كان الأسبوع الأخير فى حياة السيد المسيح يمثل الموت بكل معانيه، فالموت الحقيقى هو فساد الإنسان من الداخل، وكان السيد المسيح قد واجه الخيانة من أحد تلاميذه، والإنكار من التلاميذ الآخرين، والإهانة والألم من اليهود الذين كان أغلبهم قد صنع لهم معجزات شفاء ومد يد الحب لكل أحد، ولكن ها هو الموت الذى يمثل شر الإنسان من الداخل كان يعمل فى هؤلاء الأشرار بخيانة وإنكار للجميل، وبدلاً من الحب كانوا يحملون كراهية. وكان الموت فى رؤساء اليهود الذين لم يحتملوا كلمات الحق فحكموا عليه بالموت، فالموت كان يعمل فى داخلهم، فالموتى ليسوا فقط فى القبور ولكن يوجد أموات مدفونة فى الصدور، والحياة ليست فى نبض القلب وحركة الجسد فقط ولكن الحياة هى النور والحب والخير الذى يسكن هذا الجسد. انتهى الأسبوع بذبح السيد المسيح بسكين الخيانة والشر، وقال السيد المسيح لهم: «هذه ساعتكم وسلطان الظلمة» وبينما الكون كله صار فى ظلام وليل طويل، وبينما كل الذين أمنوا بالسيد المسيح فى دموع وفقدان رجاء قام المسيح ليعلن نهاية سلطان الشر والموت، وأن الحق والحياة يهزمان الموت والفساد. وهذا لأن الإله العظيم لم يخلق الموت ولم يخلق الإنسان فى حالة الفساد، بل أن الموت والفساد حالة دخل فيها الإنسان حين رفض الحياة مع الله واختار بحريته أن يعمل فيه الموت. ففى البدء كان كل شيء مشرق ومفعم بالحياة التى أعلن فيها الله حبه وقدرته كخالق، فالكون كله رائع وبديع، والأنوار فى السماء مبهجة، والأرض كل ما فيها ينطق بالحياة ومفرح، فالطيور تغرد، والأزهار تخرج مبتسمة، والأشجار تقدم الثمار علامة الخير من يد الله لخليقته، والإنسان تاج للخليقة يحمل قوة وسلطانا من الله لإدارة الأرض فهو المخلوق الحر الذى يحمل سلطانا من الله. ولكنه استخدم حريته فى اختيار موته فانفصل عن الله وترك الوجود فى الحياة الحقيقية ليعيش حياة كل ما فيها موت مساق من الشيطان الذى صار يقود هؤلاء الأشرار الذين على الأرض، ويقول الرب على فم إشعياء النبى فى العهد القديم «لأنكم قلتم قد عقدنا عهداً مع الموت، وصنعنا ميثاقاً مع الهاوية... لأننا جعلنا الكذب ملجأنا، وبالغش استترنا» (إشعياء 28: 15). وأصبح الموت فى النفوس قبل الأجساد، وصار الموت هو النهاية والحقيقة الواقعية لكل إنسان. فيقول إرميا النبي: «لأن الموت طلع إلى كوانا، دخل قصورنا ليقطع الأطفال من خارج، والشبان من الساحات» (إرميا 9: 21). ويقول سليمان الحكيم: «الكل باطل وقبض الريح... يموت الحكيم كالجاهل» (جامعة 2: 16). ويوماً كان يسير الفيلسوف العظيم ديوجين مع الإسكندر الأكبر، وقد كان يتغنى ببطولات والده فيليب المقدونى كيف كان عظيماً، وعبروا على مقبرة للأموات فطلب ديوجين من الإسكندر أن يقف وانحنى الفيلسوف وأخذ يبحث وسط الجماجم عن شيء ما، فاستغرب الإسكندر وسأله: «ماذا تفعل؟» فرد عليه وقال: «أنى أبحث عن جمجمة أبيك وسط هؤلاء الأموات» ثم نظر إليه بعمق وقال: «أى عظمة وقوة بعد الموت؟». لذلك أوصى الإسكندر أنه حين يموت يخرجون يديه من التابوت لينظر العالم أن الإسكندر مات فارغ اليدين. فالسلوك البشرى يتخبط بين الوحشية والعبثية فى جانب وبين الاشتياق إلى الأبدية والتخلص من الفساد فى جانب أخر، فأصبح كل من يولد ويدرك وجوده يعرف أنه سيموت أيضاً. وحاولت الحضارات المختلفة عبر التاريخ البحث عن منفذ للموت إذ أن الإنسان لم يقبل فكرة الموت والفناء بعد كل ما يحياه ويدركه فى الوجود فحنط الفراعنة الأجساد لأنهم كانوا يؤمنون أن هناك بعثا للحياة وخلودا للإنسان وأن هناك حياة أخرى. والحضارة الهيلينية فى اليونان آمنوا بخلود الأرواح فقد قال سقراط حين حكم عليه بالإعدام عام 399 ق.م: «الموت شيئ خالد لا يفسده اضطهاد أو ظلم أو ألم أو حزن... أنه باب ندخله فنمضى من الأرض إلى السماء، أنه المدخل إلى قصد الله... وهناك أيها الأصحاب لا يُقتل إنسان من أجل عقائده، فابتهجوا إذن ولا تأسفوا على فراقى وقولوا وأنتم تودعوننى إلى القبر أنكم دفنتم جسدى لا روحى». بينما من لا يؤمن بالله كان يرى أن الموت حتمى فالحياة إذن بلا معنى فيقول الفيلسوف الملحد جبريل مارسل: «الزمن منفذ إلى موتي، إلى هلاكى الزمني، إلى الهاوية، أنه دوار يعترينى أمام هذا الزمن الذى يجثم موتى فى أعماقى ويجذبنى إليه». ويقول سارتر: «كل حى يولد دون مبرر ويستمر عن ضعف ويموت صدفة». وهكذا فقدت الإنسانية قوة الحياة لأجل الموت حتى إن الفلسفة الأبيقورية كانت تعلم: «لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت». وهذا هو منطق كل من لا يؤمن بالسماء. ولكن قيامة المسيح وظهوره لتلاميذه بعد القيامة أعلن عن حقيقة الحياة بعد الموت، وأن الموت ليس له سلطان حتمي، ولكن يمكن للإنسانية أن يكون لها رجاء فى السماء والأبدية التى يقول عنها القديس يوحنا تلميذ السيد المسيح: «يمسح الله كل دمعة من عيونهم ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت». بقيامة السيد المسيح لم تعد السماء حلماَ بعيداً، ولم يعد الإنسان هو المخلوق التعس الذى يولد ليموت، السيد المسيح قام بالحقيقة ليعلن أيضاً أن الحياة على الأرض حالة مؤقتة، ولكننا سنعبر إلى الخلود إلى الأبدية، سنعبر إلى الشاطئ الأخر للحياة الذى لا نهاية له، وهناك سنحيا مع القديسين والملائكة، فلا خطايا، ولا خيانة، ولا كذب، ولا ضيق، ولا تعب، بل الحياة السعيدة فى مملكة الإله الذى أحبنا حتى صنع لنا كل شيء للحياة وليس للموت. كل عام ونحن ناظرين إلى السماء، كل عام ونحن رافضين الموت ونعمل ونحيا لأجل الحياة، فالمسيح قام من الأموات. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس