من الواضح أن أوضاع منظومة الصحة، من أطباء ومستشفيات عامة وخاصة، ومن أجهزة، ومن إدارة، ومن كوادر العاملين بالصحة، لا تبشر بالخير، بل أصبح من الصعب أن نتحدث عن مؤسسات أكاديمية «محترمة» تعمل على إعداد الأطباء والفرق المساعدة (التمريض والفنيين). لقد نخر سوس الفساد عمق العملية التعليمية، وكذلك «السياسة الصحية» إذا جاز لنا القول بأن لدينا «سياسية صحية» بالمفهوم العلمي.. إن أزمة الصحة فى مصر، تنذر بمخاطر شديدة، تهدد حياة البشر من الفقراء والطبقة المتوسطة، وهذه المخاطر لا تعود إلى «أزمة تمويل» بقدر ما ترتبط «بأزمة ضمير».. الفساد من جهة وهدر الموارد من جهة أخري، وضياع مفهوم نقل الخبرة والكفاءة من جيل إلى آخر.. الشباب يتعلمون ويحصلون على شهادات تسمح لهم بممارسة مهنة الطب، ولأن غالبية أساتذتهم ليس لديهم الوقت لتعليمهم وتدريبهم، وغرس البعد الإنسانى فى ضمائرهم، تحول الغالبية منهم إلى تحقيق أكبر ربح ممكن، فى غياب الضمير وفى غياب «الحكيم» (وهو ما يطلق على الطبيب منذ عدة قرون) وفى غياب «دار الحكمة» (وهو ما يطلق على نقابة الأطباء فى شارع قصر العينى) وفى غياب التعليم.. لن أخوض أكثر من ذلك فيما نشاهده ونعرفه عن ضحايا الإهمال الطبى فى كل مكان فى مصر، والذى امتد من المستشفيات الحكومية والوحدات الصحية الحكومية، إلى العيادات الخاصة فى الحضر والريف، وإلى المستشفيات الخاصة التى تراكم الأرباح والفوائد من دماء المصريين، ولكن سوف أتعرض بإيجاز شديد إلى نتائج أحدث الدراسات التى ستجيب عن السؤال «إزى الصحة؟» لقد صدر حديثا التقرير السنوى الثالث عشر للشبكة العربية للمنظمات الأهلية، وموضوعه «دور المنظمات الأهلية العربية فى الرعاية الصحية للسكان»، شارك فيه 7 باحثين من دول عربية مختلفة، من بينها مصر.. هذا التقرير هو حلقة من سلسلة تقارير تهتم بمتابعة قضية رئيسية فى المنطقة العربية، مع تقييم إسهام منظمات المجتمع المدني.. من ذلك الفقر، تمكين المرأة، الثقافة والفنون، والبيئة، المخاطر الاجتماعية التى تهدد الأسرة، وغير ذلك.. ثم يأتى تقرير الصحة (عام 2015) ليلقى الضوء على «صحة آيلة للسقوط» و«منظمات أهلية آيلة للسقوط» فى المقابل. وقد عبر د. وحيد عبدالمجيد فى مقاله المهم الذى نشر عن نتائج هذا التقرير السنوى (الأهرام، 26 مايو 2015) بعبارة موفقة لوصف حالة مصر حين قال «الدولة لا ترحم ولا تخلى رحمة ربنا تنزل».. لقد حدث تراجع ملموس فى مصر فى الإنفاق على الخدمة الصحية، وارتفعت أسعار الخدمات الصحية وأسعار الدواء بشكل لافت للاهتمام، وهذا التراجع «غير المنظم» من جانب الدولة، قابله تصاعد الخدمة الصحية التى يقدمها القطاع الخاص، بل أن تخصيص وحدات أو أقسام بالمستشفيات الحكومية للعلاج مقابل أجر (استنادا إلى أن الربح يدعم الخدمة الصحية للفقراء)، قد أدى إلى مزيد من الانخفاض فى نوعية الخدمة الصحية ومزيد من الصراع «بين الكبار» للحصول على حوافز مادية. يشير التقرير السنوى للشبكة العربية للمنظمات الأهلية، فى الفصل الخاص بمصر إلى أن هناك عدم توازن ملحوظ فى الإنفاق العام على الصحة ما بين الحضر والريف (الفارق بينهما 37%)، وهناك عدم توازن آخر - بل وغياب للعدالة الاجتماعية- فى الإنفاق على شرائح المجتمع (الشريحة الأعلى فى مستوى الدخل تحصل على 24% من الإنفاق على الصحة، والشريحة الأدنى الأفقر 16% فقط). الأكثر من ذلك فإن عدد القائمين على الخدمات الصحية الحكومية يقدر بحوالى 600 ألف من الأطباء والتمريض والإدارة والعاملين الفنيين، وهو ما يستقطع نسبة كبيرة جدا من الإنفاق على الصحة.. وتكتمل ملامح المشهد العام حين نعرف أن نسبة الوحدات الصحية بأسرة (سرائر طبية) مملوكة للقطاع الخاص كان عام 2000 نحو 46.4% ثم ارتفع عام 2010 إلى 58.4%، ومن المتوقع عام 2015 أن يكون قد زاد عن 60%، وهى زيادة مخصومة من القطاع الحكومي. إن هذا التراجع أو التنازل عن دور الدولة فى الخدمة الصحية وتخصيصها أقساما بالمستشفيات الحكومية للعلاج بمقابل، هو «تنازل» غير محمود يعمق من غياب العدالة الاجتماعية ويؤثر سلبا على الإنتاجية الاقتصادية والاجتماعية. إذا أضفنا إلى ذلك حرمان الملايين من المصريين فى المناطق العشوائية (17 مليون نسمة) من المسكن الصحى الآمن والخدمات الأساسية، وحرمان ملايين أخرى فى الوجه القبلى الأكثر فقرا وبعض قرى ومحافظات الوجه البحري، من وحدات الرعاية الصحية الأولية، ومعاناتهم من صرف صحى سيئ ومياه غير آمنة ومساكن غير صحية، يمكن أن يدلنا ذلك على حالة تهميش كاملة للفقراء، وصعدت «شرارة التهميش» هذه من الفئات الدنيا إلى الطبقة المتوسطة (أتحدث عن الصحة فقط وليس التعليم ليس ينافس الصحة على الدرجات الأدني). إن مصر التى شهدت تأسيس أولى الجمعيات الأهلية فى المنطقة العربية وبعضها أسس المستشفيات (الجمعية الخيرية الإسلامية عام 1878)، ومصر التى شهدت منذ عام 1909 اهتمام المبادرات الأهلية النسائية بصحة الأمهات والأطفال، ومصر التى شهدت أول مدرسة طبية (عام 1838)، وأول جامعة أهلية فى المنطقة العربية (جامعة القاهرة) وكان من بينها كلية الطب وأول عميد مصرى لها عام 1929 (وهو د. على بك إبراهيم)، إن مصر هذه التى عرفناها فى حاجة إلى أن تكون أفضل، بل «الأفضل». إن المنظمات الأهلية المعنية بالصحة والتى شهدت ازدهارا منذ الثلاثينيات من القرن العشرين- أصبحت هى أيضا تتراجع، وأصابها الوهن، مثلها مثل الدولة، ودائما أقول إن المجتمع المدنى القوى يوجد فقط فى الدولة القوية. إن العدد المطلق لهذه المنظمات تراجع، والأنشطة تجمدت فى بعض الآخر- وفقا للدراسة العلمية للشبكة العربية للمنظمات الأهلية عام 2015- وهناك عدم توازن جغرافى فى المنظمات التى تهتم بالصحة. فالمحافظات الأكثر فقرا واحتياجا لخدمات صحية، يندر أو ينعدم فيها تواجد منظمات تقدم خدمات صحية للسكان... وأفقنا فجأة مطلع عام 2015 على ضرورة مناقشة إستراتيجية جديدة للسكان، ويعلن وزير الصحة أن المنظمات الأهلية المعنية بتنظيم الأسرة، وكان عددها عام 2010 يقدر بنحو 1122 منظمة، لا تزيد اليوم على 200 جمعية... السبب المعلن هو ضمور التمويل. إن الواقع يقول لنا إن هناك عدم اهتمام بتطوير السياسات الصحية وتنقيتها من الفساد، وهناك عدم اهتمام ولا توجد جدية- فى التعامل المنظمات الأهلية وبناء شراكات قوية معها من جانب الدولة... تراجع يعقبه تراجع، وإهمال يعقبه إهمال، والثغرات فى سياسات الدولة وأبرزها الخدمات الصحية- يسدها نشاط التيارات الإسلامية، بكل تنويعاتها ومن ثم تصاعدت «الموالاة» من الفقراء.. ترى ما الإجابة على السؤال الذى بدأنا به المقال: إزى الصحة؟. لمزيد من مقالات د. امانى قنديل