حين وصلت في الثامنة كانت هناك, تقف في وسط الغرفة حائرة وفي يدها أوراق, بدت غريبة عن المكان, لا تمت بصلة لتلك الغرف نصف المعتمة, والرائحة العطنة التي تكتم علي القلب كالموت, والكلب الأجرب النائم أمام الباب, والرمل الثقيل الباهت الذي يفصل بين عمارات المساكن الشعبية. قالت إنها لم تجد إلا العاملة التي طلبت منها الانتظار لحين حضوري, لم أجد سوي سرير الكشف لأدعوها للجلوس عليه, لأول مرة ترسل لنا المنطقة أطباء لقضاء التكليف هكذا أخبرتها, فهزت كتفيها في إشارة لعدم معرفتها بالأمر. سألتني ببراءة إذا كان هناك عمل تقوم به. فأشرت برأسي لا, كان في عينيها حماس شاب أدهشني. في العاشرة جاءت سندوتشات الفول والطعمية, دعوتها لتشاركني فاعتذرت بأدب وحين ضبطتها تتأملني وأنا آكل الطرشي الملفوف في ورق جرائد, ارتبكت وخفضت عينيها في خجل. كنت أتأملها أثناء قراءتي للجرائد, بدا عليها الملل وهي تهز ساقيها من مكانها فوق السرير, تارة تتأمل العنكبوت المعشش في الأركان وتارة الكلاب التي تتثاءب بكل كسل أمام النافذة الوحيدة في الغرفة. كان حضورها الصامت هو الحضور الوحيد القوي, حضور ينشر ضوء شفافا في عتمة المكان فيخفي الجدران المتآكلة والمكتب الإيديال الصديء والممرضتين السمينتين الكئيبتين. وقفت فوقفت, وحين رأتني أجر قدمي المعطوبة بصعوبة لطول جلوسي, عرضت علي المساعدة برقة فشكرتها, كان هذا هو الوقت الوحيد المتاح للتمشية حتي لا تضمر عضلاتي أكثر, فبعد عودتي للمنزل لا أغادره حتي صباح اليوم التالي. في الواحدة عرضت عليها الانصراف ولكنها قالت يمكن ييجي شغل. لم يأت إلا رجل واحد لاستخراج شهادة ميلاد لابنه, راقبتني وأنا أعمل فلم تفهم شيئا, فلم يكن هناك غير بعض الأوراق والإمضاءات. في الثانية والنصف غادرت وهي ورائي, ركبت128 الصفراء بينما سارت هي في اتجاه الشارع الرئيسي. وأنا أعبر شريط المترو في الطريق لمنزلي القريب, رأيتها تقف علي المحطة. بدت مضيئة في وهج الظهيرة, بشعرها الكستنائي القصير وجسدها الرقيق الهش, ترتدي بنطالا من الجينز وحذاء رياضيا, وتعلق حقيبة قش بألوان قوس قزح في كتفها. أشارت لي بحماس كأننا أصدقاء قدامي فهززت رأسي وابتسمت. حين عدت للبيت كان مظلما إلا من ضوء وحيد يأتي من أباجورة غرفة نومها. أشارت لي من مقعدها الهزاز أن الأكل علي السفرة ثم عادت لتكمل قراءة كتابها. منذ عودتها لا نتبادل إلا كلمات قليلة, تقضي معظم وقتها في غرفتها بينما أشاهد التلفاز في الصالة حتي أنام, كان الطعام باردا وشبه نيء فتركته. لم أحلم منذ سنوات, فنوم المهدئ كالغيبوبة بلا أحلام. لكن تلك الليلة رأيتني طفلا في صباح شتوي بعيد, أعبر شريط المترو في شارعنا القديم, يدي في يد الخادم النوبي في طريقي للحضانة, وشمس خجولة تلمع علي أسفلت شارع الأهرام المغسول بالمطر. كنت صغيرا وسعيدا, بالمريلة الجديدة والجورب القصير والحذاء الأسود اللامع, أشير لأمي الواقفة في شرفة منزلنا وهي تبتسم بجمالها الآسر ونظرتها النبيلة, ثم مر المترو فحجبها عني. استيقظت علي هزة المترو داخلي, كان الصبح مازال بعيدا, فرحت أراقب أول ضوء للفجر الطالع من وراء زجاج النافذة. شئ في ذلك الصباح مختلف, دفعني لجر قدمي المشلولة والوقوف تحت الدش استعدادا ليوم جديد, فطور ساخن أعده لنفسي قبل الذهاب للمكتب, حاذرت أن أوقظ إسماعيلة لا أريد لشئ أن يعكر صباحي. تغير المكتب تماما, كأنما بدرت حياة في عتمة الأركان فأضاءتها, يوميا تحضر في الثامنة, معها ساندوتشات منزلية نشاركها فيها, ثم تعد الشاي في أكواب ملونة أحضرتها. طوال اليوم تنتقل من غرفة لأخري, تتحدث وتضحك فتغمرنا البهجة, وتتحول أيامنا البطيئة المكرورة للحظات سعادة تومض في ظلام الروح. حتي الكلب اختفي كأنما أرقه سريان الحياة في المكان فذهب للبحث عن مساحة أخري تصلح للنوم. لم تعد قدمي ثقيلة كما كانت وشعرت بخفة لم أشعر بها منذ زمن. ولأول مرة منذ سنوات طويلة أتأمل حياتي, وأحاول تحديد النقطة التي بدأ منها الاختيار الأول الخاطئ الذي أوصلتني لما أنا عليه الآن, لكنها فاجأتني بطلب اخلاء طرفها لتتسلم النيابة في مستشفي به عمل حقيقي, مسني أسي وواجهت نفسي بالسؤال الموجع: كيف أصبحت ذلك الرجل الذي لا ينتظره شئ, ومستقبله فارغ كالعدم؟ لم أستطع تحديد أولي خطواتي نحو العتمة مفارقا الضوء لأنتهي في ذلك النفق المظلم, أبعد مرضي حين سافرت إسماعيلة لزيارة أهلها ولم تعد الي إلا فرارا من الحرب؟ أم حين تزوجت إسماعيلة البوسنية دون أن أعرفها فقط لبشرتها البيضاء وعيونها الناعسة؟ أم قبل ذلك بسنوات حين تركت الماجستير وسافرت الي بنغازي خمسة عشر عاما كممارس عام دون عمل حقيقي؟ وقعت علي إخلاء الطرف, فشكرتني وانصرفت. في طريق العودة, نظرت الي المحطة لم تكن موجودة, وحين مر المترو, شعرت بوخزة في القلب. وهزة خفيفة آتية من أعماقي, تدعوني لاستعادة نفسي القديمة الحية. ------------------------------------------ صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان ثلاثة نقاط للالم عن دار شرقيات