قد ينجح الرئيس التركى رجب طيب أردوغان فى كسب ثقة شعبه مجددا للاحتفاظ بالحكم اعتمادا على رصيد حزب «العدالة والتنمية» على مدار أكثر من 16 عاما عند المواطن التركي، ورهانا على قدرته فى تقويض حجم خصومه من المعارضة، وممارسة القمع الأمنى ضد المجتمع المدنى ورموز القضاء والصحافة والإعلام خصوصا بعد محاولة انقلاب الفاشلة عام 2016. ولكن تظل التحديات الخارجية التى يغرق فيها حتى الثُمالة حجر عثرة فى طريق السلطان العثمانى الجديد الذى يستنزف طاقته وأعصابه فى جبهات متعددة مفتوحة وتحولت مع إدمانه للسلطة إلى «نقطة ضعف» قد تكتب له «أسوأ ختام» فى مشوار القصر الرئاسي! وأولى الجبهات التى أثارت «شراهة» أردوغان كانت على صعيد الأزمة السورية منذ هبوب رياح الربيع العربى عام 2011، حيث برهنت حروب الوكالة المشتعلة فى هذا الملف على أن تركيا لم تتدخل من أجل محاربة حزب العمال الكردستانى وضرب الإرهاب كما روج الرئيس التركى دائما، وإنما كشفت العمليات العسكرية المتعاقبة من جانب الجيش التركى عن مخطط استعمارى لغزو سوريا واحتلال أراضيها، وصولا إلى توسيع هذه العمليات فى منطقة عفرين كمقدمة للاستيلاء على بقية المدن السورية ووضع اليد على مفاتيح خزائن البترول واستثمارها فى صفقات مشبوهة مع تنظيم داعش الإرهابى وفقا لما فضحته وثائق «ويكيليكس» منذ عامين. ولتنفيذ الاستراتيجية التركية للسيطرة على الجارتين «سورياوالعراق» كثف نظام أردوغان من نشاطه لتوسيع دائرة التعاون والتحالف مع روسياوإيران لاستغلال الطرفين فى اختراق بعض الأراضى داخل سورياوالعراق، والمساعدة فى اصطياد عناصر الأكراد فى البلدين ومحوهم من خريطة الشرق الأوسط، مقابل اقتسام الغنائم وتبادل المصالح مع موسكو وطهران لمواجهة النفوذ الأمريكى فى المنطقة. وفى بداية الثورة السورية، تركت السلطات التركية حدودها مفتوحة أمام انتقال المقاتلين والإرهابيين، وكشفت مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية أن 30 ألف مقاتل عبروا الحدود التركية السورية فى عام 2013 وحده، وضخامة الرقم فتحت سؤالا يثير الشك والريبة حول دولة كبيرة بحجم تركيا وعضو فى حلف الناتو تترك حدودها منتهكة إلى هذا الحد، إلى أن ظهرت الإجابة فى صورة عمليات عسكرية من تركيا وانتهاك برى وجوى للأراضى العراقية والسورية، فضلا عن حرب المياه والتهديد بتعطيش الشعوب، وامتداد المخطط الأردوغانى نحو العراق لإحكام القبضة التركية على جبال قنديل شمالا وإقامة قواعد عسكرية فيها من ناحية، وتسويق حملة الرئيس التركى الانتخابية المقبلة، من خلال تسجيل «انتصارات وهمية» تغازل وتمس وتر ناخب الصندوق فيما يتعلق بحماية الأمن القومى التركى ومكافحة الإرهاب من ناحية أخرى. ومع استخدام تركيا مقاتلى داعش الذين خرجوا من الرقة وغيرها فى تنفيذ عمليتى «درع الفرات» و»غصن الزيتون»، صار داعش رقما مهما فى اللعبة التركية لاستئصال الأكراد، غير أن أردوغان يتجاهل إما عامدا وإما غافلا - أن هذا الأسلوب يوفر مُناخا ملائما لنمو الجماعات الإرهابية وعلى رأسها لتتسلق أكثر وأكثر فوق الأطماع التركية ويمكن أن تتحول سهامها المسمومة يوما نحو صدر من أعطوا أصواتهم للمقامر التركى الكبير. وأرهق أردوغان الميزانية التركية بتورطه فى جبهاته القتالية، ومنح المعارضة فى بلاده سلاحا لضربه فى الشارع التركي، عندما أعلن تقرير لحزب الشعب الجمهورى - أكبر أحزاب المعارضة فى تركيا - أن الأحداث التى تشهدها سورياوالعراق والسياسات الخاطئة التى تنتهجها حكومة العدالة والتنمية كلّفت البلاد فاتورة اقتصادية باهظة الثمن وتجاوزت جملة ما أنفقته على اللاجئين السوريين والخسائر فى الصادرات والسياحة نحو 17 مليار دولار. وفى الوقت الذى سارعت فيه تركيا لإنقاذ حليفتها قطر من آثار المقاطعة الخليجية ونسقت الأدوار مع إيران لإغراق السوق القطرية بالبضائع والمنتجات التركية والإيرانية نظير التضحية بالاستثمارات العربية ومشروعات الكتلة الخليجية، نشطت جبهة جديدة فى ليبيا من صناعة التحالف الشيطانى بين تركيا والجماعات الإرهابية وسط حالة الانعدام التام للسلطة المركزية فى طرابلس، بعد أن قبضت سلطات خفر السواحل اليونانى على سفينة شحن تركية فى اتجاهها إلى ميناء مصراتة محملة بالأسلحة، بما يحمل رسالة واضحة بعنوان «فتش عن تركيا» لتحصل على أى معلومات تهدد الأمن القومى لأى دولة من دول الجوار. وانضمت قبرص إلى قائمة المستهدفين من آلة الحرب ذات الماركة التركية عندما اتجهت أنظار الشركات العالمية المتخصصة فى التنقيب عن الغاز الطبيعى إلى الساحل الجنوبى لقبرص، وقررت شركة «توتال» الفرنسية فى مايو الماضى تأمين ترخيص حفر استكشافى آخر، رغم تهديدات تركيا لوقف تلك العمليات. ووصف وزير الطاقة القبرصى يورجوس لاكوتريبس خطوة «توتال» بأنها «تطور مهم» يوسع من مناطق تنقيب الشركة قبالة قبرص، وهو الأمر الذى استفز أنقرة التى حاولت منع سفينة تنقيب من «إيني» الإيطالية لاكتشاف مصادر وأماكن جديدة للطاقة والغاز فى قبرص. هكذا تبدو مشكلة أردوغان الكبرى فى استسلامه لجموح شهوة السلطة وتوسيع رقعة النفوذ الإقليمى ليصبح مطالَبا أمام شعبه بتقديم «مبررات» لكل هذه الجبهات المتزامنة معا، بينما معارك الداخل تزداد شراسة وعنفا على نحو ينذر بمسح «سنوات النعيم» من ذاكرة الأتراك، ليستيقظوا على عُملة تتراجع، واستقرار أمنى مهدد، ورئيس يحارب ويخوض فتوحات تاريخية فقط من أجل ذاته!