لا يشك أحد فى أن الحراك الاجتماعى فى مصر ارتفع بشدة ابتداء من أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، حينما طبق قانون الاصلاح الزراعى أدى إلى تفتيت الملكيات الزراعية الكبيرة، ونمو الطبقة الوسطى فى الريف نتيجة لما حصلت عليه من ملكيات جديدة، وفى الحضر نمت الطبقة الوسطى أيضا نتيجة مشروعات التصنيع وازدياد دور الدولة فى الاقتصاد. جاءت ظاهرة الهجرة إلى الخليج فى أواخر الستينيات واستمرت مع ارتفاع أسعار البترول خلال السبعينيات، وزيادة الطلب على العمالة المصرية فى دول الخليج، وكذلك فى العراق مع نشوب الحرب بين العراق وإيران، وزيادة الطلب على العمالة المصرية للحلول محل العراقيين الذين ذهبوا للقتال. وأسهمت الهجرة بأنواعها فى ارتفاع معدل الحراك الاجتماعي، مما بدت آثاره فى الريف والحضر فى مصر، وأصبح منظر المصريين العائدين من دول الخليج حاملين السلع الاستهلاكية الجديدة رمزا واضحا لما حدث من صعود اجتماعى لشرائح اجتماعية ظلت عقودا (وقد أقول قرونا) طويلة تعيش كما اعتاد أن يعيش أجدادها، فقامت فجأة ببناء مساكن من الطوب الأحمر، ودخلتها الكهرباء ولحق بها التليفزيون والثلاجة الكهربائية.. الخ خلال ربع القرن التالى (أى منذ منتصف الثمانينيات وحتى الآن) لم يعد الحراك الاجتماعى فى مصر يعتمد فى الأساس (كما كان فى ربع القرن السابق) على الهجرة إلى خارج مصر. لم تتوقف الهجرة إلى الخارج بالطبع، ولكن الطلب على العمالة المصرية فى الخليج وليبيا لم يستمر بنفس المعدل، ومن ثم رأينا نوعا جديدا من الهجرة (وأكثر بؤسا) يتمثل فى محاولات غير شرعية لعبور البحر المتوسط إلى شواطئ اليونان وايطاليا، بما يقترن به من الغرق فى الطريق. وقد أسهم هذا بالطبع بدرجة أو أخرى من صعود اجتماعي، ولكنها لم تبلغ قط ما خلفته أفواج الهجرة السابقة من فرص جديدة للحراك الاجتماعي. كما أن تباطؤ جهود التصنيع والتنمية فى داخل مصر فى ربع القرن الأخير لم يخلق فرصا كافية للعمل تعوض النقص فى فرص الهجرة إلى خارج مصر، ومن ثم تباطأ معدل الحراك الاجتماعى فى هذه الفترة رغم استمرار الزيادة فى حجم القوة العاملة الباحثة عن عمل، سواء من خريجى الجامعات والمعاهد العليا أو غيرهم. لابد أن يزيد التوتر الاجتماعى نتيجة لهذه الزيادة فى الطلب على فرص العمل مع ندرة وجود هذه الفرص الطموحات مستمرة ولكن درجة الاحباط تزداد مع تكرار خيبة الأمل فى تحقيق هذه الطموحات. وأظن أن كثيرا من مظاهر التوتر الاجتماعى فى مصر خلال ربع القرن الأخير يرجع إلى زيادة درجة الاحباط الناتج عن الفشل فى الحصول على العمل المأمول. وهذا هو بالطبع ما يجعل تدخل الدولة فى الاقتصاد أكثر ضرورة منه فى أى ظروف أخري. فى مثل هذه الظروف لا يجوز التعلل بمزايا القطاع الخاص بالمقارنة بالقطاع العام، فهذه هى بالضبط الظروف التى كانت، فى التجارب التاريخية المختلفة، تستدعى درجة أعلى من تدخل الدولة. بل إن هذه الظروف هى التى تحتم أن يتخذ تدخل الدولة بصورة أو أخرى اقامة المشروعات العملاقة، ولكن المشروعات العملاقة لا تلبى دائما الحاجات الاجتماعية الحالية، وخاصة خلق فرص العمالة المطلوبة. ليس الهدف الأساسى فى مثل هذه الظروف رفع معدل نمو الناتج القومي، فهذا المعدل قد يرتفع على الرغم من بقاء معدل البطالة مرتفعا، ومن ثم لابد أن نستبدل بمعدل نمو الناتج معدلا أهم منه فى ظروفنا الحالية، وهو معدل التشغيل، حتى إذا اقترن بمعدل متواضع لنمو الناتج أو الدخل القومي. إن معدل الحراك الاجتماعى يعطينا مؤشرا جيدا على الارتقاء بنوعية الحياة والتقدم الاجتماعى بوجه عام. فالحصول على وظيفة ليس مجرد وسيلة للحصول على دخل، بل أنه يمنح صاحبها فرصة لتحقيق الآمال المختلفة لنفسه ولأسرته، بما فى ذلك تحقيق احترام المرء لنفسه والحصول على احترام المجتمع من حوله. والحراك الاجتماعى له تأثير مثل تأثير المحرك (أو الدينامو) للحياة الثقافية. فمع ارتفاع معدل الحراك الاجتماعى تزدهر عادة الحياة الثقافية، إذ أن الشرائح الاجتماعية الصاعدة أكثر حرصا على التعبير عن نفسها بالمقارنة بالشرائح الثابتة فى مكانها أو المتدهورة، فضلا عن أن الشرائح الصاعدة لديها عادة من الفصاحة التى يمكن أن تعبر بها عن نفسها، وتعبر فى نفس الوقت عن الامكانات الثقافية للمجتمع ككل. إن شيئا كهذا هو ما شهدته مصر فى العقد الذى انقضى بين منتصف الخمسينيات ومنتصف الستينيات، وهو العقد الذى بدأ بتأميم قناة السويس وشهد عهد التصنيع السريع وبناء السد العالى وغير ذلك من مشروعات التنمية الطموح. وأظن أن الازدهار الثقافى فى مصر فى تلك الفترة كان يعبر عن الدرجة العالية من الحراك الاجتماعى التى تحقق لمصر خلالها. إن نجوم الحياة الثقافية فى مصر فى تلك الفترة، فى الأدب والمسرح والموسيقى والغناء، كانوا هم أنفسهم من الصاعدين على السلم الاجتماعي، فأحسنوا التعبير عن فرحهم بصعودهم ونشروا الفرح لدى شرائح أخرى واسعة من المصريين. ما أجمل أن نستعيد هذه الأيام، ليس فقط فى الذاكرة بل فى الواقع أيضا. لمزيد من مقالات ◀ د.جلال أمين