وتشكل فى الوعى سؤال هو: من هذا القادر على تحويل كل خلايا الجسد إلى عيدان من زجاج يتكسر شظايا مع استحالة التنفس؛ لتضارب الآهات ويصبح تشغيل الرئتين هو الأمل المستحيل؟ ويتركز ما بقى من وعى فى محاولة مستحيلة الاختراق حواجز منع الهواء من دخول الصدر. وتخرج صرخة رجاء إلى رفيقة العمر أن تنادى بواب العمارة ليستدعى «تاكسى» ؛ ويحملنى الرجل على كتفه كأنى كيس قطع غيار آدمية لتمر دقائق لأجد نفسى أمام استقبال مستشفى بالمهندسين . ويتوالى العمل الطبى سريعا ؛ فأهدأ قليلا ؛ ثم أبتسم فى وهن ؛ لأفكر قائلا « من اجل تلك الخناقات المتتالية والمتزامنة من آهات الألم اهتدى الإنسان لفكرة الإيمان فصارت حقيقة لا مفر من التسليم بها حتى فى قلب آكثر الملحدين صراخا بإنكار وجود خالق. وطار خيالى إلى شارع «راسباى» بالحى اللاتينى بباريس لأرى بعيون الذاكرة تفاصيل ما عاشه الفيلسوف الوجودى الكبير جان بول سارتر وهو يصرخ على من عاشت معه ايامه الاخيرة؛: «أحضرى لى رجل دين من الفقراء؛ لأن الأثرياء منهم مازالوا يبيعون الجنة لمن يدفع اكثر ثم تضخم كروشهم بالمتع وهم يتأملون ما اكتنزوه من عطايا الناس ويستقلون ما عندهم ويرغبون فى المزيد». ثم غير سارتر رجاءه قائلا «كل من يؤمنون بوجود إله يتحاربون بدعوى ان لكل فئة إله مختلف ؛ ولابد أنه إله واحد له طرق متعددة. ولذلك عليك إستدعاء رجل دين من افقر الناس فى فرنسا ولابد أن هذا الفقير سيكون مسلما لا لشىء إلا لان المسلمين هم المنبوذون فى أوروبا. وقد يكون رجل الدين الذى يتبعه الفقراء زاهدا من العطايا. وتلاحقة أنفاسه؛ بينما كانت العشيقة تمسك بنجمة داود المعلقة بصدرها لتتمتم ببضعة كلمات من التوراة. كان الممرض المتكفل برعايتى بارعا فى كيفية العثور على وريد فى ذراعى؛ واستطاع معاونة الطبيب فى وضع سماعات قياس رسم حركة الدم بين غرف القلب؛ بالإضافة إلى المحاليل اللازمة لأجد الخيال يرسم لى علاقاتى بالمستشفيات؛ ولأرى ما جرى عندما دخلت اول مستشفى فى حياتى حين كان العمر أحد عشر عاما؛ أعانى من اختناق بسبب عبثى بزجاجة ضخمة بحجرة تجاور مكتب ابى؛ كانت الزجاجة الضخمة معبأة بسائل النشادر المركز ومركونة فى مكانها منذ الحرب العالمية الثانية وهى عهدة لدى الحجر الصحى والقمسيون الطبى حيث يعمل أبى سكرتيرا لكل من الهيئتين. فجاء الاختناق المصحوب بعجز عن فتح العينين. وجرت محاولات الإفاقة لكن كان اثر النشادر قاسيا على العينين، فانتفخا مع عجز عن فتح الجفون وصار الحريق اللاسع فيهما يدفعنى إلى الصراخ؛ ليأخذنى أبى إلى مستشفى العيون المتخصص وهو قصر فخم بمنطقة وابور المياه وسط الإسكندرية. ورغم فخامة البناء فإن الليل كان موجزا للحياة فيما قبل قيام ثورة يوليو، فالسرير الذى قضيت عليه بضعة ساعات كان مزدحما بحشرات متوحشة تنهش كل جسدى ، حشرات البق ، صرخت مطالبا بضرورة حضور والدى فى الثالثة بعد منتصف الليل . وحضر الرجل وهو واحد من كبار المسئولين عن الصحة بالإسكندرية عام 1951 ، وتم تجهيز حجرة أخرى لكن يبدو أن الحشرات الملعونة كانت تزحم المستشفى الخاص بالعيون وعرفت يومها اتساع المسافة بين ابتسامة المسئول المنتفخ كذبا بأن مستشفى العيون السكندرى من أرقى المستشفيات وبين الواقع المزرى. خرجت من المستشفى عائدا لمنزلنا لتحضر ناهد وهى واحدة من سبع بنات لإحدى قريبات أمى من بعيد . قيل لى إن ناهد سترعانى كما أرادت والدتها . طبعا كانت الأم تطمح إلى وجود أى علاقة بأسرتى ؛ فالكل يعلم أن والدى قادر على الصرف على أكثر من بيت. وقامت ناهد بتنبيه الرجل داخلى لأجد مراهقتى وقد أعلنت عن نفسها, وصار السؤال الحاد « أليس سلوكى مع ناهد يمكن أن يؤجل شفائى؟ ثم ماذا يحدث بعد القبلات المتلاحقة ؟ ولكن براعة الطبيب السكندرى محمد حسن الصغير وضع حدا لآلام العيون، ووضع خاتمة لرحلة الخوف من فقدان البصر؛ ذلك الخوف الذى صاحبنى شهورا لثقتى بأنى لست فى براعة طه حسين كما أنى فشلت فى حفظ جزء واحد من القرآن ولن أصلح حتى لأن أكون ك «عم عبد الحفيظ» الذى يدور على البيوت صباحا ليقرأ بضع آيات من الذكر الحكيم ، ثم يشرب الشاى لينقل لكل أسرة اخبار العائلات الأخرى ثم يطلب اللعنة على الملك فاروق والسعديين ولا مانع من تناول أخبار النساء اللاتى لا رابط لهن ولا تستقر الواحدة منهن على رجل واحد فهن نساء قمة المجتمع الراقى اللاتى ستذوب أجسادهن فى نار جهنم. وعلت ضحكاته عندما قلت له «ياريتنى أكون جنب اثنين ثلاثة من النسوان اللى بتحكى عنهم ياشيخ عبد الحفيظ»؛ ويومها أعلن أبى نبأ بلوغى سن القدرة على الإنجاب . ويأتى شفاء العينين بصعوبة ويصبح من العادى زيارة محل موريس أشهر صانع بصريات فى الإسكندرية ليصنع لى نظارتين أولاهما لتصحح خللا بسيطا فى الرؤية وثانيتهما لمقاومة ضوء الشمس الساطع . واشترط ابى أن تكون النظارتان غاية فى الأناقة خوفا من أن يقول لى أحد تلك الكلمة التى عذبته فى سنوات مراهقته «يا أبو أربع عيون». قامت ثورة يوليو وأفقد سندى الرائع أبى فى يوم يصلح نموذجا للمليودراما. كان اليوم محددا لعقد قرآن شقيقى الأكبر؛ لكنا صحونا على صراخ أمى بخبر فقدان الأب . وبعد مرور اسبوع واحد قالت أمى لشقيقى «لا تخف .. ستتزوج من اختارها قلبك فالحى أبقى من الميت؛ هذا ما قاله لى أبوك عندما جاءنى فى الحلم ليلا؛ وانت ستتسلم وظيفتك وبدخلها مع ما يقرره لنا المجلس الحسبى ستعيش هذه الاسرة وليكمل اخوتك تعليمهم». ووجهت أمى الدعوة لفضيلة الشيخ إبراهيم الغرباوى ومعه الشيخ محمد محمد المدنى وكلاهما عضو بهيئة كبار العلماء وكانا يمثلان لها سندا فى مواجهة المشكلات التى كانت تنشأ بينها وبين ابى فى سنوات زواجها الاولى؛ خصوصا عندما تبلغ غيرتها الذروة؛ بعد أن سمحت وزارة المعارف بزواج المدرسات، وكانت غيرة أمى بسبب معرفتها بتفاصيل قصة حب أبى للمدرسة التى زاملها فور تخرجه فى المعلمين العليا وعمله مدرسا بمدرسة السنية الثانوية للبنات . ثم كان سفره إلى المانيا فى بعثة تتيح له الانتقال من سلك التدريس إلى سلك الإدارة الصحية، كانت مجرد بعثة للإستشفاء العاطفى؛ عاد منها ليتزوج بنت أغنى عمدة بمركز بلبيس. وهو زواج للجاه الاجتماعى لأن البنات فى عائلة أمى لا يحق لها أن ترث فالألفين فدان التى كان يملكها جدى لأمى مكتوبة لاثنين من الذكور. أحدهما لو سئل عن إطعام نفسه لمات من الجوع من فرط بخله، والثانى صرف كل ثروته على نزواته من باريس لروما وأثينا , وكان والدى قد تكفل برعاية حماته لعدم رعاية ابنائها لها. وكانت مشكلة والدى مع شقيقى زوجته تتمثل فى حثهما الدائم لرعاية أمهما بلا طائل. وعندما هدد الثرى فيهما بانه سيبلغ جمال عبد الناصر؛ بحكم جيرتنا لوالد جمال عبد الناصر؛ كاد كلاهما ان يركعا خوفا وهلعا. ولن انسى قول الخال البخيل إن على والدى تذكير جمال عبد الناصر برجل كان يجلس بجانبه فى احتفالات هيئة التحرير وان خالى هو هذا الرجل الذى عزم على عبد الناصر بسيجارة ماركة القط الاسود. ثم سحب ابى من يده ليشهده على منحه مبلغ مائتى جنيه لجدتى؛ وقدم لها مصحفا لتقسم عليه بانها لن تقول لجمال عبد الناصر إنه قام بتهريب كل ما زاد على ثلاثمائة فدان للفلاحين الذين يعملون فى اراضيه مع توقيع كل منهم على ورقة ضد تفيد انه مديون لخالى . وقد قام خالى بكل تلك الألاعيب عام 1948 عند طرح مناقشة تحديد الملكية باحد برلمانات ما قبل ثورة يوليو؛ فجمع كبار الملاك عددا من المشايخ ليصدروا بيانا يعلنون فيه حرمة تحديد الملكية بمجملها. لكن ثورة يوليو باغتت الجميع وجاء قانون تحديد الملكية الذى لم يصب خالى بادنى ضرر لسابق تهريبه لاراضيه. ولكنه عاش الرعب من تهديد امه بانها ستطلب من ابى إبلاغ جمال عبد الناصر بحكايات تهريبه لما زاد على ثلاثمائة فدان التى حددها قانون الإصلاح الزراعى وانه فعل ذلك قبل قيام الثورة. هاهو الاب قد رحل والحياة تسير بوطاة الظروف التى تديرها امى ببسالة ونبل وحسن تصرف؛ خصوصا ان ابى رحل قبل ان يكمل فى العمل الحكومى سوى اربعة وعشرين عاما وبضعة شهور. يصعب حساب مرات دخولى إلى المستشفيات كمريض؛ لكن يمكن القول إنها مرة كل ست سنوات، مرة بأزمة مغص كلوى؛ وأخرى لمعالجة كسر فى الذراع اليمنى؛ وثالثة بأزمة قلبية، لعلها من اهم الأزمات التى نبهتنى إلى ان العمر تعدى الاربعين. وكانت الحياة تسير لتنغمس فى الحب والسياسة معا. وكان آخر انغماس فى السياسة هو قدرة إقناع الراقى بغير حد منصور حسن لى بالانضمام لهيئة مكتبه . وأقسم بالله العظيم انى كنت اقول بصوت عال ونحن ندخل سويا مبنى الحزب الوطنى الاول «هذا مبنى الكذب الوطنى إلى ان يثبت العكس». وبين ضحكات منصور على قولى هذا كان يردد «أعلم ان هناك مسافة نفسية هائلة تفصلك عن الرئيس السادات لكنه لى كل مصر ومهمتنا ان نؤسس حزبا حقيقيا، حزب ينتج قادة حقيقيين بدلا ممن تقول انت عنهم انهم روث متخلف من بقايا تنظيمات ثورة يوليو وتسلل نفسية المنتقمين من ثورة يوليو نفسها إلى الصفوف الاولى. ولكن لامفر من محاولة إكتشاف جيل سياسى جديد بعد حرب اكتوبر».. ويصل منصور حسن إلى تكوين نواة لحزب سياسى من ستين شخصا إجتمعوا مع السادات بالإسماعيلية؛ واكفهر السادات ضيقا فور أن رأى وجوه إثنين هما حسن وزيرى ؛ وعبد المنعم جنيد؛ وكلاهما ممن تعاونوا بشكل جاد مع شعراوى جمعة فى إعادة تاسيس طليعة الاشتراكيين بعد هزيمة يونيو. المهم ان ورقة العمل التى أعدها الستون عقلا كانت قادرة على التغلغل فى المجتمع المصرى من وادى حلفا إلى الإسكندرية ومن رفح إلى السلوم. والمدهش ان صفوت الشريف أخفى كل تلك الاوراق ليتخذها دليلا لتكوين لجنة السياسات بالحزب الوطنى التى جمعت عقولا كبيرة مختلطة بانتهازيين من جوقة جمال مبارك لتكون اللجنة كلها غمامة تحجز رؤية ما يدور فى ضمير المجتمع من غليان اجاد تزويره رجل الاعمال احمد عز الذى فهم واستولى على واحدة من أهم غرفة التواصل مع خريطة المجتمع المصرى بأدق الأماكن وكانت تسمى «غرفة المبرقة» وكان مؤسسها هو السيد عبد الفتاح أبو الفضل نائب مدير المخابرات الأسبق وقائد المقاومة الشعبية بمدن القناة إبان حرب 1956 ؛ وهو من اوائل من اقتحموا غرف شركات البترول العالمية فى محاولة للتعرف على سؤال هو «كيف يوجد بترول بكثافة غير عادية فى ليبيا على الحدود الغربية، وفى الجزيرة العربية على حدودنا الشرقية ، بينما تظل الخريطة المصرية شبه جرداء من البترول» ؟ وقد أسس عبد الفتاح أبو الفضل غرفة المبرقة أسفل مبنى الاتحاد الاشتراكى الذى حوله السادات ثم مبارك إلى مقر للحزب الوطنى. وعندما قرر منصور حسن الاستقالة من عمله كوزير دولة لرئاسة الجمهورية إحتجاجا على قرار السادات باعتقال ألف وخمسمائة عقل بارز فى المجتمع، عند ذلك كان أول المستريحين لقرار استقالته هو حسنى مبارك وفريقه المكون من صفوت الشريف وفؤاد محيى الدين القائم بأعمال رئيس وزراء مصر أيامها, ولو ذكرت ما شاهدته من اسلوب معاملة السادات لفؤاد محيى الدين وصحبه لسال عرق الخجل ليفيض. وهل أنسى ركوع احد الوزراء على أربع ليطعم كلب حفيد السادات شيكولاتة مخصوصة للكلابّّ!! وهاجمتنى أزمة قلب عنيفة انقذنى منها حسن رعاية عالم الامراض الباطنية الراحل جمال مجاهد الذى كان اول من اكتشف عودة مرض البلاجرا إلى الجسد المصرى؛ حيث كان سوء التغذية قد نما وترعرع مع سياسة الإنفتاح الاقتصادى والتى لا أنسى تعبير ابنى شريف عنها فى شكل تساؤل لمنصور حسن حين قال له «أنت ترى السادات كل يوم فهل يمكن أن تسأله: لماذا تكون وجوه الناس مغبرة والشوارع محفرة والفتارين منورة ؟ فاحتضن منصور حسن الطفل الذى كان فى التاسعة ليقول له: أنت قمت بالكشف على الواقع المصرى بضراوة البساطة. وفى الأزمة الأخيرة التى داهمتنى بسبب أنيميا حادة بالجهاز الهضمى الذى ازدحم بقروح وجروح غير مرئية ، كان سيد اكتشاف تلك الحقائق هو عبقرى المناظير مازن نجا الذى ذكرنى بما سبق وكتبته منذ ستة وثلاثين عاما عن براعة أستاذه جمال مجاهد أحد سادة الامراض الباطنية. وبرعاية سيد علم الإنعاش شريف مختار دار ويدور علاجى، وبعلم عميد أمراض التنفس فى بر المحروسة عوض تاج الدين تدور معركة ينتصر فيها علمه على اعقد مشكلات صعوبة التنفس عندى .أما عن مستشفى حى المهندسين فشقيقة والدة مؤسسه هى السيدة سنية والدة د. ثروت عكاشة ود. احمد عكاشة ولعلها السيدة الوحيدة التى كانت تقول لجمال عبد الناصر : ياجمال قرارك الفلانى صح وقرارك العلانى خطأ . ولذلك يكفينى أن أقول لإدارة المستشفى شكرا مع رجاء استبدال مطبخ المستشفى ولو برجال من أبسط مستشفيات المحروسة ، فلأول مرة اكتشف أن هناك من يقوم بتدميس قشر الفول ويقدمه على أنه فول مدمس. وكانت خمسة أيام صعبة ذات رعاية فائقة من ممرضين كل منهم حامل لبكالوريوس التمريض ولا ينتظر أحدهم بقشيشا فكرامة الواحد منهم تعلو لتتساوى مع كرامة الطبيب، ولكن لأن عيون الكاتب لابد أن تكتشف العيوب ، لذلك اقول إن الطعام المعد بمطبخ المستشفى يمكن اتهامه بأنه سيد الرداءة الغذائية فى بر المحروسة.و يمكننى عبر هذه السطور شكر عبد الصادق الشوربجى رئيس مجلس إدارة روز اليوسف الذى قام ويقوم برعايتى بما يفوق التصور؛ ولعله قيادة نادرة تحفظ التاريخ الشخصى لكل من أضاف لروز اليوسف مكررا كلمة إحسان عبد القدوس: نحن لا ننسى من أضافوا لروز اليوسف وصباح الخير.