من الإنصاف أن نسجل ما تضمنه مشروع تعديل قانون الإجراءات الجنائية من إيجابيات يمكن وصف بعضها بالإصلاح التشريعي.. هناك نوعان من الإيجابيات أولها شكلى يتعلق بحسن الصياغة التشريعية وثانيها موضوعى ينصب على الأحكام التى استحدثها المشروع. عن النوع الأول من الإيجابيات فها نحن أخيراً أمام مشروع قانون ينفض عن نفسه العديد من الأخطاء الصياغية ويُعيد الدقة الاصطلاحية لبعض المفاهيم التى أثارت الالتباس فيستبدل كلمة «بات» بكلمة «نهائي» والفارق بينهما كبير، وكلمة «الإشكال» بكلمة «النزاع» وعبارة «المرض العقلى أو النفسي» بعبارة «العته» وعبارة «صحيفة الحالة الجنائية» بعبارة «قلم السوابق». كما صحّح مشروع التعديل الكثير من مبالغ الغرامات والكفالات لتواكب المتغيرات، فرفع قيمة الغرامات إلى الضعف، وأحياناً إلى عشرة أضعاف، ورفع قيمة الكفالة إلى ألف ضعف مما تنص عليه المادة 444 من القانون الحالي، وهوأمر طبيعى كان مطلوباً منذ فترة طويلة. أما عن الإيجابيات الموضوعية فيمكن إيجازها تحت ثلاثة عناوين رئيسة لها تمثل خطوات على طريق تحقيق العدالة الناجزة لكن تتوقف فاعليتها على إصلاح مرفق العدالة نفسه. أولاً تبسيط الإجراءات. هنا قطع مشروع التعديل شوطاً لا بأس به فى دولة بيروقراطية النزعة تاريخياً. أول الإيجابيات هى معالجة إطالة أمد التقاضى سواء كان ذلك بفعل محترفى التسويف أو بتأثير النظام الإجرائى نفسه وذلك بإلغاء المواد الخاصة بالطعن فى الأحكام الغيابية بطريق المعارضة (المواد 391 حتى 401 والمادتان 407 و408 من القانون الحالي). كما حظر المشروع إحدى ممارسات إطالة أمد التقاضى وازدواجية الإجراءات بإلغاء المادة 264 التى كانت تجيز للمدعى بالحق المدنى (المضرور من الجريمة) رفع دعوى التعويض أمام المحكمة الجنائية بعد سبق رفعها أمام المحكمة المدنية. كما نقل المشروع بعض صلاحيات وزير العدل إلى رئيس محكمة الاستئناف تبسيطاً للإجراءات وتوفيراً للوقت خصوصاً أن هذه الصلاحيات كانت تتم بناء على طلب رئيس محكمة الاستئناف نفسه. وجه آخر للإصلاح تجلّى فى الأخذ بنظام الإعلان بالطريق الالكتروني، ومباشرة إجراءات التحقيق والمحاكمة الكترونياً عن بعد. هنا بدايات الثورة التشريعية التى سبقتنا إليها دول كثيرة (أن نصل متأخرين أفضل من ألا نصل أبداً). هذا يعنى جواز إعلان المتهم والمجنى عليه والمدعى بالحق المدنى عبر البريد الإلكترونى والرسائل النصية عبر الهاتف المحمول وإن بدا المشروع متردداً خجولاً فى تبنى هذا النظام على النحو الأمثل والأشمل. أخذ المشروع أيضاً بنظام التقاضى الإلكترونى عن بعد مع المتهمين والشهود والمجنى عليهم والخبراء مع إمكان الحفاظ على سرية شخصية الشهود اتساقاً مع إصلاح آخر كرّسه مشروع التعديل بإضفاء الحماية القانونية على الشهود والمبلغين والمجنى عليهم. لكن يبدو نطاق الحماية ضيّقاً مقارنةً بما تأخذ به تشريعات أجنبية، وما زال الأمر يتطلب حزمة من قوانين خاصة وقرارات تعطى لهذه الحماية أوسع مدى لها خصوصاً فى جرائم الإرهاب والجرائم المنظمة. ثانياً المحاكمة العادلة. يتضمن مشروع التعديل تفعيلاً لما تنص عليه المادة 96 من دستور 2014 من أن «المتهم برىء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وينظم القانون استئناف الأحكام الصادرة فى مواد الجنايات...» كانت أحكام محكمة الجنايات فى مواد الجنايات غير قابلة للطعن بالاستئناف، وهو ما يمثل مخالفة قانونية ومفارقة واقعية. قانونياً كان ثمة مخالفة لمبدأ التقاضى على درجتين كإحدى ركائز المحاكمة العادلة. أما المفارقة الواقعية فمبعثها أن الجنح وهى جرائم أقل جسامةً من الجنايات كان يحظى المتهم بها بضمانات تفوق تلك التى للمتهم بجناية إذ يجوز الطعن فيها بالاستئناف والنقض معاً. كما أجاز المشروع تعويض المتهم (مادياً وأدبياً) عن حبسه احتياطياً بشروط معينة ليلحق المشرع المصرى بركب الدول التى تعوّض الأشخاص عن فترة حبسهم احتياطياً احتراماً لأصل البراءة. يتجاوز هذا التعديل «الإصلاحى» النص الحالى المتواضع الذى يكتفى كتعويض عن الحبس الاحتياطى بنشر الحكم البات بالبراءة أو الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى فى جريدتين يوميتين واسعتى الانتشار، لكن ذلك كان مشروطاً بموافقة النيابة العامة. هذا التعديل الإصلاحى لا يمنع أن هناك جوانب أخرى سلبية جديرة بالإصلاح فى نظام الحبس الاحتياطى لم يقترب منها المشروع. ثالثاً كفالة حق الدفاع. كرّس مشروع التعديل وللمرة الأولى فى تاريخ الإجراءات الجنائية فى مصر حق المتهم فى الصمت، وهو ما يعنى عدم إجباره على الكلام وألا يُعتبر صمته قرينةً على إدانته، لكن يظل إعمال هذا الحق وليس مجرد النص عليه هو مناط التقييم فى نهاية المطاف. من الإنصاف أن نسجل أيضاً ما تضمنه مشروع التعديل على صعيد حماية حرمة الحياة الخاصة والحريات الفردية (مع التحفظ المبدئى بأن العبرة دائماً بمآلات التطبيق على أرض الواقع) فقد نصت المادة 48 المستحدثة على أن «للمنازل حرمة لا يجوز دخولها، ولا تفتيشها، ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائى مسبب يحدد المكان، والتوقيت، والغرض منه، ويجب تنبيه من فى المنزل عند دخوله أو تفتيشه، وإطلاعه على الأمر الصادر فى هذا الشأن». وكذلك إلزام مأمورى الضبط القضائى بإبلاغ المتهم بالتهمة المنسوبة إليه وإحاطته بحقوقه كتابة وتمكينه من الاتصال بذويه ومحاميه، ومعاملة كل من يُقبض عليه أو تُقيّد حريته بما يحفظ عليه كرامته وحظر تعذيبه أو ترهيبه أو إكراهه أو إيذاءه بدنياً أو معنوياً. هذه الايجابيات والإصلاحات لا تمنع أن بعض مواد مشروع التعديل تنطوى على سلبيات وتراجعات. طريق الإصلاح طويلٌ وشاق لا نملك معه سوى المثابرة والأمل . لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم