المقصود بالمثل الشعبى «إن فاتك الميري، اتمرغ فى ترابه» الثناء على الوظيفة الحكومية بالمقارنة بالقيام بمشروع فردى أو العمل فى القطاع الخاص. مزايا الوظيفة «الميري» الاطمئنان إلى استمرار الوظيفة (ما لم يرتكب عمل شائن أو تقصير فادح)، وإلى الترقية إلى وظيفة أعلى متى انقضت فترة كافية من الوقت، مهما تطل. هكذا كانت نظرتنا إلى العمل فى الحكومة طوال النصف الأول من القرن العشرين (وكان هذا استمرارا للحال نفسها تقريبا عدة قرون قبل ذلك)، فهذه هى النظرة التى تسود فى مجتمع اقتصادى راكد، لا يكاد يصعد فيه أحد إلى أعلى أو يهبط أحد إلى أسفل، ثم انقلبت الحال رأسا على عقب مع انتصاف القرن، حين تغيرت فجأة طموحات الناس ووجدت من الفرص الجديدة للعمل وتكوين الأرباح ما هو أفضل كثيرا من الوظيفة الميري. فمع ظهور جهود غير معهودة فى التصنيع، ونمو الخدمات التى يتطلبها هذا التصنيع، وجدت مجالات أخرى للعمل أعلى دخلا وذات إسهام أكبر فى تقدم المجتمع خلال عقدى الخمسينيات والستينيات. ثم جاء عصر التضخم الجامح فى السبعينيات الذى جعل الراتب الحكومى شبه الثابت، والمعاش الحكومى الضئيل، غير قادرين بالمرة على ملاحقة الارتفاع فى الأسعار.. وإذ رفع شعار الانفتاح الاقتصادى وانفتحت مصر بالفعل على العالم بدرجة لم نعهدها من قبل، ظهرت فرص لتحقيق دخول أعلى بل ثروات مفاجئة، اقترن التضخم والانفتاح بظاهرة الهجرة إلى دول الخليج الأكثر ثراء، فكثر الكلام عن «البحث عن مشروع» بدلا من «البحث عن وظيفة» وكان المقصود «بالمشروع» المبادرة باستغلال فرصة للربح، ثم زادت درجة الجرأة فى القيام بمشروعات جديدة مع تكرار التجارب الناجحة، وأصبح يعد من قبيل قلة الهمة وانعدام الطموح أن يفضل المرء البقاء فى وظيفة حكومية على محاولة اغتنام بعض الفرص المتاحة. ولكن هذا التغير فى النظرة إلى الوظيفة الميرى لم يستمر إلى الأبد، حيث حدث ما يغيره فى الأعمال الحرة والوظيفة الحكومية على السواء. كانت السبعينيات سنوات رواج اقتصادى غير معهود فى مصر (وإن كان هذا لا يعنى بالضرورة تقدما اقتصاديا)، حيث شهد هذا العقد إعادة فتح قناة السويس، وتدفق الاستثمارات الأجنبية الخاصة (بسبب قوانين الانفتاح) وزيادة كبيرة فى المعونات الأجنبية (بسبب تغير السياسة الخارجية)، بالإضافة إلى تدفق تحويلات المصريين العاملين بالخارج. ارتفع معدل نمو الناتج إلى ما يزيد على 7% (وهو رقم من النادر تحقيقه فى مصر سواء قبل السبعينيات أو بعدها) واستمر الرواج مادام استمر معدل الهجرة مرتفعا حتى منتصف الثمانينيات.. ثم حدث انخفاض كبير فى أسعار البترول أدى إلى انخفاض معدل الهجرة إلى الخليج وانخفاض ايرادات مصر نفسها من البترول، ثم قامت حرب الخليج بهجوم العراق على الكويت ومجيء القوات الأمريكية مما أدى إلى مزيد من الانخفاض فى هجرة المصريين إلى العراق وبقية دول الخليج، فى هذه الظروف جاءت حكومة عاطف صدقى التى استمرت نحو عشر سنوات شهدت مصر خلالها انخفاضا كبيرا فى معدل النمو، وفرضت عليها شروط صندوق النقد الدولى لتخفيض الإنفاق الحكومى لكى تتمكن مصر من سداد ديونها. لم يعد المناخ إذن، ابتداء من أواخر الثمانينيات، ملائما لظهور فرص جديدة للربح، أو للقيام باستثمارات جديدة فى مصر سواء للمصريين أو للأجانب، ومازال هذا المناخ للأسف مستمرا حتى الآن، باستثناء سنوات قليلة قبيل حلول الأزمة المالية العالمية فى 2008، منذ ذلك الوقت ساد مناخ مختلف تماما عما كان سائدا فى الخمسينيات والستينيات، (عندما ساد الاعتقاد بمزايا الميرى وأفضاله) ولكنه مختلف أيضا عما كان سائدا فى السبعينيات والثمانينيات (عندما روج للمشروعات الفردية خارج سيطرة الحكومة)، فمنذ بداية التسعينيات ساد مناخ يشبه القنوط العام، سواء مما يمكن أن تفعله الحكومة أو ما يمكن أن يقوم به الأفراد من مشروعات خاصة. لا اعتقد أننا نبتعد كثيرا عن الحقيقة إذا اعتبرنا أن أحد أسباب الضائقة الاقتصادية فى مصر الآن، (وهى استمرار لضائقة عمرها يقرب من ربع قرن) هو غياب الرؤية الاقتصادية سواء لدى الحكومة أو لدى الأفراد. نحن الآن نفتقد الرؤية التى سادت فى عقدى الخمسينيات والستينيات (التى تمجد الميرى أو الحكومي) ولكننا نفتقد أيضا الرؤية التى سادت فى السبعينيات والثمانينيات (التى تمجد الانفتاح والحافز الفردي) كان لكل من الفترتين رؤية واضحة لما يجب عمله وما يجب تجنبه، ولكن ما هى النظرة السائدة الآن؟: هل نثنى على تدخل الحكومة، أم نضع كل آمالنا فى القطاع الخاص؟ الحقيقة أننا لم نعد شديدى التفاؤل بهذا ولا بذاك، (لم نعد ننتقد القطاع الخاص المستغل) كما دأبنا على القول فى الخمسينيات والستينيات، ولكننا أيضا فقدنا الحماس فى قدرة هذا القطاع الخاص على القيام بما كانت تقوم به الحكومة فى هذين العقدين. ما الذى حدث بالضبط ليجعلنا «فاقدى الرؤية الاقتصادية» إلى هذا الحد؟ هل السبب هو تحولنا من مكافحة التخلف والركود الاقتصادى إلى مكافحة شيء غير واضح تماما سميناه «الإرهاب»؟ نحن نلقى بالمسئولية عن فشلنا فى ميدان الاقتصاد على هذا العدو الغامض (الإرهاب) الذى لا نعرف له هوية ولا هدفا واضحا، ومن ثم لا نعرف ما الذى يجب عمله بالضبط. إذ كانت الحال كذلك فلا أظن أن هناك مخرجا مما نحن فيه من ضائقة اقتصادية إلا بالعودة إلى العمل فى ميدان الاقتصاد نفسه، والكف عن تفسير كل شيء بالإرهاب. السياحة لن تعود إلى سابق عهدها إلا باتخاذ إجراءات ايجابية لجذب السياح، والكف عن تخويفهم مما يمكن أن يصادفوه من إرهاب، والتقدم الصناعى لن يعود إلا ببناء مصانع جديدة وتشغيل المتوقف منها، والكف عن الزعم بأن هناك من ينتظر بناء هذه المصانع لكى يقوم بتخريبها. لمزيد من مقالات د. جلال أمين;