لا شك أن الثقافة من أهم مفاتيح الفكر الرشيد ، والتفكير السديد ، وأن ضيق أو انسداد الأفق الثقافى أحد أهم عوامل الجمود والانغلاق وسوء الفهم ، وأنه كلما اتسعت المدارك الثقافية للإنسان أهلته للحكم الدقيق على الأشياء ، فعلماء النفس على أن المعلومات الوافدة على الذهن تفسَّر فى ضوء المخزون فيه ، فكلما كان المخزون الثقافى كبيرًا سهل على العقل فهم واستيعاب وتفسير الوافد الفكرى ورؤيته بمقياس أدق ، وعلى العكس كلما كان المخزون الفكرى والثقافى ضئيلا لدى شخص ما عقّد عليه عملية التلقى والفهم والتعامل مع الوافد الفكرى أو المعرفى الجديد ، وقد قالوا : النشاط يولّد النشاط ، والكسل يراكم الكسل ، ويؤدى إلى الإخفاق والفشل ، كالعضلات التى تضمر حين ينقطع صاحبها عن تدريباته وتمريناته ، أو أعماله البدنية أو اليومية ، فإن النشاط الذهنى الثقافى يوسع المدارك ويعين على الفهم الصحيح للأشياء ، وحسن التقدير للأمور , وقد تعلمنا أن الإنسان لن يصل فى العلم ولا فى الثقافة إلى ما يريد حتى يتعلم ما يريد وما لا يريد ، وأن ما قد يراه الإنسان من ضروب العلم غير ضرورى اليوم قد يراه من الضرورة بمكان غدًا ، ويود أن لو كان قد أخذ منه بنصيب وافر أو حظٍّ أوفر . ولعل من أيسر التعاريف لمفهوم الثقافة والمثقف هو أنه من يعرف كل شيء عن شيء وشيئًا عن كل شيء ، بأن يتقن الإنسان تخصصه الدقيق الذى ينبغى أن يتمكن منه وينبغ فيه ويصير فيه عَلَمًا يشار إليه بالبنان ، ويعرف شيئًا عن كل شيء من علوم الحياة وفنونها ، وقد يتسع أو يضيق هذا الشيء على قدر قربه من التخصص الدقيق للإنسان ومدى الحاجة إليه فى خدمة المجتمع والحياة العامة ، مع تأكيدنا أن الثقافة أمر تراكمى ، فكلما كانت المعلومات المتراكمة عبر الزمن أكثر كانت الثقافة أغزر وأعمق. وقديمًا قالوا : الأدب مناط جماع العلم والثقافة ، ذلك أن الأديب ينبغى أن يلم من كل فن فى الحياة بطرف مع إجادته لفنون صنعته ؛ لأنه لسان الحياة والناس يعبر أدبيًّا عن أحاسيسهم ومشاعرهم وأحوالهم وآمالهم وأمانيهم ، فكلما كانت تجاربه الإنسانية واسعة كانت تجربته الأدبية أعمق وأبقى وأكثر تأثيرًا وانتشارًا ، لذا رأينا أدب الحِكَمِ من أكثر ألوان الأدب خلودًا وانتشارًا ، وما ذاك إلا لتعبيره عن تجارب إنسانية مشتركة مع ما يتطلبه من دقة الصنعة والصياغة . ومن هذا المنطلق عملنا فى مجال تدريب وتثقيف الدعاة على تعدد وتنوع المشارب الثقافية ، والدورات التدريبية المتخصصة ، فوضعنا برنامجًا حول التثقيف بطبيعة حروب الجيل الرابع ، وحروب الجيل الخامس ، ومفاهيم وتحديات الأمن القومى ، نفذنا الدورة الأولى منه بالتنسيق مع أكاديمية ناصر العسكرية العليا ، وكلية الدفاع الوطنى بوزارة الدفاع، وجار التوسع فى هذه الدورات لإيماننا بأهميتها فى تحصين المجتمع من مخاطر الحروب الفكرية وحروب الشائعات ومحاولات بث اليأس والإحباط فى المجتمع . كما نعد لعدة دورات متخصصة فى القضايا الطبية المعاصرة يشترك فى أدائها الأطباء وعلماء الدين معًا ، وأخرى حول القضايا المالية المعاصرة يشترك فيها رجال الاقتصاد المتخصصون مع علماء الدين المعنيين بهذه القضايا ، وكذلك دورات فى علم النفس ، وعلم الاجتماع ، وعلم الجمال ، والتاريخ والحضارة ، وجغرافيا العالم الإسلامى ، والتواصل الإعلامى والتكنولوجى ، مع دورات متخصصة فى اللغات الأجنبية بدأناها بأربع لغات هي: الإنجليزية ، والفرنسية ، والألمانية ، والأسبانية ، تُدرّس فيها القضايا الدعوية والشرعية باللغات الأجنبية للسادة الأئمة من خريجى أقسام اللغات والترجمة ، وعدد غير قليل منهم حاصل على الماجستير والدكتوراه فى الجوانب الشرعية بإحدى اللغات الأجنبية ، علمًا بأن هذا كله يأتى إضافة إلى الدورات العلمية المتخصصة الثابتة فى العلوم الشرعية والعربية، إضافة إلى معسكرات التثقيف العام وبرامج التدريب الفنى والمهنى والمهارى . لمزيد من مقالات د. محمد مختار جمعة