لم تكن التصريحات التركية الأخيرة بشأن أطماعها فى ثروات مصر بالأمر الجديد. فقد حددت القيادة التركية الخطوط الأساسية لتوجهاتها بشكل معلن منذ عام 2010 عندما قدم أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركى فى ذلك الوقت (وقد أصبح رئيسا للوزراء فيما بعد)، خريطة طريق لتركيا "العدالة والتنمية" تتضمن ستة مبادئ حتى يتسنى لأنقرة تطبيق سياسة خارجية تضمن لها الهيمنة على محيطها بشكل فعال. وعلى الرغم من أن المبدأ الثانى الذى تم طرحه كان تحت بند : تبنى تركيا سياسة "تصفير" المشكلات مع دول الجوار؛ فإن هناك مبادئ أخرى استرعت الانتباه وخاصة مبدأ الاتجاه التركى إلى : "التأثير فى الأقاليم الداخلية والخارجية"؛ حيث دلت العبارة الأخيرة على أن هناك فى تركيا تيار يعتقد أن ما حوله مجرد أقاليم يجب التأثير فيها مثلها فى ذلك مثل أقاليم إمبراطورية عثمانية غابرة ذابت فعليا على مر الزمن بفعل سوء الإدارة والتخطيط بل وسوء اختيار الحلفاء عند التعامل مع الأزمات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، وفى حالة مصر تحديدا، فضلت الدولة العثمانية خيار السماح لقوات الغزو الفرنسى باحتلال مصر عام 1798على قرار بمنح مصر (التى كانت تابعة للدولة العثمانية فى ذلك الوقت) الدعم الكامل لمواجهة غزو أجنبى. ولم تتحرك الدولة العثمانية إلا بعد سنوات وبعد أن استشارت ثم استعانت بقوة إستعمارية أخرى هى بريطانيا التى كانت فى حالة تنافس استعمارى عالمى مع فرنسا فى ذلك الوقت. وكان من الممكن أن يتكرر غزو مصر عام 1807 على يد البريطانيين (حملة فريزر) لولا وقفة المصريين الوطنيين وحماس محمد على للانفراد بحكم مصر وتحقيق أحلامه بإعادة مصر لأن تكون دولة قوية ذات إستقلالية. وتكرر الخطأ التركى الفادح مرة أخرى عندما كانت مصر الناهضة على وشك ضم تركيا إلى أملاكها فما كان من السلطان العثمانى إلا أن فتح أبواب التدخل الأجنبى المسلح بشكل كامل لإنقاذ حكمه غير عابئ بضياع أملاك الإمبراطورية العثمانية التى تحولت بعدها إلى كيان متهالك مستباح من كافة الدول الأوروبية التى تحالف معها السلطان العثمانى لمواجهة مصر محمد على. ومرة أخرى تكرر الخطأ التركى مجددا عام 1882 بتجريم أحمد عرابى زعيم الثورة العرابية والوقوف إلى جانب قوات الاحتلال البريطانى التى اتجهت إلى ضرب الإسكندرية تمهيدا لاقتحام مصر واحتلالها. كان الموقف غريبا، فقد فضل "السلطان" وأعوانه خيار الغزو الأجنبى وقهر شعب مصر العربى المسلم على منح قدر يسير من الحريات للمصريين فى أرضهم !! وسقطت مصر فى دوامة احتلال دام عقودا ثقيلة. لقد ظلت تركيا على مدى قرون تخطئ فى حق من حولها بشكل عام وفى حق مصر تحديدا استنادا إلى "مركزية مهترئة" انهارت فعليا مع الصدام الذى نشب بين القوى الاستعمارية الكبرى فى مطلع القرن العشرين وتحديدا فى الحرب العالمية الأولى. ومنذ أكثر من عقد من الزمان أصبحت تركيا فى عداء مقيم مع الغالبية العظمى من جيرانها! فهى تحتل جزءا من العراق وتتوغل عسكريا فى سوريا وتحتل منذ عقود جانبا لا يستهان به من قبرص (إحدى دول الاتحاد الأوروبى) وتعادى اليونان بشأن الهيمنة على قبرص (التى هى أصلا دولة مستقلة ذات سيادة وعضو بالأمم المتحدة) بالإضافة إلى الصراع على بحر إيجة ما قد يحويه من ثروات فى باطنه. هذا بالإضافة إلى استفزاز أرمينيا. كما دخلت تركيا فى عداء مخطط له سلفا وتم التنسيق بشأنه مع حلف "ناتو" الذى تعد تركيا أحد أعضائه، بل إن عضويتها فيه مرهونة بدورها فى رصد وتهديد الأراضى الروسية مع روسيا بعد إسقاط الطائرة العسكرية الروسية عنوة فوق سوريا 2015. وعندما بدا أن روسيا لم تخشَ التهديد التركى، وأنها نسقت مع الولاياتالمتحدة زعيمة حلف "ناتو" بشأن مناطق النفوذ والتحرك فى سوريا، ظهر إردوغان وداود أوغلو فى عام 2016 بجوار الرئيس الروسى بوتين ووزير خارجيته لافروف ليتفقوا "فجأة" على تطبيع العلاقات بعد "اعتذار" تركيا عن إسقاط المقاتلة الروسية ! وبلا عجب أو تردد جاء التنسيق بشأن تحركات ومناطق النفوذ الخاصة بالطرفين فى سوريا وتوقيع تركياوروسيا اتفاقا ثنائيا لبناء خط أنابيب نقل الغاز ترك-ستريم الذى سيقام تحت البحر مما سيسمح لموسكو بتعزيز مركزها في سوق الغاز الأوروبية وخفض إمدادات الغاز عبر أوكرانيا ويعزز مكانة تركيا كدولة عبور إمدادات الغاز إلى أوروبا، مبررا طبيعيا لتلك لتغيرات السريعة المفاجئة فى العلاقات الروسية التركية. فتركياوروسيا تبديان اهتماما كبيرا بالبدء في تنفيذ مشروع نقل الغاز الروسي عبر قاع البحر الأسود إلى تركيا ومنها إلى أوروبا "السيل التركى". ويتضمن المشروع مد أنبوبين عبر قاع البحر الأسود من روسيا إلى تركيا بسعة إجمالية تصل إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، أحدهما مخصص للسوق التركية، والثاني للمستهلكين الأوروبيين. ووفقا للروس؛ فإن تركيا أحد أبرز مستوردى الغاز الروسى، حيث تحتل المرتبة الثانية فى قائمة زبائنه بمشتريات بلغت 24,76 مليار متر مكعب من الغاز. وتستورد تركيا حاليا الغاز الروسى عبر خطين هما "البلقان" و"السيل الأزرق". وحتى يكتمل المشهد علينا أن نضيف ذلك الاتفاق الضمنى الغامض بين الولاياتالمتحدةوتركيا بشأن إطلاق يد الأخيرة لتقوم بدور القائد لكافة الدول العربية الإسلامية غير الشيعية فى المنطقة بعد حالة عدم الاستقرار الممنهجة فى الدول العربية منذ عام 2010 وحتى اليوم، وقيامها بوصفها أحد الرعاة الرئيسيين فى تنفيذ المخطط التفكيكى للدول العربية بحماية قطر بعد انكشاف دورها فى المخطط ودخولها فى مرحلة العقاب عربيا. وباختصار يشعر إردوغان ومجموعته اليوم وبعد انطلاق مشروع "ظهر" للغاز فى مصر بأنهم قد تعرضوا للخداع على يد قوى الإستعمار مثلما تعرض الكثير من سلاطينهم من قبل. وبالتالى جاءت وستجئ تصريحاتهم الاستفزازية بشأن النجاح المصرى ليس تعبيرا عن أطماع ساذجة فى الاستيلاء على خيرات الآخرين فحسب بل تأتى تعبيرا عن الخوف من تبعات خدعة كبرى أوقعوا أنفسهم ووطنهم فيها فاكتسبوا عداء من حولهم وباتت "ساعة الانتقام" منهم أكثر قربا يوم لن ينفعهم التنسيق مع إيرانوقطر وإسرائيل والولاياتالمتحدة. لمزيد من مقالات طارق الشيخ;