تلاحقت أمواج متواترة من قلبى لتنسجم مع أمواج عاصفة تتخطى كورنيش الإسكندرية لتبلل الشارع ويصل رذاذها إلى قاع الساحة الصغيرة التى نجلس فيها نحن طلبة العام الأول بكلية الآداب لدراسة الفلسفة . وفجأة كانت دقات أقدامها تشدنى من مقعدى لأسمع همسات قلبى «إنها هى» ، وإحتضنت عيونى كل وجودها الحى لأسمع «كل ده كان ليه .. لما شفت عنيه».و كانت عيونى تفر منى بحثا عنها ؛ تلك التى تتماوج دقات قلبى مع وقع تنفسها منذ أن جلست تسألنى عن معنى قول الفيلسوف «يلوح أن الزمان غير موجود .. وإن كان موجودا فهذا وجود ناقص» . ولم أشرح لها العبارة على ضوء ما ندرس؛ ولكن على قدر فهمى أن الله خلقها أولا ثم خلق قلبى على هيئتها؛ فصارت موجودة لمرتين ؛ مرة بوجودها الحى على أرض الواقع ؛ وأخرى هى موجودة داخل تجويفى الصدرى لتدير تنفسى وخطواتى ؛ ونما السؤال الغاضب فى كيانى «لماذا يحدث لى كل ذلك وهى من سألت عن هذا الذى نحسه ولا نراه ؛ سألت عن الزمن الذى نحسب به كل التفاصيل لكننا لانمسكه بأيدينا ، ولم تجب على نفسها بالحقيقة التى تغمرنا معا منذ أن جلست بجانبى فى المدرج ؛ حين تسربت تيارات هادئة متدفقة تغمرنا و احتوتنا معا فتضرجت بشرتها بحمرة بدت خافتة لكن استمرار تلك الحمرة دفع جسد أى منا ليقترب من الآخر حتى بدا قول الشاعر حقيقة واضحة عن رغبة كائنين اثنين أن يلدا من يشبهما معا. قالت: لا أفهم معنى ما تقول عن الزمن، فكيف يكون موجودا ولا نلمسه ؟ وكيف يكون ملموسا ولا يتجسد أمامنا ؟ . تقاليد ابنة عائلة ولم أجد مفرا من أن تتلامس يدى مع يدها ؛ فما كان للدفء مفر من طلب مزيد من تقارب . لكن ما تفرضه تقاليد ابنة عائلة فوق المتوسطة لها جذور من الريف؛ وما أحرص عليه من إحترام وجودنا فى مدرج الكلية؛ لولا ذلك وذاك لربطنا الكائن الذى ربط أول آدم بأول حواء ولكان قد أعلن بدء الحمل بأول طفل لنا . ولذلك سرعان ما ابتعدت عنى قليلا لأشاركها بنفس درجة الابتعاد، بعد ان أيقن كل منا انه ارتبط بالآخر كما سبق أن صدق كلانا على قول الحق سبحانه عندما جمعنا ضمن كل من خلق ونحن مجرد ذرات فى ظهور آبائنا ليشهدنا جل وعلا على أنه من أوجدنا وسألنا ألست بربكم ؟ أجبنا نعم انت الإله وحدك ؛ وتلفتنا لنجد إثنين من احب خلق الله لنا هما رابعة العدوية وجلال الدين الرومى، وأخذ الصوفى الحكيم جلال الدين يعلمنا كيف نرقص دائرين لنتذكر دوران كل شىء حول كل شىء، وعندما امتلأنا صفاء ؛ تقدمتنا رابعة العدوية لتسكننا فى كوخ على نهر صغير من أنهار الجنة وهى تهمس لنا «بنيت لكما الكوخ من أحجار جهنم الصلدة بعد أن أطفأت سخونتها بدموع التائبين؛ فصارت الجدران تعطر المكان بعطر الياسمين. وإمتدت يدى إلى النهر الجارى أمامنا لأجد سمكة ملونة تنادى علينا قائلة « أنا طعام العاشقين ». وهكذا شرحت لها معنى الزمن الموجود بالمشاعر والملموس بتغير الموجود أمامنا حين ندقق الرؤية؛ ومضت خطواتنا وكل منا موجود فى أسرة لا تعرف الأخرى، فأبى مسئول عن صحة الإسكندرية ووالدها مسئول عن حقول الملك فاروق، لكنه غير منغمس فى فساده. أبى يقيم العدل بأن يمنح عبر القمسيون الطبى شهادات لياقة لكل من يطلبها عن حق؛ ووالدها ينظم رى فدادين اراضى البسطاء قبل أن يروى مساحات أملاك الملك فاروق. وعندما جاءت حرب فلسطين كان أحد أعمامها هو من يحمل الزاد لجمال عبد الناصر وصحبه فى حصار الفالوجا. وعندما زارنا جمال عبد الناصر فى كليتنا ومعه أسطورة الهند الباقية ابدا «جواهر لال نهرو» كنا من اختارتهما الكلية لنكون فى استقبال ناصر ونهرو، وكنت وحدى من اصر على ان نجلس سويا وفى الصفوف الاولى من المدرج الكبير كى أدقق النظر فى عينى عبد الناصر؛ لكن البريق فيهما أعاد محاولاتى إليً. وكان لى سؤال لم استطع أن أسمعه لعبد الناصر إلى أن رحل «هل أنت من حكم عليه القدر أن يحاصرك الخصم لك ولنا؟ حاصروك فى الفالوجة فى حرب 1948؛ وحين اردت فك الحصار عن مجموع المصريين بثورة الثالث والعشرين من يوليو حاصرك بمن لم يستوعبوا رسالتك حتى من بين الضباط الذين شاركوك الثورة ، فها أنت ترغب عام 1954 أن تؤسس جيلا جديدا للثورة فاخترت ضابطا اسمه وحيد رمضان مضى يخطب فينا نحن الجيل الشاب «أعداء الثورة أربعة .. إمعة أو صاحب منفعة أو موتور أو مأجور». ولم يلبث إلا أن انضم إلى الساخرين منك لانك لم تضعه فى الموقع الذى تمناه ، وجاء من يحرص على افكارك الأساسية ليحمل لك الخبر المؤكد وهو ضرورة أخذ الحذر، فزكريا محيى الدين عضو مجلس الثورة والذى أوليته منذ فجر الثالث والعشرين من يوليو 1952 مسئولية تأمين الثورة والثوار؛ فحسب لكل همسة حسابا وهو الأب الأول لجهاز المخابرات المصرى وهو من اختار العاملين فيه من بداياته بدقة مشهودة؛ زكريا محيى الدين هو من دخل عليك بمكتبك بمجلس قيادة الثورة ومعه ضابط من سلاح الفرسان هو الملازم اول جمال منصور ؛ هذا الذى كان من اوائل المنضمين لتنظيمك السرى وهو الذى اقترح عليك اسما للتنظيم قائلا «فليكن توقيعنا على المنشورات ضد الملك فاروق باسم الضباط الاحرار» وعندما قال لك ذلك أثناء طباعة منشورات التنظيم فى دكان يملكه شقيقه بحى غمرة فرحت به؛ فضلا عن أنه كان ضابط بالحرس الملكى وكان مكلفا من خالد محيى الدين عضو الخلية الأولى للضباط الأحرار بان يضع منشورات الضباط الأحرار على مكاتب الشخصيات المؤثرة بقصر الملك فاروق, وهو من انتبه إلى عمق العلاقة بين أنور السادات وبين يوسف رشاد طبيب الملك الخاص وزوجته ناهد هانم رشاد ذات الجمال الصاعق والتى تمنت أن يلتفت لها الملك فاروق فتحصل على الطلاق لتصير هى الملكة الجديدة بعد الملكة فريدة المطلقة. وكانت ناهد رشاد وزوجها يغرقان السادات بالكرم الزائد كواحد من أفراد الحرس الحديدى الذى تكون لمحاربة وقتل اعداء الملك فاروق. حمل جمال منصور لعبد الناصر كيفية إعجاب يوسف رشاد وزوجته بانور السادات؛ وهو الذى اخذ حذره فدخل السينما مع زوجته ليلة قيام الثورة وافتعل خناقة مع احد رواد السينما واصر على إبلاغ البوليس، ثم أعاد زوجته إلى المنزل وليذهب بعد ذلك ليشارك فى حركة الجيش ليلة 23 يوليو. وكان هناك ضابط آخر من الحرس الحديدى هو الضابط سيد جاد، وكان يمد ضباط تنظيم الضباط الأحرار بأخبار الملك والقيادات ومن سوف يترصدون, وطلب جمال منصور أن يعفو عبد الناصر عن سيد جاد وان يسند له أى عمل مدنى كيلا تتشتت أسرته. وحين حذرك كل من زكريا محيى الدين وجمال منصور من دهاء السادات وكيفية قدراته على السير فوق الأسلاك الصاعقة فقلت لهما «اتركوه لى». وأصر جمال منصور ان يذاكر ويحصل على بكالوريوس التجارة ثم دخل امتحان السلك السياسى فكان الضابط الوحيد الذى التحق بالسلك الدبلوماسى عبر امتحانات السلك السياسى الصعبة. وهو من قال عنه جمال عبد الناصر لمحمد حسنين هيكل « لعله عضو الضباط الأحرار الوحيد الذى لم يطلب شيئا لنفسه». وعن نفسى أنا كاتب هذه السطور أحفظ له مودة فائقة ، فقد كان القائم بأعمال السفير بباريس فى أول رحلة لى خارج مصر فى ديسمبر 1963 وأصر على إقامة أكثر من مأدبة عشاء لى وكان يدعو لها بعض المثقفين الفرنسيين، ولما كنت لا اتقن الفرنسية قام بتكليف طالب الدراسات العليا على السمان كى يكون الجسر بينى وبين رجال الفكر الفرنسى مقابل مكافأة تعين الطالب على السمان على تكلفة الحياة قبل ان تقبل عليه اجهزة الرئاسة المصرية كى يكون احد عيونها ورسولها فى بعض المهام . ذوى الحظوة! وحين حدث خلاف فى الرؤى بين جمال منصور وبين بعض الكبار عام 1968 لكن الدبلوماسيين المصريين اختاروه بغالبيتهم كى يكون امين التنظيم السياسى بها؛ لم يعجب بعضهم من ذوى الحظوة عملية تصعيد واحد اجتمعت له صفتان؛ أولاها انه كان عضو لتنظيم الضباط الأحرار فيما قبل ثورة يوليو؛ وثانيتها هو الإجماع الدبلوماسى على شخصه لفرط نزاهته، فاستصدر الحاسدون له قرار نقله من الخارجية إلى وزارة السياحة. وحاول الاتصال بكل من تعرف عليهم من قبل أثناء عمله كقائم بالاعمال فى باريس أو كسفير فى ألمانيا. فتهرب منه الجميع بعد أن ظنت الغالبية انه مغضوب عليه؛ ولأنى كنت اعرفه عن قرب؛ وأعرف قيمته كمفكر ودبلوماسى وثورى؛ لذلك قمت بالتواصل الفورى مع صديقى السيد شعراوى جمعة وزير الداخلية وأمين التنظيم السياسى لجمال عبد الناصر وركبت مع السيد زغلول كامل عضو الضباط الاحرار ايضا ومن عمل فى قيادة الخدمة السرية ويعلم قيمة وقامة جمال منصور لنصل إلى وزارة الداخلية للقاء شعراوى جمعة فى أحد ليالى عام 1968؛ لعلنا نوقف قرار نقل جمال منصور إلى السياحة. واستمع لنا شعراوى جمعة ليتصل بالرئيس عبد الناصر ويرفع له تقريرا شفهيا عن حادث نقل جمال منصور من الخارجية ؛ حيث كانت تهمته الوحيدة هى محبة أغلب أعضاء السلك الدبلوماسى له ، فتأتى كلمة جمال عبد الناصر مستغربا «جمال منصور يطلب لأول مرة شيئا لنفسه، وهو الذى لم يفعلها طوال عمره؛ وأكرمنى جمال منصور بأن كرر كلماتى أمام من اجتمعوا عنده بعد أن قام بعضهم بالدس له وكانوا وراء قرار نقله الذى أوقفه جمال عبد الناصر. ثم جاء ما لا يمكن نسيانه بعد حادث اغتيال ولن انسى يوم اغتيال السادات؛ فقد شاهدت جمال منصور وهو يقوم بعمل كلفه به القائم بأعمال رئيس الوزراء فؤاد محيى الدين ، وكان التكليف هو كتابة نص النعى الخارج من مصر لفقيدها أنور السادات. ولم أسأله يومها عن هل تغير رأيه فى السادات وهو من سبق وقام بتحذير زكريا محيى الدين وجمال عبد الناصر منه. لكنى لم أفقد سؤالى أبدا ، ففى ليلة من أجمل ليالى القاهرة حيث أقامت السيدة سعاد الصباح صاحبة دار الصباح للنشر حفلا لتكريم المؤسس الفعلى للثقافة فى دنيا 23 يوليو وهو د. ثروت عكاشة، وكان د. ثروت قد دعا جمال منصور ومعه نوارة عمره زوجته السيدة نادية منصور، وجاء موقعى على نفس المائدة التى جلس عليها جمال منصور والسيد حسين الشافعى عضو مجلس الثورة ونائب السادات المحال للتقاعد بعد انتصار أكتوبر. سألت لحظتها جمال منصور «بأى مشاعر كتبت نعى السادات إلى العالم وأنت من رويت حتى فى مذكراتك تحذيرك لعبد الناصر وزكريا محيى الدين منه؟. ابتسم الرجل ليقول» حذرت منه فى الشهور الأولى من ثورة يوليو، وكتبت نعيه بعد سنوات تقلبت فيها التجارب سواء بالنسبة لى أو بالنسبة للراحل السادات. وإذا كنت تريد ان تسأل عن رأيى فيمن خاض حرب منتصرة فى اكتوبر 1973 فعليك ألا تنسى أن قيادات الجيش هى صاحبة قرارات التدريب بعد هزيمة يونيو 1967 ، وأن شقيق أفكارك وجزءً كبيرا من افكارى هو نائب وزير الخارجية العتيد حسين ذو الفقار صبرى صاحب الكتاب الصرخة « يانفس لا تراعى «الذى أوجز فيه خطايا ثورة يوليو وقد كتبها بمحبة لوطن جريح ولقائد اسمه جمال عبد الناصر الذى ما كان يجب أن ينهزم لو أحسن اختيار الرجال وهو ما فعله بعد الهزيمة. وأغلب الظن أن جمال عبد الناصر قد عرف هذا الكتاب جيدا، ولكن السادات لم يمارس القراءة بل اعتمد على الحدس والمفاجأة فضلا عن إعطاء كل قيادة فرصتها . وقد فعل ذلك حين إختار لقيادة الجيش رجلا فى حنكة أحمد إسماعيل على ولرئاسة الأركان رجلا فى دقة الفريق الشاذلى، كما أن الخبرة تراكمت لدى السادات، وتعلم من أصغر المتهمين معه فى قضية اغتيال السياسى الفاسد فيما قبل ثورة يوليو وهو أمين عثمان الذى كان خاضعا لإيمان أن الإستعمار الإنجليزى لمصر هو زواج كاثوليكى لا فكاك منه فنال من تنظيم صغير كونه السادات بضع رصاصات أجهزت عليه، أما أصغر المتهمين فهو الكاتب الصحفى وسيم خالد أول من حذر من الانصياع للروس؛ فقد درس عيوب تعامل الاتحاد السوفيتى مع دول المعسكر الشرقى. وكتب ذلك فيما قبل الهزيمة العسكرية فى يونيو ، وإذا كان وسيم خالد قد مات بتضخم القلب فيما قبل هزيمة يونيو ، فكتابه «الشيوعية الاشتراكية الأوروبية» كان موجودا تحت أعيننا جميعا . فلا موسكو تعطيك قلبها دون رضوخ ولا كيسنجر كان قابلا للتعامل مع السادات دون أن يرى فى نهاية حكمه كيف يفصل مصر عن العروبة، وكيف يوجه رصاصات لا قيامة بعدها لفكرة عدم الإنحياز؛ وأسس لوجود القاهرة فى الفلك الامريكى بعدما دفع الظروف حول مصر إلى دنيا خالية من حلفاء اقتصاديين من شقيقاتها العربية، وكان ذلك فى قلبى وعقلى وأنا أكتب نعى السادات. تنهد يومها ليضيف «أنظر حولك لتجد القذافى يطلب الطاعة من مصر وستجد الخليج يتحسس جيوبه قبل أن يفكر فى مساعدتك. مصر بلد وحيد ياصديقى ورحل جمال منصور تاركا كتابين اولهما عن تاريخه الشخصى وثانيهما عن الوثائق الأولى لتنظيم الضباط الأحرار . وفى روما وعلى مائدة عشاء بفندق جراند أوتيل كانت الداعية لى على هذا العشاء هى من تشكل قلبى على هيئتها، وكان التاريخ يشير إلى الرابع من يناير يوم مولدى وكان العام هو 1991؛ وكانت تقوم بتدريس فلسفة الفن فى إحدى جامعات إيطاليا، وعلى ضوء الشموع سألتها هل مازلت تسألين عن معنى قول الفيلسوف «يلوح أن الزمان غير موجود.. وإن كان موجودا فهذا وجود ناقص». قالت : لم أعد أسأل لأنك أمامى وقد أشعلت لك شمعة صداقة فى عيد ميلادك لتذكرك بايام العشق القديم . وضحكنا ضحكات مجروحة بدموع لم تخرج إلى النور.