من بين عشرات المصطلحات التى يجرى تداولها على مدى الساعة عبر الميديا والندوات السياسية نادرا ما يجد مصطلح البلوتوقراطية نصيبه فى هذا السياق، وهذه الكلمة مركبة من مفردتين يونانيتين هما الحكم والمال، ومعناها هو حكم المال، الذى بلغ ذروة توحشه فى المجتمعات الرأسمالية التى اوجدت مجالا اقتصاديا وحيويا لمواعظ ميكافيللى السياسية، واصبحت الغايات فى عالم الاقتصاد تبرر الوسائل, وخير مثال على ذلك الكتاب الذى الفه جون بيركنز بعنوان يوميات قاتل اقتصادي، حيث اورد روايات عن قادة وزعماء ووكلاء أطاحوا بكل ما كان يسمى الخطوط الحمر، وكان الاقتصادى غراهام هانكوك صاحب كتاب سادة الفقر قد أثار سجالا واسعا حول ما نشره من فضائح اقتصادية وكيف تم افشال بعض الدول وانتهى هانكوك الى عبارة تنتمى الى ما نسميه فى ادبياتنا المضحك المبكى حين قال ان افضل وصفة تقدمها الرأسمالية ذات الانياب لإنهاء الفقر هى ابادة الفقراء! والبلوتوقراطية او حكم المال عرفته اوروبا منذ زمن بعيد، ومرت مرحلة لم يكن فيها حق الانتخاب مسموحا لغير الاثرياء، وكان للكنيسة دور مشهود فى التصدى لهذا النمط من احتكار السلطة، ومن المثير بالفعل ان هذا المصطلح بسبب ما يثيره من حساسية مفرطة فى الاوساط الرأسمالية خصوصا لدى الشركات العابرة للقارات والمتعددة الجنسية بقى محدودا فى الاستخدام باستثناء سياقات اكاديمية او فوق سياسية . وتبعا لما ورد فى مجلة حوار العرب فى عددها العاشر عام 2005 فان موقع غوغل الذى يحتوى على اربعة مليارات صفحة ويب لم يرصد فى مختلف اللغات سوى 1850 استخداما لكلمة بلوتوقراطية مقابل 4750 استخداما لكلمة استبداد و16520 استخداما لكلمة اوليغارسية او حكم الأقلية و47300 استخدام لمفردة الملكية، فما هى دلالة هذه الارقام؟ انها تعنى بالدرجة الاولى ان هناك تجنبا مقصودا لهذا المصطلح ، لأن حكم المال يملك بالضرورة النسبة العظمى من الميديا، خصوصا فى الولاياتالمتحدةالامريكية. وقد يكون المفكر هربرت ماركيوز من اوائل الامريكيين الذين قرعوا الجرس محذرين من سطوة المال على الحكم، خصوصا فى كتابه الشهير الانسان ذو البعد الواحد، فقد توصل الى ان ثقافة الاستهلاك حولت الانسان المعاصر الى اسفنجة لا مفاعيل لها غير الامتصاص ، بحيث اصبح الانسان معصورا وليس معاصرا. وحين نتقصى تجليات البلوتوقراطية وامتداداتها عبر القارات كلها نجد انها ارتدت الكثير من الأقنعة واختفت وراء اسماء مضللة وسرعان ما تسرب هذا الفيروس الى العالم الثالث فحدثت مصاهرات سياسية بين السلطة والمال، لكن هذا الزواج غالبا ما انتهى الى طلاق بائن بينونة كبري، لأن الرأسمال لا يعترف بأية اجندة لا تعود عليه بالربح، وله قائمة اولويات ليست الدولة واستراتيجياتها وامنها القومى فى رأسها! كم أتمنى لو ان مراكز الابحاث العربية تنتبه الى الالتباسات وسوء الفهم الذى تحدثه مصطلحات يتم تداولها بمعزل عن سياقاتها ومعانيها الدقيقة ومنها الاتوقراطية والثيوقراطية والباترياركية اضافة الى الليبرالية، لأن هناك من تخطف هذه المصطلحات ذات الجذور الاغريقية ابصارهم ويتعاطون معها كحجارة كريمة، وهذا ما حدث فى خمسينات وستينات القرن الماضى عندما استخدمت مصطلحات كالبروليتاريا والبرجوازية الصغيرة جزافا خصوصا فى بلدان لم يكن فيها بروليتارى واحد بالمعنى الدقيق لأنها لم تدخل الى عالم الصناعة الا من باب صناعات فولكلورية او خدمية وكان غياب قطعة غيار واحدة يوقف مصنعا عن العمل! ومن يتحدثون الآن فى عالمنا العربى عن الليبرالية او العلمانية يزيدون هذه المصطلحات غموضا بحيث يتصور الناس ان العلمانية هى المرادف للالحاد، والحقيقة انها ليست كذلك، والدول العلمانية فى العالم يدخل الدين فى صميم ادبياتها وقسم رؤسائها لكنها ترجمت مقولة الدين لله والوطن للجميع ميدانيا. إن اصدار معاجم مبسطة الى حد ما لإيضاح دلالات هذه المصطلحات يبدد عدة التباسات لدى القارىء او المشاهد العربي، لأن هناك ممن تطلق عليهم ألقاب تشبه القبعات كالخبراء الاستراتيجيين او المتخصصين فى الشئون السياسية يستخدمون هذه المصطلحات بمعزل عن مناسباتها وسياقاتها الاصيلة وفاقد الشيء لا يعطيه، وهناك طرفة تفرض نفسها على ذاكرتى فى هذا المقام، عن ماركسى عربى تعامل مع الماركسية كما لو انها دين بديل ولم يقرأ كتابا واحدا عنها، قال فى احدى الندوات ان فلانا وهو من قادة الحزب هو المنذر وحين سئل عن معنى هذه الكلمة اجاب بأنه من يتولى انذار الرفاق بالاخطار، ثم اتضح ان كان يقصد التنظير من نظرية وليس النذير من انذار. وهناك حالات حذف فيها الفارق حتى لو كان شعرة بين الديمقراطية والفوضي، وظن البعض من ضحايا تسطيح المصطلحات ان الديمقراطية تعطيهم الحق فى ممارسة ما يشاءون بلا حدود او روادع ، ودلالة ذلك هى ان من يتعلمون السباحة على الرمل او فى اسرتهم على الفراش لن يستطيعوا السباحة فى بركة صغيرة. والديمقراطية ثقافة ومران وتأهيل وتراكم لتجارب، بحيث يصل الفرد الى قناعة بأن الآخر شريكه وله حق الاختلاف، ولم يكن ما يسمى تداول السلطة فى المجتمعات الديمقراطية الا حصادا لهذه الثقافة. ولو شئنا رسم تضاريس اولية وأفقية لانماط الحكم فى هذا الكوكب لوجدنا انها لا تختلف فقط بل تتنافر، فهناك الثيوقراطى الذى يسعى الى تديين الدولة بدلا من تمدينها والباترياركى الذى يرفض الاعتراف للناس بحقهم فى بلوغ سن الرشد، اما البلوتوقراطى فهو المساحة المسكوت عنها فى عالمنا، رغم ان البلوتوقراطية او حكم المال تزحف على الديمقراطية من كل الجهات وحين صدر كتاب الشقيقات السبع فى امريكا قبل عدة عقود كان خطوة على طريق الكشف عن كل ما مكن ان تفرزه البلوتوقراطية، وكأن الكتاب مكرس لاكبر سبع شركات امريكية ذات نفوذ سياسى يحركه المال. وهناك دول فشلت واخرى فقدت سيادتها وارتهن قرارها بسبب البلوتوقراطية، مما يفرض على المختصين بهذا الشجن ان يسموا الأشياء باسمائها!! لمزيد من مقالات خيرى منصور