لم يسمع الكثيرون فى عالمنا ان الرئيس باراك اوباما قد وقع على أمر تنفيذى فى نهاية سبتمبر 2015يوجه الحكومة الفيدرالية لاستخدام تطبيقات «العلوم السلوكية» لتحسين كفاءة وفعالية البرامج الحكومية وتبنى رؤى متعمقة فى كيفية تغيير سلوك المواطنين ودفع الحكومة الأمريكية إلى القرن الواحد والعشرين باساليب مختلفة. والامثلة فى العالم كثيرة ومتعددة, فمع وجود 750 مليون شخص يعيشون فى القرى تمتلك الهند أكبر عدد سكان فى الريف بالعالم. واستناداً إلى خبرته فى العمل التنموى والعلمى فى نفس الوقت طور الدكتور عبدالكلام, الرئيس الهندى السابق وعالم الفضاء الكبير, نظام تنمية مبتكر ومستدام وشامل يسمى توفير المرافق الحضرية فى المناطق الريفية لرفع مستوى الجماهير الريفية ليس من خلال الإعانات ولكن من خلال ريادة الأعمال بمشاركة المجتمع, عشية احتفال الهند بالعيد الرابع والخمسين للاستقلال عام 2003، خاطب الدكتور عبدالكلام الأمة موضحًا رؤيته للهند الجديدة, التى تصور أن يوفر فيها أربعة عناصر للربط والتواصل: التواصل المادى والتواصل الإلكترونى والربط بالمعرفة مما يؤدى إلى الربط الاقتصادى للمناطق الريفية، وحيث سيكون هناك فجوة أقل بين المناطق الحضرية والريفية. وفى دولة اخري, وهى اندونيسيا, ادى الابتكار الى تصميم برامج تقوم فيها منظمات الاوقاف الاندونيسية بجمع اموال الزكاة وريع الاوقاف لصالح تمويل مشروعات اهداف التنمية المستدامة بالدولة, وفى ماليزيا تم تأسيس صناديق اوقاف اسلامية لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة بعيداً عن التعقيدات البنكية والبرامج الحكومية, وتجارب بالالاف فى مختلف بقاع العالم للابتكار فى الحلول فقد تحولت المعرفة والابتكار لجزء أساسى ورئيسى من ادارة الحكم وتنمية المجتمعات, وباتت الاستعانة بآطر المشاركة فى التصميم والتفكير والتغيير السلوكى احد اهم ادوات التطور فى عصر ما بعد الصناعة. لقد حاول الكثير من الخبراء والساسة النظر فى كيفية بناء قدرات الدولة, وجاءت التغيرات والتطوير التكنولوجى والاجتماعى الذى جرت فى العشر سنوات الاخيرة خاصة فى علوم السلوكيات, وأنتجت حالة من الحراك الفكرى واستحدثت طرق الخلق وتوليد الافكار, بل وتوجيه عملية تصميم الفكر لحل مشكلة محددة, وأصبحت مشاكل الدول والشركات والافراد تحل من خلال الابتكار والمحاكاة, وباتت عملية المقاربة لبناء قدرة الدولة تمرينا يتم اجراؤه فى غرف مفتوحة وبحضور ممثلين عن اصحاب المصلحة والخبراء وبتوظيف الادوات التى تساعدهم على ابتكار الحلول بالمشاركة, وشهد العالم بروز نظريات التفكير التصميم ونظريات التأثير على سلوك الناس, وباتت الحكومات ممثلة فى وزاراتها المختلفة تحل مشاكلها فى اطار «مختبرات الابتكار الحكومي» وتحل الشركات مشاكلها وتبحث عن فرص لتطوير اعمالها فى مختبرات الابتكار وتصميم الافكار, وباتت المشاكل الاجتماعية من نقص الخدمات وجودة التعليم وتقديم خدمات صحية يتم التفكير فيها فى «مختبرات الابتكار الاجتماعي», وحتى طرق حل المشاكل لم تعد مجرد استشارة خبير فى منظمة دولية بل قامت جامعة هارفرد بتطوير طريقة جديدة لحل مشاكل يطلق عليها «التكيف التكرارى القائم على حل المشكلات, وقامت بالفعل عدة دول بالاستعانة بها لدراسة كيفية تنويع الانشطة الاقتصادية ومصادر الدخل. التغيير الاجتماعى يحدث كل يوم من حولنا, ويترجمه تغير فى طريقة تنظيم المجتمع والمعتقدات وممارسات الناس, وتشارك جميع المجتمعات فى عملية تغيير اجتماعي, لكنه قد يكون بطيئًا إلى درجة لا يدركه البعض. وخطط التنمية اليوم لم تعد مسئولية الخبير الذى قام بوضعها او متخذ القرار الذى صادق عليها, ولكنها تمثل خارطة طريق ومستقبلا لمجموع من الافراد فى مجتمع ما, ومسئولية جميع الجهات الفاعلة المعنية بهذا المجتمع من الدولة والبلديات والمنظمات الاهلية ورجال الاعمال وبات التصرف بشكل تشاركى منتج عنصرا من عناصر خطط التنمية الجديدة والتى تعتمد تغيير الأدوار والمسئوليات وإعادة تنشيط آليات التفاعل والتغذية الراجعة وتفعيلها. ومنذ قيام الحكومة الدانماركية عام 2002 بإطلاق أول مختبرات للابتكار فى القطاع العام فى العالم تحت اسم (MindLab), كحلقة وصل بين الخدمة العامة والمفكرين المبدعين، وكوحدة ابتكار حكومية مشتركة تجمع بين الأعمال والمواطنين للابتكار من أجل التغيير الاجتماعى الإيجابي. وقد انطلقت الفكرة فى مختلف دول العالم والذى يتواجد به العشرات من المختبرات الحكومية, وفى العالم العربى اطلق مركز محمد بن راشد للابتكار الحكومى فى عام 2014 لتحفيز وإثراء ثقافة الابتكار فى القطاع الحكومى من خلال وضع منظومة متكاملة للابتكار بحيث يصبح ركيزة أساسية من ركائز حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة تطبيقاً لتطوير العمل الحكومي، وتعزيز تنافسية دولة الإمارات. ومصر رغم حضارتها التى ابتكرت الابتكار وطورت نظم الحياة الكريمة للانسان, وعلى ثقلها المعرفى الضخم ما زالت تحل مشاكلها من خلال خبراء المنظمات الدولية, وفترة الرئاسة الجديدة يمكن ان تحدث فى مصر وحياة المواطن المصرى تغيرات تاريخية إذا تم اللجوء الى ما لجأ اليه العالم الذى تطور ونظر للامور من منظور اطلاق قدرات وطاقات الجميع من خلال الابتكار والمعرفة التشاركية المسئولة. ويجب أن تنشئ وتبنى الدولة المصرية دينامية إنتاجية بين الأفكار «أو السياسات» وتأثيرها المحتمل «الممارسات». وأن تؤثر على ثقافة التخطيط والقيادة والإدارة للموظفين العموميين وان تجلب نوعًا جديدًا من إدارة المعرفة يعتمد على التجريب والتحسين والمفاهيم والأفكار والنوايا الجديدة. وهذا ما يتطلب من الدولة المصرية إعادة النظر فى سبل التخطيط والتفكير بشكل إبداعى فى كيفية تصميم وإدارة مبادرات التغيير فى الدولة بدءا من القطاع العام والحكومى ووصولاً لبقية مؤسسات الدولة. واللجوء الى أدوات الابتكار الجديدة لقدرتها على تحشيد الموارد البشرية والمادية والافكار وتوظف التغيير الايجابى وفتح القنوات.
----------------- خبير دولى فى التنمية المستدامة والابتكار الحكومي لمزيد من مقالات د.عاطف الشبراوى