الفاتيكان يدعو إلى وقف القصف الإسرائيلي على غزة    ماريسكا: التتويج بدوري المؤتمر الأوروبي سيكون إنجازًا تاريخيًا    حواء على طريق الريادة| خلية نحل بالأكاديمية الوطنية لإنجاز برنامج «المرأة تقود للتنفيذيات»    أمانة الإعلام بحزب الجبهة الوطنية: حرية تداول المعلومات حق المواطن    انخفاض أسعار النفط بالأسواق بسبب مخاوف من زيادة المعروض    القوات المسلحة تنعى اللواء محمد علي مصيلحي وزير التموين الأسبق    توقيع بروتوكول تعاون بين وزارة الأوقاف والمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية    «جيتوهات الجوع».. مشاهد مأساوية تكشف فشل الاحتلال فى توزيع المساعدات ب غزة    رئيس وزراء قطر يؤكد استمرار الجهود مع الشركاء لخفض التصعيد بالمنطقة    الرئيس اللبناني: دعم الإمارات يجسد عمق العلاقة الأخوية    معهد البحوث الفلكية: زلزال 22 مايو الماضي كان الأقوى.. ومع ذلك شعرنا بزلزال 14 مايو أكثر لهذا السبب    برشلونة يعلن رسميا تجديد عقد لامين يامال    برشلونة يجدد تعاقد لامين يامال    محافظة الجيزة: ضبط 2.5 طن دقيق بلدي مدعم بحدائق الأهرام    متجاهلة أزمتها مع محمد رمضان.. ياسمين صبري: «المشروع X أهم من أي حاجة»    من الكويت إلى دبا.. مصعب السالم يعيد صياغة يونسكو بلغة معاصرة    هل يأثم من ترك صيام يوم عرفة؟.. أمين الفتوى يحسم الجدل    فتاة تسأل.. هل أصارح خطيبي بمرضي؟.. أمين الفتوى يجيب    حالة الطقس غدا الأربعاء 28-5-2025 في محافظة الفيوم    «حيازة مخدرات».. المشدد 6 سنوات ل عامل وابنه في المنيا    بسبب تراكم الديون... شخص ينهي حياته بعد مروره بأزمة نفسية بالفيوم    المؤتمر: لقاء الرئيس السيسي برجال الأعمال الأمريكيين خطوة مهمة لجذب الاستثمارات    رئيس الوزراء يشهد احتفالية تطوير مدينة غرناطة بمصر الجديدة    أفشلت مخططات المذيع الأمريكي للنيل من حضارة مصر.. زاهي حواس يكشف كواليس حواره مع "جو روجان"    زينة "مش هتنازل عن حقي وحق ولادي وأحنا في دولة قانون"    أسهم شركات "الصلب" و"الأدوية" تتصدر مكاسب البورصة المصرية وتراجع قطاع الاستثمار    غضب لاعبي الزمالك بسبب نقل مفاجئ لتدريبات الفريق (خاص)    «متى تبدأ؟».. امتحانات الفصل الدراسي الثاني للشهادة الاعدادية 2025 بالمنيا (جدول)    رئيس اتحاد النحالين يكشف حقيقة فيديو العسل المغشوش: غير دقيق ويضرب الصناعة الوطنية    صحة المنوفية تواصل جولاتها الميدانية لتطوير المستشفيات وتحسين الخدمة المقدمة للمواطنين    31 بالقاهرة.. الأرصاد تكشف التوقعات التفصيلية لطقس الأربعاء    "المشاركة في أفريقيا".. أول تعليق لمحمد عزت مدرب سيدات الزمالك الجديد    ب"فستان جريء"..هدى الإتربي تنشر صورًا جديدة من مشاركتها في مهرجان كان    بيان عاجل بشأن العامل صاحب فيديو التعنيف من مسؤول عمل سعودي    السعودية تعلن غدًا أول أيام شهر ذي الحجة.. وعيد الأضحى الجمعة 6 يونيو    بعد دخوله غرفة العمليات..تامر عاشور يعتذر عن حفلاته خلال الفترة المقبلة    وزير العمل يُسلم شهادات دولية للخريجين من مسؤولي التشغيل بالمديريات بالصعيد    «الإفتاء» تكشف عن آخر موعد لقص الشعر والأظافر ل«المُضحي»    وكيل صحة البحيرة يتفقد العمل بوحدة صحة الأسرة بالجرادات بأبو حمص    السياحة لأمريكا تتراجع.. كيف أطاحت سياسات ترامب التجارية بثقة الزوار؟    تشابي ألونسو يسعى لخطف "جوهرة باريس"    6 أدعية مستحبة في العشر الأوائل من ذي الحجة.. أيام لا تُعوض    ذكرى ميلاد فاتن حمامة فى كاريكاتير اليوم السابع    "ملكة جمال الكون" تضع تامر حسني والشامي في قوائم المحتوى الأكثر رواجا    ميار شريف تخسر منافسات الزوجي وتودع رولان جاروس من الدور الأول    غياب ثلاثي الأهلي وبيراميدز.. قائمة منتخب المغرب لفترة التوقف الدولي المقبلة    مؤتمر الأعمال العُماني الشرق أفريقي يبحث الفرص الاستثمارية في 7 قطاعات واعدة    دليل كليات الطب المعترف بها عالميا في مصر للطلاب المصريين والأجانب    نشاط للرياح وارتفاع أمواج البحر على سواحل البحر المتوسط بالإسكندرية.. فيديو    الإدارة العامة للمرور تبدأ تجربة «الرادار الروبوت» المتحرك لضبط المخالفات على الطرق السريعة    الداخلية تكشف تفاصيل فيديو مشاجرة بورسعيد    قراءة فى نصوص اتفاقية مكافحة الأوبئة    قرار جمهوري بإنشاء جامعة القاهرة الأهلية    خلال 24 ساعة.. ضبط 146 متهمًا بحوزتهم 168 قطعة سلاح ناري    تؤكد قوة الاقتصاد الوطني، تفاصيل تقرير برلماني عن العلاوة الدورية    الزمالك يتفق مع مدرب دجلة السابق على تدريب الكرة النسائية    رئيس أركان حرب القوات المسلحة يلتقي رئيس هيئة الأركان المشتركة الإيطالية.. شاهد    في إطار التعاون الثنائي وتعزيز الأمن الصحي الإقليمي.. «الصحة»: اختتام أعمال قافلتين طبيتين بجيبوتي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عطش قديم وحب ناقص
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 07 - 2015

أهلا يا أنا فى أى لحظة تأمل ، أجد أمامى أيام عمرى وهى تلتف حولى وكأن كل يوم منها يقدم لى بعضا من وقائع ما جرى . أضحك لأيام العمر ، لأنها تخدعنى كثيرا
،فأى يوم منهم يخفى عنى قدرا من الآلام التى جاءت بعد _ أو أثناء_ أى تجربة بها طعم انتصار صغير أو كبير، أو أى تجربة أخرى تحمل مرارة كبيرة أو صغيرة .وها أنا ذا أجدنى أمام بعض من وقائع اليوم الذى قررت فيه أسرتى أن أخوض تجربة الصوم . كان العمر ثمانية أعوام، وما أن إنتصف النهار حتى بلغ بى العطش حدا دفعنى إلى التلفت حولى ، فلم أجد أحدا ، ففتحت صنبور الماء مستغفرا الله قائلا « أنت تعلم أنى عيل صغير ، ولا أطيق إنتظار ساعات دون إرتواء، ها أنا أستغفرك قبل أن أشرب الماء وعندما أكبر سأعوض هذا اليوم «. وفور إرتشافى الماء ؛ سافر بى الخيال إلى ما قالته جدتى العجوز من أن العذاب سيأتى كل مفطر فظللت أرقب مجيء العذاب طوال النهار ، فلم يأت ومضى الوقت كساعات من توجس ، فكان قرارى ألا أفطر من بعد ذلك ، لكن ما أن انتصف النهار التالي؛ حتى نادتنى أقراص القطايف المتبقية من أمس وهى تلمع بعسلها الأبيض على سطحها البنى اللون ، فإمتدت يدى بلهفة لترفع واحدة منها إلى فمى ، لأمضغها مستغفرا السماء . ولكنى وفى نفس اليوم رأيت لأول مرة دموع أبى بعد أن وصله نبأ إفتقاده لأمه ؛ وأعترف أن دموع الرجل زلزلتنى ، فتحاملت على نفسى من بعد ذلك وصرت أصوم لتصبح ساعات ما بعد صلاة العصر وحتى مدفع الإفطار مجالا لتدافع أفكار بعضها مضحك وبعضها مؤلم ، وفيها بعض من أحاديثى إلى السماء ، وتتدافع رقرقة ما أرى من موجات الشجن ما يجعل الدقائق تمتد أحيانا ، و فى أحيان آخرى يجرى اختزال الساعة فتمر بسرعة . ويبدو الشجن كتموجات النيل عند سوهاج ، هذا الموقع الذى أحببته أكثر من غيره على طول النهر، رغم أنى لم أره إلا مرتين لا ثالث لهما ، فكنت أرقب النهر من بلكونة اللوكاندة الفقيرة المطلة على النهر لتتدافع التذكارات .
وهاهى ملامح الخوف القديم من آلام الجسد بعد جراحة الزائدة الدودية تأتى لى ، فقد شاهدت من بلكونة ذلك الفندق الزهيد رجلا يصرخ بأن ابنه أجرى جراحة الزائدة الدودية، هنا عادت إلى شاشة التذكار لحظة مداهمة الزائدة الدودية لى عندما كان العمر خمسة عشر عاما، وجرت بى أمى إلى أقرب مستشفى للمنزل الواقع فى شارع الرصافة السكندري، لتجد مدير المستشفى الخاص طالبا مائة وخمسين جنيها قبل الدخول ، مع توقيعها على إقرار بان أقضى خمسة أيام على سرير فى ردهة بين حجرتين، وكان المبلغ يوازى حاليا عدة آلاف كثيفة من الجنيهات. ولما كان هذا المبلغ لا يتوفر لها إلا بعد إستئذان المجلس الحسبى ليأذن لها صرفه من ميراثى من أبى ، لذلك امتدت يدها اليسرى ليدها اليمنى كى تخلع أسورتين ذهبيتين على هيئة ثعبانين، لتقدمهما لمدير المستشفي، الذى إبتسم إبتسامة تتساوى مع إبتسامة صبى «عم على الجزار» الذى لم يكن يسلمنى أقة اللحم المسماة ببيت الكلاوى إلا بعد أن أقدم له ستة وعشرين قرشا بتمامها ، هنا أخذت أسورتى أمى من يدها قائلا لها « تعالى معي». ولا أعرف كيف أطاعتنى ، لنخرج من باب المستشفى الخاص الطى يقابله على الرصيف المقابل بناء آخر هو مستشفى الطلبة بشارع منشا السكندري، ولأنى كنت معتزا ببطاقة كونى بمدرسة محرم بك الخاصة وأحتفظ بها فى جيبى ، لأنها مدرسة يتم النظر إليها كواحدة من أرقى مدارس الإسكندرية ، لذلك طلبت من أمى إعادة الإسورتين لمعصمها ، وقدمت بطاقة تعريفى بكونى تلميذ بثانوية محرم بك لمدير مستشفى الطلبة؛ فضحك متسائلا « هل نسيتنى ؟ أنا عمك الدكتور إبراهيم مراد صديق والدك ؟ أنا إبراهيم مراد مدير الصحة المدرسية فى كل الإسكندرية . وأضاف» والدك هو من إفتتح فى أحياء الإسكندرية الفقيرة أكثر من مستوصف تحت مظلة جمعية اسمها «الرحمة»، وهو من اشترى كل حقن البنسلين التى كانت تستورد بواسطة شركة بوتس عام 1951، وعرضها للبيع فى صيدليات المستوصفات بثلاثة قروش للحقنة الواحدة بدلا من اثنت عشر قرشا التى تبيعها بها الصيدليات . وكنت أعمل بهذه المستوصفات بعد عملى فى مستشفى الطلبة ».
قلت لأمى «الآن تأكد لديك صدق أبى بانه كان يؤمن علينا عند ربنا سبحانه « . ووجدت سريرى بالمستشفى فى حجرة تحتل فيها السرير الثانى فتاة فى مثل عمرى هى إيمان ، والتى أجرت نفس جراحة الزائدة الدودية قبل يومين . قال د. إبراهيم « ستجرى الجراحة بعد ساعة واحدة ولا مانع من وجود شاب وفتاة فى نفس العمر بغرفة واحدة فهى المتاحة حاليا «وضحك متابعا «لن يكون الشيطان ثالثكما ، بحكم آلام الجرح بالبطن». وقادنى من بعد ذلك مباشرة إلى غرفة العمليات لتنغرس إبرة التخدير فى منتصف عمودى الفقرى ، لأقول من فرط الألم «آآآه» مكتومة؛ فيقول الطبيب «أصرخ كما شئت فالصراخ ليس حراما على الرجال من تلك الإبرة» خرجت بعد ساعة من غرفة العمليات نصف منتبه ، فالتخدير كان لنصفى الأسفل، وسمعت صوت صفارات الإنذار بحكم كوننا فى أكتوبر 1956، شهر العدوان الثلاثى من فرنسا وإنجلترا وإسرائيل على مصر، وأظلمت المستشفى بدعوى إطفاء الأنوار إلا من شموع بسيطة وبطاريات صغيرة، وسمعت د. إبراهيم يقول لأمى « يمكنك الآن أن تعودى لمنزلك ، فالولد بصحة طيبة ، وسينام حتى الصباح «. تمنيت أن أطلب منه أن يرافق أمى لبيتنا ؛ فخجلت ، خصوصا وأن منزلنا لا تفصله سوى عدة مئات من الأمتار عن المستشفى ، وسمعت أمى تسألنى إن كنت أريد شيئا ؟ « فردت عليها « إيمان» جارتى فى الغرفة الراقدة على السرير الثانى «سيطلب منك أن تدعو له ولى حتى يتم شفاؤنا». ومن النافذة الداكنة باللون الأزرق بدأت أوراق أشجار شارع منشا السكندرى تهتز بفعل صفارة الأمان الموجودة على سطح المستشفى ، وهنا قالت « إيمان» «سيقل الألم تباعا، أنا أعرف ذلك لأنى سبقتك بنفس الجراحة من يومين».
وعلى الرغم من كمية الشوك الساخن الذى يغمر الجسد من آلام الجرح؛ إلا أن شهية التعرف على إيمان أخذت تلح على رأسي. قالت لى إنها تعرفنى بحكم صداقتها مع ناهد، فطار خيالى إلى سطح المستوصف الذى بناه أبى فى شارع محسن باشا بحى غربال حين كان العمر إحدى عشر عاما، وكانت الذاكرة تحمل ليلة أخرى فى مستشفى سكندري. بعد أن وقع حادث عارض أدخلنى فى تجربة إغلاق العيون لشهور. وعشت لأيام فى وهم أن السماء عاقبتنى لأنى سخرت من زوجة ناظر المدرسة الإبتدائية حين زارتنا باكية لأن زوجها تزوج عليها . وكنت أؤمن أن هذا حق له ، لأنها دميمة بكل ما تحمله الكلمة من معني، و الزوج قد تزوج عليها سرا من مدرسة لغة فرنسية كنا نعرفها نحن طلبة مدرسة محرم بك، لأن مدرستها تقع بالقرب من مدرستنا وكان جمالها يفوق رونق هند رستم . طبعا ما أن جاء الناظر بعد ثلاث ساعات إلى بيتنا بحكم إستدعاء والدى له وكنت أعلم كما يعلم أهل بيتنا أن الرجل يشكو من «طنط أنصاف» التى تعايره طوال الوقت بقلة قيمة عائلته بينما هى قريبة إسماعيل صدقى باشا رئيس وزراء مصر عام 1946، والذى لم أكن أعرف عنه سوى الهتاف الذى أسمعه فى المظاهرات «يسقط بيفن يسقط صدقي». وأن ناظر المدرسة تزوجها طمعا فى أن يترقى إلى رتبة ناظر ثانوى ، لكن إسماعيل صدقى لم يمكث رئيسا للوزارة إلا فترة بسيطة، وكان وزير التعليم المعاصر هو د. طه حسين، ولا يمكن لطه حسين أن يهب ترقية لكائن لمجرد أنه قريب لفلان أو علان. وفى كل الأحوال كنت أكره إسماعيل صدقى بشكل شخصى لأنه أذاق بيتنا إحساسا بالخطر الداهم؛ حين أصدر قانونا بمنع المعاش لمن لا يعمل بالحكومة خمسة وعشرين عاما متصلة، وقد انزعج أبى متسائلا «كيف يمكن أن يعيش أبنائى إن انتهى عمرى قبل مرور الخمسة وعشرين عاما؟» وكان هذا مصدر حوار دائم منه مع كل من يعرف . ولا أدرى لماذا كان أبى يستحضر الموت فى أحاديثه . ولذلك كنت أكره إسماعيل صدقى وقريبته ، التى قلت لها بصوت عال «حضرة الناظر عنده حق يتجوز واحدة ثانية .. أنا شفتها وهى ست حلوة» هنا صرخت أمى مطالبة لى بأن أكون مؤدبا. وبكت السيدة بصوت مسموع، وأمرتنى أن أستدعى أبى من مكتبه الذى إحتلته هيئة الصحة العالمية بعد ذلك . ولا أدرى لماذا دخلت مخزن الأدوية بالمبنى عن طريق الخطأ لأفاجأ بإنفجار زجاجة عملاقة يقال عنها «جمدانة» وفيها نشادر مركز أصابنى بإختناق، وأصاب عيونى بآلام غريبة ، فقلت لنفسى لحظتها « يظهر طنط أنصاف مظلومة ورفعت يديها للسماء لتدعو علي، فأصابنى ما أصابنى . وحين أعلنت ذلك لأبى « قال ضاحكا « هل تظن أن الله سيسمع كلام زوجة تدعو على إبن رجل أصلح بينها وبين زوجها».
ولم أكن أعلم أنى بعد أحد عشر عاما سأكون محررا بمجلة روزاليوسف ، وستربطنى صداقة ومودة مع السيد شعراوى جمعة منذ بدايات عمله كمحافظ للسويس ، وسوف يعطينى موعدا للقاء قاهرى بمقر مجلس قيادة ثورة 23 يوليو المطل على النيل ، وأنى بعد دخولى المبنى بثوان صاح أحد الحراس «سيادة الرئيس» ، وألزقنى جندى آخر إلى حائط يفصل بين حجرتين ليدخل عبد الناصر ولتدور عيونه فى المكان كأنها ترفعه لترى من فيه، وكأنه اكتشف أنى الغريب الوحيد بالمكان فتتجه خطواته نحوي، ويمد يده، فتمد يدي، ويبدو الأمر كله آلى من جهتى ، وأقدم له نفسى « منير عامر « فيقول « أنت ابن الأستاذ منير عامر . أعرف أن أسرتك جارة لأسرة والدي» . كان الحاج عبد الناصر حسين خليل سلطان والد جمال عبد الناصر يسكن فى منزل من ثلاثة أدوار بشارع كنانة المتقاطع مع شارع عرفان، وفى الدور الأول يسكن شوقى عبد الناصر مدرس الإنجليزية بمدرستى ، والدور الثانى يسكنه الليثى عبد الناصر مدرس الجغرافيا بنفس المدرسة والدور الثالث يسكنه الحاج عبد الناصر نفسه وبقية أفراد الأسرة.
سألنى الرئيس عن أحوال أخوتى ووالدتي، وقال «هل يكفى معاش الوالد؟» ابتسمت قائلا «صدقى باشا أصدر قانونا بمنع المعاش عمن لم يعمل بالحكومة خمسة وعشرين عاما متصلة، ووالدى عمل أربعة وعشرين عاما ، لذلك أخذنا مكافأة نهاية الخدمة بعد موت الأب، ولكن الأسرة تعيش على إيجار بضعة فدادين . والحال مستور»، فيقول عبد الناصر لسكرتيره محمود الجيار « خذ عنوان والدة الأستاذ منير « فأعطيه العنوان ، ويتجه هو إلى مكتب لا أعرفه . وحين التقيت شعراوى جمعة فى مكتب بنفس المبنى لاحظت تغيرا فى نبرة الصوت . لأقول له «تذكرنى نبرة صوتك بنبرة أصواتنا حين كان يدخل والدى إلى المنزل ظهرا أو ليلا « يضحك شعراوى جمعة ويقول «فعلا زرع فينا عبد الناصر هيبته كأب». وتمر أيام عشرة لافاجأ بصوت أمى عبر التليفون تسألنى «هل أرسلت يا إبنى شيكا بإسمى وبمبلغ أربعمائة جنيه» فأضحك معها قائلا « لو كان معى أربعمائة جنيه لسافرت باريس لأرى من أحبها . اقرأى لى على أى بنك صدر الشيك» فعرفت أنه شيك على البنك المركزى . ومعه خطاب يحمل نبأ إلغاء قانون صدقى باشا بتحديد سنوات العمل . وأتقصى الأمر لأكتشف أن جمال عبد الناصر أكرم جيرة عائلة أبيه لنا بأن أرسل وبسرعة بقية حساب أبى من حقه فى المعاش ، وأثق أنه فعل ذلك بالنسبة لبقية العائلات ، لأن جارتنا أخذت تزغرد بعد أن وصلها خطاب مماثل لما وصل لأمى ، فقد كانت أرملة موظف حالته تشابهت مع حالة أبي.
ولن أنسى أنى ترحمت يومها على طنط أنصاف التى ظننت أنى ظلمتها حين قلت عن زوجها ناظر المدرسة أن من حقه الزواج من أخري، وغرقت فى الذنب عندما كنت فى الحادية عشرة حتى أرجعت إصابة عيونى بإلتهاب حاد كاد يفقدنى البصر ، ليصحبنى أبى من بعد ذلك إلى مستشفى العيون الموجود بقصر شديد الفخامة بحى وابور المياه بالإسكندرية . لكن الليل الذى قضيته فى ذلك المستشفى كان غريبا ؛ فقد أخذت أصرخ من فرط إمتلاء السرير الذى أرقد عليه بالبق ، وأصررت على أن ينادوا لى أبى وأمى ، فحضر الأب والأم لأنزل معهما من مستشفى العيون الفخم من الخارج والذى تزدحم سرايره بالحشرات التى تمص دم من ينام عليها .
ولأنى لم أكن قادرا على فتح عيونى ، جاءت قريبة لأمى أنجبت سبع بنات ، وقالت «إن ناهد ستظل عندكم لترعى ابنكم إلى أن تشفى عيونه» والحقيقة أنها قامت بتوزيع أكثر من ابنة على أكثر من بيت لاقربائها ، لعل أحد أبناء الأقارب يفكر فى الزواج من إحدى البنات .
وكانت ناهد هى الصديقة الأليفة لإيمان التى كانت ترقد فى نفس الحجرة معى على السرير المقابل لسريرى ، وبطبيعة الحال كان الشيطان عاجزا عن أن يكون ثالثنا ، بسبب آلام جراحة الزائدة الدودية ، هذه الآلام كانت كفيلة بتكبيل أى شياطين ، إلا شياطين وخز رحلة إلتئام موقع جراحة الزائدة الدودية .
ولكن ما ان أطل الصباح حتى بدأت إيمان تحكى عن رحلة الشيطان عندما كان ثالثا موجودا بينى وبين ناهد حين كان العمر أحد عشر عاما ، مكتمل النضج الجسدى رغم عيونى المغلقة بالالتهاب الحاد .
.........................
ولم أكن أعلم أنى بعد أحد عشر عاما عندما أصبحت محررا بروز اليوسف أنى سألتقى بايمان وهى تعمل مضيفة بكافتريا هيلتون ، فتنادينى بإسمى المشهور به فى أسرتى وبين أقاربي، وهو «باشا» ، وهذا الاسم الذى رفضه إحسان عبد القدوس كتوقيع لى على ما أكتب . وجعلنى أوقع ما أكتب بإسم والدى «منير عامر» .
كانت إيمان قد نادتنى ب «باشا» وأنا فى ضيافة كامل بك الشناوى الذى ضحك كثيرا على ذلك ، وأوضحت لكامل بك أن اسمى الفعلى هو «محمد» ولما كان بالعمارة التى نسكنها عشرة أطفال بنفس الأسم لذلك أطلقوا على لقب « باشا «.
قال كامل بك الشناوى : ولكن عيون إيمان قامت بتوقيع رسالة خاصة لك ، فهل قرأتها فى نبرة صوتها أم لا ؟
أتذكر قولى لكامل بك الشناوى « قلبى لا يتلقى إلا رسالة واحدة من امرأة واحدة توجز لى كل نساء الأرض وهى التى تدرس فى باريس «.
قال كامل بك « هنيئا لك بها وهنيئا لها بك . بشرط ألا تشكو الملل بعد الزواج .
أبتسم الآن لصورة كامل بك الشناوى فى خيالى قائلا « لم نشكو الملل يا كامل بك لأننا لم نتزوج»، بل صارت وطنا خياليا أسافر إليه بالتذكار ليس إلا .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.