الحياة يمر أمامي دون أن أمد يدي لأخذ شربة قليلة تقوي هذه الروح وتبعث في هذا الجسد انتشاءه القديم, أخر مرة رقص فيما الجسد الطفل.
لم أقو علي الوقوف كثيرا فعاودت الرجوع إلي داخل البيت, شلال دافئ من البنات يتدافعن للدخول يزنقنني عند الباب ويتركنني ناشف الريق مرتجف البدن, كيف كان للحمام هكذا الصبر الطويل علي الحياة ملتقما حباته وهو يعرف ما هو صائر إليه, سكين حامية تجز الرأس إلا قليلا لتسكن بالعين صورة قديمة لطائر لا يحسن الكلام وكان قادرا عليه ففقد النطق متعللا أن كل الرؤي ليس هي التي تراها العين وأن هناك رؤي أخري تستعصي علينا وتحتاج لطول بال وتسليم بالمقدر والمكتوب.
( قليل اللي يفهم لغة العيون)
دخلت.. نادتني أختي, رحت لها شاقا أجساد البنات اللواتي حولها بكثير من الوجل والتعالي معلقا عيني بعيني سناء الواسعتين وأحس بصفاء ينسكب بداخلي.
أنت وعدتني ح ترقص يوم فرحي.
هكذا همست وكل العيون كنت أحسها تنظر لي, حاولت أن أقول شيئا, أعرفها أن جسدي لا يعرف الرقص غير أنها أكدت في نوبة زعل أنت وعدت أحسست أن الأمر يخرج من يدي ولا أعرف كيف التصرف وهي أختي التي أصغر مني, وسناء تضحك عيناها وهي تتملاني زي زمان, أداخني صوتها المنبعث همسا مخترق الجسد محطما كل تحصيناته ورأيت حشد البنات يبتسم وقلت: كل هذا الوقت وهذي البنات, ولا واحدة تعمر هذا القلب ودار رأسي وأنا أراها سناء- تنزل من هالة الضوء من جوار أختي, يتقدمها جسدها المتفجر وضحكتها الرائقة, جميلة هي ومباركة في البنات.
بهدوء قبضت علي يدي وأخذتني لطراوة يدها ودفئها ودق قلبي عاليا ممزقا الصدر الخرب راسما علامات الدهشة والعجب علي عيوني, وكانت هي من غير أن تخطئ تسير إلي جواري وتدفعني تجاه حلقة الرقص المشتعلة بدقها وغنائها وكنت أسير كأني منوم كطير الحمام تماما.
ازدادت الحلقة اشتعالا وهاجت الجموع الجالسة حين رأوها قادمة بكل عنفوانها وجسدها المستبد, تداخلت حركة الراقصين واضطرب صوت الغناي. للحظات توقفت الطبلة والطار, هم يحسبون أني سوف أقدمها لأن ترقص بينهم, هكذا بدون شال أو طرحة سوداء صغيرة تغطي الوجه. مسفرة عن وجهها الضاوي لعيني.
( يا ميت مراحب باللي جه)
هكذا انطلقوا وتوحد الصوت طويلا وعاليا, وأنا أقف أمامها وسط الحلقة مرتبكا كل الأشياء تغشي العين فتزغلل, تميل سناء قليلا ناحيتي محركة جسدها اللين, ناظرة في عيني تشجعني, استحضر في عقلي حركاتهم ورقص الجسد الطفل زي زمان فأرفع يدي عاليا ومبتعدا قليلا عنها, يتثني جسدها بهدوء متحفز لحركة قادمة انظر لوجهها المبتهج فرحا فلا أقوي إلا علي الابتسام, أتمايل قليلا وألف موليا إياها ظهري متجها ناحية الجموع الجالسة والمتعلقة عيونهم بها والكاتمين بالصدور آهة طويلة, كنت أود الخروج غير أني وجدتها أمامي ترقص تحت عيني وذراعي المرتفعين ارتعاشا.
عاودت الانثناء والدخول, حاسا بعرق خفيف يكسي الجسد المتيبس فأنزل يدي بارتجاف كبير من وراء ظهرها محاولا تطير خوف غبي يتردد بين جانبي, تلمس يدي الظهر فأصعق وجلا لترتفع دقات القلب كأنها ستشق الجلباب الملتف حول الجسد, ورأيتني طائر أبيض يرف مسلما نفسه هادئا وجميلا لحد السكين غير مكترث بما يجري له.
تضع هي يدها حول وسطي وهي تدور معي والعرق يلين مفاصلي, وعيناي تقرأ في سفر عينيها آيات طويلة من تاريخ طويل وكأنها سورة العشق المحتدم.
( بلا نار سيحي يا حلاوة بلا نار)
أجذبها ناحيتي فيضحك وجهها وتزداد تمايلا فيحتك الصدر بالصدر والأيادي بالظهر, وأمد اليد الخالية وأخذ يدها الخالية فتضغطها ضغطا خفيفا رائقا وجليلا, فأعاود القراءة مبهور العين ومشتعل الصدر.
الغناي ترك جلوسه ووقف بجوار الشباب الراقص تمايل مع طبلة تنقر القلب فيغني للحلاوة وأيام الهناء والناس يطلقون آهاتهم الحبيسة واقفين مكونين دائرة واسعة النساء يطلقن زغاريدهن, وأمي وخالتي أم عزيز تصفقان علي إيقاع الطبلة تتبادلان ابتساما هادئا مرتسما فوق الوجهين.
وما كنت بقادر علي منع الجسد الذي أطلق فورانه فأحرقني كتمرة داخل فرن أمي, فيطلق علقة لينا مخضبا الجسم بلون قرمزي يضوي تحت أنهر الضوء الغامرة المكان بسطوتها الجليلة فأحالته لنهار بهي كأنه لحظة شروق يداعب الضوء فيها طراوة الفجر الندية, وجسمي ينهض نافضا عنه غبار سنوات التعفن خلف أحجبة مزركشة يبهج لونها العين لكنها توجع القلب والروح فتصدر أنينا كأنين مفاصلي المتيبسة والمتعطشة للحظة رقص طويلة, هكذا أتمايل كنخلة الجدة حين يخاصرها الريح حنونا علي جريدها فتداعبه وتمسح عن وجهه الغبار ويمسح هو عن شعرها هوام الليل التي أرادت لها عشا.
نظل نتمايل سويا, هكذا.. وهكذا, نحتال علي أجسادنا حتي نأخذ لحظة احتكاك صغيرة قادرة علي إحراقنا, نفلت اليد لنلقف اليد الأخري وكأننا وحدنا الراقصون, لا يصلنا إلا همس التوقيع المنغم وجمال الصوت والكلمات المغناة بدلع وحرقة فاضحة زيف المراوغة والصبر الطويل.
جسدانا يوقعان لحنا واحد وخاصا, انسجاما عاليا يدور بين الأفلاك البعيدة راصدة حركة العين واليد والصدر والقدم, والروح ترف طليقة تألف من يفتح حضنه لبهجة أيامه, وكأننا نصير جسدا واحدا يأخذ كل المرح المستطاع نافضا عن ريشه حبات ماء ندية تضوي للعين فتسكنها البهجة هائل ينشع من الوجهين محلقا حولنا: فها هو طائرة يرقص بين يديه.
بلا نار سيحي يا حلاوة بلا نار
موجة من جيشان هادئ وبعض ارتجاف تنطق الجسد بكل مخونه المكنون المسطر فوق نمنمات الجسد كي يحلق عاليا وجميلا ليفك رموزه ألقه الغائب تحت ركام أيامه العصيبة, تهتز طويلا نخلة الجدة بفعل الريح التواق للمس الجريدة المغطي حقوله بوجده نافخا فيه روحه المتعطشة للازدهار خالق حافة من نهار طيع يلين لضحكة الرجال وانتظار النساء لمواسم الحصاد, يعابث الريح شعرها فتولد وجوهها المتعددة, ضاحكة مستبشرة, رافعة رأسها الجليل بهالة من إشراق وتوحد ساطعين ليفتح للروح أبواب اشتعالها تحمل في طياتها: إيزيس ومريم وهاجر ومارية وكل بنات العشق الأول لأول رفسة تدق البطن وتحرك هذا الفراغ المسيطر بلذة التكوين, فاردة حتي أخر المدي حبائل الروح لتضحك عيون الحزاني والمقهورين.
تتخاصر الألوان مكونة ألقا بهيا وطريا تاركة سلسلة من الإنفجارات الشجية تأخذ حقها من الإنفثاء الرهيف مدمرا حواجب الرؤية وضباب الفجر الذي يود الارتياح تاركا مكانه لضوء الألق والتحقيق, سريان هادئ يحمل سكونه المستقر برهافة كحد السكين بإجلال وتقديس رائعين ومجهزا نفسه للحظة الفداء باستسلام مطمئن قادرا علي كبح الدمعة المشاكسة مبديا من عينه بياضا رائقا غير مهتز, محتفظا لنفسه بأحلي لحظات اتزانه وحزنه الكظيم حاملا علي كاهليه هموم أرواح متعبة.
يرق طعم الليل مقطرا شهده علي عتبات الروح فتأخذ شرابا طهورا يدير الرأس قليلا فتدور معه لحظات شدوه القصيرة وتلتحم لتمتد أمام العين مواويل اخضرار ومواسم حصاد مانحة نفسها لشوق اليدين البهيتين, غاسلة أدران البدن لتفتح أبوابه كي يكون قادرا علي الاحتواء العميق غير متداخل في ذاته ولا ساعيا للحظة انعزال قاسية تدمر مناطق الحس وتترك الروح خرابة يسكنها بوم الأيام القاحلة وعقارب أزمان سحيقة تبتعث نفسها بنفسها قوية وقادرة علي إيجاد مكانها بحد سمها الزاعف المنسكب في الآذان, متسربلة بأردية لها القدرة علي الإبهار والتصديق تخفي وجهها تحت نقاب اسود طويل كي لا يبين القرن الطويل الخبئ بسمه وغدره, فلا تقدر الروح علي التوقع وتسلم بسذاجتها الرائعة لحد سكين مثلوم يميت قبل أن ينزل قطرة دم واحد.
بلا نار سيحي يا حلاوة.. بلا نار
الآن ها هو الجسد يعلن شهوة الطين للتخلق وللمسة يد الخزاف كي يسويه بناره هادئا ومشتعلا, راسما فوق خرائطه الصغيرة والفسيحة لون الدهر ورائحة البهية الطالعة من أقصي مناطق كمونه وسره, موضحا علي حدة تضاريسه صروح أمجاده القديمة وانحداراته القاتلة في عصور إظلاله, ينصب فخ الكلمات لاصطياد البنفسج ولولن الشفق الأخير, مطلقا أنبياءه وقد يسويه ملوكا فوق ذاكرة الزمن العصية كي تمسح هموم الأيام الطليقة التي تمرح فوق الوجوه المحزونة والتي تعلن عن توحدها الدفين.
هادئ هو يأخذ صفاء النهر الراقد علي طواحين عشقه بوجل قليل وتحفز مروع, يرسم أشياءه البعيدة بلا خجل كاشفا عن تدخل دوراته, مقدما محراثه ومنجله ساعة حصاد الدميرة وبشنس, غير مستسلم لزوابع أمشير ودوراته الودودة والواهبة للشجرة زهرات لقاح عالية تستيقظ فجرا كي تؤدي صلاتها في بهاء كبير, تخفض رأسها إجلالا وتعظيما لصوت الغناء الفواح المنطلق بين حقوله: الملك لك.
تختلط النصوص وتمتزج فاتحة جوهرها اللين والليل المشع ضياء وبهاء فيسح شراب اللبن بياض الحمام الطائر صوب الشمس ويأخذني للحظة احتراق بعيدة, يمد يده تجاه الصدر المختنق عشقا لا ينفرط ولا يرف بجناحه فوق وجوه أحبته, يقصر ظله متخوفا وهو أن استطاع يفرد لون الضياء عين ماء.
تتعانق مآذن وأبراج كنائس في فضاء العين المتعبة فلا تحفل إلا بالأنصاب وترمح للبعيد, تائه في سطور كتب تخلق أمجاد وحدة واحدة هاتفة: الملك لك.
أي نمنمات قاتلة تعكر الجو غبارا يلتف حول جريدة نخلة الجدة فتختنق, ترسل تمرها حجرا يساقط فوق رأسي وبين دفتي كتابي أنا الجالس عند جزعها أرفع رأسي فيحرقني ضوء الشمس الذي لا أراه.
سواد هائل يحاول فرد جناحه طاغيا كي يمنع طلوع نهار ساخن, يعتصر نصوص وجواهر قلوب كاتمة عشقها للطين, فتستوي بناره لألي, تطرد مناطق إظلام جاهلة نسيت نفسها وأسلمت نفسها للرمل فذابت عند وصول الماء المنهمر من سماء روح واحدة ترف بصوت واحدالملك لك.
هكذا الآن أبصر وافتح لذاكرتي المتعبة مرافئ الرجوع فتعيد ترتيب نفسها كحبات مسبحة لا انفصام بين حباتها, تكمل العقد والألوان كهرمان يشوي صفحة الوجه الخشن, فيقترب الصوت هامسا قليلا. قليلا برائحة المكان والناس والحكايات.
شروق بهي يطالع شهوة الحلم فيرسم مواسم حصاده كما أراد, لون واحد يحتوي كل هذا البهاء بداخله, لغة من زمان بعيد تتداخل وتتعاشق في نسيج واحد يهب حاويا تاريخ قلب واحد وبدن واحد غير قادر علي الانتظار.
جسدانا يوقعان لحنا واحدا, وخاصما, انسجاما عاليا يدور بين الأفلاك البعيدة راصدة حركة العين واليد والصدر والقدم, والروح ترف طليقة تألف من يفتح حضنه لبهجة أيامه, وكأننا نصير جسدا واحدا يأخذ كل المرح المستطاع نافضا عن ريشه حبات ماء ندية تضوي للعين فتسكنها البهجة وألق هائل ينشع من الوجهين محلقا حولنا: فها هو طائره يرقص بين يديه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.