على عكس ما يذهب إليه الكثيرون الآن من إجماع على سماجة وبواخة وبجاحة الإعلانات التى تقطع علينا استرسالنا الهائم فى أحداث المسلسلات، وتسرق منا متعة متابعة المشاهد واللقطات، فإنك لو فكرت قليلًا لوجدت الأمر لا يخلو من فوائد كثيرات.. منها سبع أو ثمان غير منكورات: الفائدة الأولي، هى أنك لو أجهدت نفسك بقليل من التفكير المتمعن لاكتشفت أن فى تلك الآفة المتأصلة فينا (آفة قطع المسلسل بسيل عَرِم من الإعلانات المعادة المكررة التى هى هى نفسها.. وكأننا قوم لا نفقه القول من أول مرة) خيرا عميما وتدريبا عظيما.. فما هو هذا الخير؟.. آآآآه.. إنها دروس مجانية فى «ترويض المَلل»! يعنى إيه؟ .. تعالوا نجيب من الأوّل. قل لي: ألست فى حياتك المديدة- مدّ الله فى عمرك- لاقيت وسوف تلقى آلاف المواقف التى يكاد مللها يبلغ بك حد الجنون أحيانا؟ أليس من الحكمة إذن أن يتم تدريبك منذ نعومة أظافرك على مواجهة وتحمّل هذا الزهق وذاك الإملال.. حتى إذا كبرت وترعرعت قويت شوكتك فاعتدت على «نشفان الريق»؟.. خلاص يا أستاذ.. ها نحن ندربك مجانا وأنت جالس مستريحا فى بيتك على مضغ السأم واستطعام لذته.. خير هذا أم ليس خيرا ؟ .. فإذا انتقلنا إلى الفائدة الثانية، لوجدناها ألذ وألذ.. ألا وهى مهارة «التدرج فى تقبل فقدان الأمل». قل لي: ألست وأنت غارق فى كل مشهد بالمسلسل تكون مملوءا بالأمل فى معرفة ماذا سيحدث للبطل أو البطلة.. ثم فجأة تقتحم الإعلانات قلبك وعقلك كسهام من نار تجعلك تستشيط غضبا؟.. فماذا تفعل آنئذ أمام هذا الإحباط المميت؟ ألست تنتظر- وأنت تنفخ- انتهاء الإعلان على أمل أن تتابع من جديد؟ ألا يستمر هذا المسلك معك إلى أن ينتهى الشهر الفضيل؟ فماذا تسمى تلك اللعبة؟ ألا تُعد تدريبا رائعا على التدرج فى انتظار تحقق الحلم حتى لو لم يتحقق الحلم؟ نروح الآن إلى الفائدة الثالثة. إنها ببساطة تطويل حبال الصبر فى روحك. قل لي: ما الجديد أو الغريب فى مسألة انتظارك انتهاء الفاصل الإعلانى مهما طال؟ أما تقضى عمرك كله وأنت تنتظر ما لا يجيء؟ ثم ألست كلما انتظرت أكثر انتصرت على هواجسك وتمرداتك واحتملت الهوان بنفس راضية؟ طيب.. ابسط يا سيدنا.. ها هم صناع الإعلانات يعلمونك تطويل حبال صبرك كى لا تتمزق منك خلال الرحلة الطويلة. بذمتك ودينك ألا يستحقون الشكر هؤلاء المطولون المملون؟ .. وأمّا الفائدة الرابعة، فهى مهارة تقبل الاستعباط بأقل قدر من الغضب والاشمئناط. قل لي: ألا تواجه فى حياتك اليومية من الاستهبال والاستعباط والاستكراد ممن هم حولك ما يعكر ماء النهر أو يغرق البحر المالح؟ خلاص يا عمنا أبشر.. ها نحن نعلمك - وببلاش- كيف تتقبل بنفس هادئة منظومات الاستعباط تلك التى ستملأ حياتك وحياة الذين أنجبوك. أمفيد هذا أم ليس مفيدًا يا متعلم يا خريج المدارس؟ خامسة الأثافى (عفوا بل خامسة الفوائد) هى نعمة الإغراق فى المطّ والتطويل الذى لا لزوم له. وهل التطويل نعمة يا أخ العرب؟ صدق أو لا تصدق.. نعم وألف نعم. إن البعض يتصور خطأ أن التشهيل والسرعة فى البت والإنجاز هما من سمات العصر الحالي؛ عصر التكنولوجيا واختزال الوقت والزمن. قد يكون هذا صحيحا فى كل المجالات إلا فى المسلسلات والإعلانات.. لماذا؟ .. لأن المسلسل أساسا هو مجرد تسلية وتزجية لأوقات الفراغ، وفى رمضان يصير فرصة لإراحة البطون المتخمة بالطعام بعد الإفطار.. فما الفرق بين أن تقتل وقتك ومغص بطنك فى مسلسل أو فى إعلان؟ ثم ألا تجد هذا المطّ وذلك التطويل هما مظهران يسيطران على بقية أنشطتنا وجوانب حياتنا.. فلماذا تلقى باللائمة على صناع الإعلانات المخلوطة بالمسلسلات وحدهم ؟ الفائدة السادسة، هى التدريب على عدم استعجال النتائج. إنك- وأنت تشاهد المسلسل- تظل تتوقع وتستنتج استنتاجات طوال الوقت: هل سيحبها البطل؟ هل سيتزوجان؟ فلماذا قتلها إذن؟ هل ليتزوج السكرتيرة أم ليلهف منها إدارة وأصول الشركة التى ورثتها عن أبيها؟ وهكذا.. هل.. وهل.. ومليون هل. وهنا يأتى الإعلان اللزج ليوقف هذا التيار الشيطانى المتدفق فى عقلك ويعيدك إلى الطريق القويم؛ طريق عدم التعجل فى محاولة الفهم.. وتلك نعمة ستفيدك جدا فى مستقبل أيامك حيث إن هذا الاسترسال فى الفهم والتحليل قد يوردك موارد التهلكة. فإن ذهبنا إلى الفائدة السابعة، فإنها مهارة قبول كل ما هو هزيل وتافه. قل لي: هل كل ما تقابله فى حياتك مهم وقيّم وذو شأن.. أم أن أكثر الأمور تافه لا لزوم له ومع ذلك فأنت مضطر لقبوله؟ يا سيدى اعتبر هذه الاستراحات الإعلانية التى تجعل الدم يغلى فى عروقك تدريبا على تقبل تلك التوافه التى تحيط بك فى كل مكان؛ فى العمل، وفى الشارع، وعلى الكوبري، وربما داخل بيتك نفسه. إن التوافه هى الوجه الآخر لعملة الحياة.. وها هم يعلمونك كيف تبتلعها وتشرب وراءها بعض الماء! .. وتبقى الفائدة الثامنة، وهى لذة الحلم المستحيل. قل لي: أليسوا فى الإعلانات يقدمون لك الفيلات التى من ذهب وفضة، وأثمانها بالملايين، وتحيط بها الخضرة من كل جانب؟ ألا يعرضون عليك المكيفات التى بالشيء الفلانى وتجعل حياتك نعيما مقيما، والثلاجات والبوتاجازات التى من فرط عظمتها تجتذب اللصوص لسرقتها؟ فما الضير يا صاحب الأحلام الضائعة فى أن تعيش حلمك معهم حتى لو كان مجرد وهم؟ أليست هذه كلها فوائد.. يا ناكر الجميل؟ لمزيد من مقالات سمير الشحات