كان الاهتمام باللغة العربية أصيلا فى مصر ولم يكن أبدا ابتكارا حديثا؛ فجيلنا يعرف ويسمع ممن سبقوه عن (المنتخب من الأدب العربي) الذى كان يوزع فى المدارس فى عهد وزارة المعارف الملكية. ويتذكر جيلنا نفسه كيف تعرفنا على جوانب الحياة فى بلادنا من بوابات اللغة العربية. فلقد تسللت مفردات اللغة إلينا من أعمال درسناها فى الصف السادس الابتدائى (كنداء البحيرة)، أو أدركنا مسار الحياة فى صعيد مصر وحوارى القاهرة وجوانب الأزهر من (الأيام)، أو تمثلنا تذوق الأدب والشعر ونقده من (حافظ وشوقي) لطه حسين. كنا ندرس تلك الأعمال فى المدارس الحكومية كالإبراهيمية او الأورمان او السنية الثانوية، ولم يحد من اهتمامنا بها أننا كنا طلاباً تحدد اهتمامهم بالعلم دون الأدب, فقد شكلت تلك الأعمال وجدان الآلاف ممن يمارسون المهن المختلفة بلغات أجنبية لاحقا فى حياتهم وتمكنوا منها كالهندسة والطب وإدارة أعمال، حول العالم من كاليفورنيا لباريس. ولقد أثار الجدل حول اللغة العربية ودورها الذاكرة فتدافعت مشاهد إحدى مسرحيات الستينيات الشهيرة المسماة (بالدبور), ففيها يتقمص اثنان من الممثلين دور طبيبين اختلفا حول أمر ما حول سرير أحد المرضي. وهكذا يتجادل الطبيبان بلغة غريبة كالطلاسم، تزداد سرعةً وغموضاً بينما يرقد المريض وحوله باقى أطقم التمريض فى ذهول وانفصال تام عما يدور. يجسد المشهد الكوميدى حال الطب فى مصر وتعليمه السائد باللغة الإنجليزية، والفجوة بين الطبيب والمريض وتلك التى تفصل علمه ومعرفته وأولئك فى هيئات التمريض أو صناع السياسات الطبية. فصناع السياسة الصحية فى البلاد يجب أن يمتدوا بطولها وعرضها ويعبروا عن مجتمعاتها فى المدن والقري. وهؤلاء بالقطع هم المصريون والمصريات بعمومهم، ورجال السياسة أنفسهم والإداريون العاملون فى العديد من المحافظات ومؤسسات الدولة، ينظمون ويشرعون شئون الصحة فى البلاد. وكل هؤلاء أبعد ما يكونون عن لوغاريتمات الطب المطلسم بالغموض فى مفردات إفرنجية. فالطب والصحة أوسع وأشمل من علوم الطب نفسه؛ كعلوم التشريح ووظائف الأعضاء والجراحة وغيرها. فالرعاية الطبية للمريض عمل أوسع كثيراً من دور الطبيب المعالج، وما يكتبه من روشتات أو يجريه من عمليات جراحية. فالرعاية الطبية حول العالم ليست عملاً فردياً للطبيب الحكيم أو الجراح النجم، ولكنها عمل يضم العشرات، يخدمون المريض الواحد الفرد. ففى حجرات العمليات -على وجه المثال- يرقد المريض ويحيط به طاقم من الممرضات والجراحين ومساعدى غرف العمليات وممرضيها. ووراء هؤلاء فى أركان المستشفيات يوجد أيضاً من يدعمون هؤلاء عن بعد من فنيى الأشعة والمعامل والتحاليل والتشخيص بالموجات فوق الصوتية بل وهناك ايضا العاملون على المكاتب وحملة المكانس والعاملون فى النظافة، فلكل هؤلاء فى المستشفيات دور ما فى العملية الصحية. فلك أن تتخيل لو كان الطب والجراحة يتم تداولهما باللغة الصينية أو اليابانية فى بلد كبريطانيا. فهل كان كل هؤلاء سيكونون على معرفة باللغة الصينية كمثال؟ المريض هو بؤرة العملية الصحية، يحيطه جيش من العاملين يتجاوز الطبيب الفرد بمراحل. فعلى طبيب اليوم أن يمتثل لجداول المهام الطبية، فتلك تحول المهمة العلاجية الكبيرة إلى مسلسل من المهام الصغيرة تتجاوز قدرات الذاكرة والفرد ايا كانت ملكاته. مهام يتشارك فيها جيش من العاملين والعاملات ينهمكون فى العلاج ومتابعة البيانات اللحظية لتطور حالة المريض من ضغط ونبض وحرارة وسرعة للتنفس وتركيز لوجود الأكسيجين. فهل من الممكن كتابة تلك الوثائق بأى لغة غير لغة البلاد الأصلية؟. من الأمور التى تشغل الطب الحديث هو نشر الوعى الصحى للناس والمجتمع. وتقوم بهذا فى بلاد الشمال مؤسسات تابعة للدولة فهى أكثر الجهات حيادا ففى كل بلاد العالم تقدم المعلومات الطبية للمجتمع وللناس وللمرضى بلغة البلاد الأم، فكيف لامرأة فرنسية - لم تتجاوز حدود التعليم المتوسط- أن تقرأ باللغة الإنجليزية عن سرطان الثدي؟ أو كيف لعامل حداد فى مصنع فى شمال إيطاليا أو وسط ألمانيا أن يقرأ عن كيفية التعرف على علامات الجلطة فى القلب، دون أن يكون الطب ومعلوماته متداولاً بالإيطالية والألمانية. توطن العلم هو نشر الوعى والمنهجية والقدرة على النقد والتباعد عن الخزعبلات فى تناول ظواهر الحياة والمجتمع. فالحماس للغة العربية ودعمها ليس عملاً قومياً بل هو أحد ظواهر الديمقراطية والانحياز للناس.. كل الناس. لمزيد من مقالات ◀ د.حازم الرفاعى