يكاد المرء يتسمع انين الملايين من المصريين على أسرة المرض وأبواب العيادات ينهكهم المرض وتنتهكهم الفيروسات والأمراض. ألوانهم الباهتة تكشف سرهم للعين الخبيرة للطبيب فقر الدم هنا أو الصفراء تقفز من ملامح الوجوه. أصوات خافتة ونهجان دائم تتسمعه أذن الطبيب فقرا فى الدم وأصواتا للصراع من أجل الأكسجين فلقد فشل القلب أو عجزت الرئة. تهبط عيون الطبيب على الأطراف لا علاج لها إلا البتر فلقد غرقت الأنسجة لسنين فى مستنقع من رمال السكر يسد تدفق الدماء فى العيون والكلى وأطراف السيقان فلقد تأخر العلاج سنين لم يجد المريض ثمنا للحقن اليومى بالانسولين. ترى هل تسمعون معى أنين الأسر المبتلاة بمريض اضطرب عقله أو تكلست رئته أو رزقت ابنا أو بنتا معاقة أنينهم العاجز الصابر يصم الآذان حولنا. أنين فلسفناه بالقضاء والقدر وليس له راد أو رادع. سعى المصريون منذ أوائل القرن الماضى للحاق بركب الحضارة، وللتدليل على هذا ينبغى أن نتذكر أن مصر كانت من أوليات دول العالم الثالث التى أنشأت مظلة واسعة للتأمينات الاجتماعية والمعاشات وسبقت فى هذا معظم دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا. ينبغى أن يتذكر المرء أيضا كيف تبنت النخبة المصرية ثم بعد ذلك مؤسسات الدولة قضية نشر التعليم الحديث فى ربوع البلاد منذ بدايات القرن العشرين، ففى أقل من 100 عام غطت المدارس والجامعات كل أنحاء البلاد وصار التعليم ومستواه أحد الاهتمامات الأساسية للأسرة المصرية وأحد أهم المطالب التى تجذب اهتمام قطاع ضخم من المواطنين وجزء كبير من المجتمع. طالت قائمة. المطالب الاجتماعية قضايا أخرى عديدة كالسكن والمواصلات بل وحديثا ظهر الاهتمام بمشاكل البيئة وما الحديث عن معضلة الدعم وموقفنا منه إلا دلالة على هذا. هذه المقدمة هدفها أن أشير إلى أن الصحة وشكل الخدمات الصحية لم يشهدا أبدا مثل هذا الانحياز الفكرى والاجتماعى الذي شهدته كل القضايا الأخرى مثل قضية التأمينات والمعاشات أو قضايا التعليم أو الدفاع عن رغيف الخبز وظلت الصحة فى قاع المطالب الاجتماعية للشعب المصرى وقواه الفاعلة ونخبه السياسية وهذا ما سأحاول أن أتعرض له، السبب فى حقيقته أن الاهتمام بقضايا الصحة بشكل مجتمعى يعد اهتماما حديثا لم يقفز على قوائم العمل السياسى إلا بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى فى روسيا عام 1917 ثم بعد تجربة بريطانيا الفريدة فى تاريخ الإنسانية فيما أصطلح على تسميته (الصحة القومية البريطانية) الطب أيضا عملية مربحة ماليا لمن يمتلكون صناعته وأسراره وهم الأطباء والجراحون لذلك فإن كل تعديل فى نظام الخدمات الصحية سوف يعارضه الأطباء لأنهم يخسرون منه أو يؤيدونه لأنهم مستفيدون. الطب المطلسم بالغموض يقف لغزا أمام السياسى أو المصلح الاجتماعى بل إن من يحاول تعديل ناموس الطب من الأطباء لمصلحة الغالبية يوصم بأنه غريب أو غير متمكن من (الصنعة) وإلا فلم يشغل باله بغير مصالحه ومكاسبه الشخصية المضمونة. الطب الحديث كما يعرفه العالم ليس ابنا للمعجزات أو للسحر ولكنه ابن قدرة الإنسان وعقله الواعى على النقد والتنظيم والعمل الجماعى. الطب الحديث والخدمات الصحية المتقدمة هما أحد نماذج العمل الجماعى وتعقده، فكما تغيرت مفاهيم الحرب والقتال من الاعتماد على شجاعة الفارس فى النزال إلى تعقد العمل فى الجيوش وتحويلها إلى آلات ضخمة تعتمد على دقة التنظيم والدعم وكفاءة التدريب تغير وجه الطب والجراحة من الإشادة بحكمة النطاسى البارع ومهارة الجراح إلى النظر لدور المؤسسة الطبية وأجهزة الرقابة الطبية والتأكد من جدية التدريب وعمقه، صار مستوى الخدمات الصحية أحد أهم مقاييس تطور المجتمع فى أى مكان ولكن مصر مازالت بمنأى عن هذا بل إن حجم المطالبة الشعبية أو حتى حجم الإدراك لما هو مفتقد فى حياة المجتمع مازال جنينيا وضئيلا فمازلنا نحيا فى مرحلة الطب العشوائى بينما يتحرك العالم فى براح الطرق السريعة ودقة تنظيمها. يمكن تلخيص حياة المصريين اليوم بأنها شد وجذب بين من يملكون ومن لا يملكون، بين من يعرفون العلم ومن يمارسون الشعوذة فى إطار صراع عالمى كبير يستهدف تركيع هذا البلد. أين مصر الآن فى مجال الصحة وهل يوجد لدينا طب عصرى مجتمعى حديث؟ بل وندقق السؤال أكثر ونتساءل: هل هناك خطط خمسية أو عشرية أو ثلاثينية فى مجال الصحة هل هناك أى التزام مصرى داخلى مدفوع بدوافع مصرية وليس كمجرد التزام بما تحدده منظمات أجنبية كالصحة العالمية.. هل ترى الدولة مثلا أن لها دوراً فى علاج مرضى السكر؟ أو الأمراض العقلية؟ أو الحوادث الطارئة؟ أم أن منظومة الصحة فى مصر ارتضت لنفسها منذ نشأتها وحتى اليوم ألا تتعامل إلا مع الأمراض والأوبئة وتتعامل فى اطار هذا مع المنظمات الأجنبية منذ فترة قصيرة سمعت أن هناك مبلغا هائلا من المال سوف يتم توجيهه إلى قصر العينى، أدهشنى الخبر فكما توجه الأموال إلى الجوامع والكنائس توجه الأموال إلى الجامعات وقصر العينى، تحولت الجامعات ومستشفياتها إلى مساجد وكنائس وينتهى الأمر على ذلك. أنين المصريين فى مواجهة المرض يذكرنا بالدكتور النبوى المهندس الذى أوجد أول مظلة من الوحدات الصحية فى البلاد. أنين يتساءل: ترى ما هو التزامنا كمصريين وكمجتمع قبل أن أقول كدولة تجاه الضعفاء منا ومن سقطوا تحت عجلات المرض القاسية... سؤال يستحق البحث والعمل. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي