وزير العمل يفتتح ورشة تثقيفية حول قانون العمل الجديد بمقر وزارة البترول    تكليف عاجل من الرئيس السيسي ل رئيس مجلس الوزراء.. تفاصيل    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 20 أكتوبر 2025 في بورسعيد    رئيس جامعة قنا يستقبل وفد الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد    الذهب يتعافى بعد تراجعه من أعلى مستوى قياسي    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الاثنين 20 أكتوبر 2025    تهديد لأصحاب المعاشات| مسئول يعلق علي رفع أسعار الوقود ويطالب برفع الحد الأدنى للأجور ل 9 ألاف جنيه    إنشاء 4 مشروعات جديدة بالمنطقة الصناعية في السخنة باستثمارات 65 مليون دولار    أسعار اللحوم البلدي والكندوز اليوم الاثنين 20-10-2025 في الأسواق ومحال الجزارة بقنا    أسعار الحديد والصلب بأسواق البناء المصرية – الإثنين 20 أكتوبر 2025    محاولة اغتيال ترامب| أمريكا تحقق في واقعة استهداف طائرته الرئاسية    عاجل-قافلة المساعدات ال54 من "زاد العزة" تدخل قطاع غزة محمّلة بالإغاثة للفلسطينيين    فوز رودريجو باز في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة ببوليفيا    مواعيد مباريات اليوم الاثنين 20 أكتوبر والقنوات الناقلة    نشرة أخبار طقس اليوم الإثنين 20 أكتوبر| أجواء حارة لكن احذروا "لسعة البرد"    التحفظ على والد طفل الإسماعيلية بعد اعترافه بالعلم بجريمة قتل زميل ابنه وتقطيع الجثة    وزارة الداخلية تقرر إبعاد شخص يمنى خارج مصر    مقتل طالب إعدادى على يد زميله ب"مفك" فى شربين بالدقهلية    إصابة شخصين في تصادم بين 3 سيارات بطريق مصر–الفيوم الصحراوي    ضبط شخص انتحل صفة موظف بنك.. «الداخلية»: نفذ 8 وقائع نصب بزعم تحديث البيانات البنكية عبر الهاتف    نظر محاكمة 7 متهمين بخلية مدينة نصر اليوم    سرقة مجوهرات نابليون من متحف اللوفر تشعل السوشيال ميديا| إيه الحكاية!    ليلة في حب الطرب.. هاني شاكر يطرب جمهور الأوبرا في رابع سهرات «الموسيقى العربية»    هشام جمال: ليلى انهارت من العياط لما اكتشفت إن أغنية «فستانك الأبيض» ليها    بعد 30 عامًا من النجاح.. عمر رياض يعلن التحضير لجزء جديد من "لن أعيش في جلباب أبي"    حسام حسني يروي تفاصيل بدايته الفنية مع محمد محيي وعمرو دياب    وزير الصحة يبحث خطة تطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل في المنيا    نحافة مقلقة أم رشاقة زائدة؟.. الجدل يشتعل حول إطلالات هدى المفتي وتارا عماد في مهرجان الجونة    أطعمة صحية مع بدايات الشتاء.. تناولها لتقوية المناعة وتجنّب نزلات البرد    سماع دوى انفجار داخل قطاع غزة    قطع الكهرباء عن عدد من قرى المحمودية بالبحيرة لمدة 7 ساعات    التاريخ ويتوج بكأس العالم للشباب    مراقب مزلقان ينقذ سيدة حاولت العبور وقت مرور القطار بالمنيا    حوار مع يسرا وشريف عرفة الأبرز، برنامج مهرجان الجونة السينمائي اليوم الإثنين    ترامب يعلن فرض رسوم جمركية إضافية على كولومبيا اليوم    الحكم في طعون المرشحين لانتخابات مجلس النواب 2025 بالدقهلية غدا    ضوابط إعادة القيد بنقابة المحامين بعد الشطب وفقًا لقانون المهنة    عثمان معما أفضل لاعب في كأس العالم للشباب.. والزابيري وصيفا    الأهلي يحصل على توقيع صفقة جديدة.. إعلامي يكشف    ويتكوف: التقديرات بشأن كلفة إعادة إعمار غزة تبلغ نحو 50 مليار دولار    هبوط الأخضر الأمريكي.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري الإثنين 20-10-2025    صححوا مفاهيم أبنائكم عن أن حب الوطن فرض    ولي العهد السعودي وماكرون يناقشان جهود إحلال الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط    ملخص وأهداف مباراة المغرب والأرجنتين في نهائي كأس العالم للشباب    هل ينتقل رمضان صبحي إلى الزمالك؟.. رد حاسم من بيراميدز    ميلان يقفز لقمة الدوري الإيطالي من بوابة فيورنتينا    يسرا تشعل أجواء احتفال مهرجان الجونة بمسيرتها الفنية.. وتغنى جت الحرارة    موعد التحقيق مع عمر عصر ونجل رئيس اتحاد تنس الطاولة.. تعرف على التفاصيل    6 أبراج «نجمهم ساطع».. غامضون يملكون سحرا خاصا وطاقتهم مفعمة بالحيوية    ثقافة إطسا تنظم ندوة بعنوان "الدروس المستفادة من حرب أكتوبر".. صور    د. أمل قنديل تكتب: السلوكيات والوعي الثقافي    مضاعفاته قد تؤدي للوفاة.. أعراض وأسباب مرض «كاواساكي» بعد معاناة ابن حمزة نمرة    محافظ الغربية يجوب طنطا سيرًا على الأقدام لمتابعة أعمال النظافة ورفع الإشغالات    سهام فودة تكتب: اللعب بالنار    ميلاد هلال شهر رجب 2025.. موعد غرة رجب 1447 هجريًا فلكيًا يوم الأحد 21 ديسمبر    لدغات عمر الأيوبى.. بيراميدز "يغرد" والقطبين كمان    «المؤسسة العلاجية» تنظم برنامجًا تدريبيًا حول التسويق الإلكتروني لخدمات المستشفيات    هل زكاة الزروع على المستأجر أم المؤجر؟ عضو «الأزهر العالمي للفتوى» توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كل النساء جميلات أحيانا إلا حبيبتى فهى الحلوة دائما

حين تراقص الموج بالمركب سوريا ، كانت الذاكرة تتراقص أيضا حاملة صور الليل الصاخب الذي عشت لحظاته في أثينا .
من غرفة فوق سطح المركب أخذت أرقب ما يربت على مشاعري المتلاطمة هي أيضا . فالهدف الذي أذهب إليه هو الحلم بإعادة ميلاد نفسي في أحضان حبيبتي ، وأعرف عن نفسي أني أقدم العذر لكل من أراه في العالم إلا من يقف ضد الحب ، فأنا مثلا أشارك كل من يحاول الوقوف ضد الجوع في العالم ، وأقدس ألم من يبذلون جهدا من أجل من يهدي كل حبيبين مأوى ؛وإن كنت أثق أن ألم الجوع للطعام أو المأوى يدفع إلى قتل الحياة ، ذلك أني أعي تماما أن ألم الشوق في الحب لا يقل ضراوة عن ألم الجوع للطعام أو الجوع للستر العاطفي ،فضلا عن أني أثق في الحقيقة العلمية التي ترى أن العطش هو نقطة المتصف إلى الموت ، وأستوعب أي شكوى عن ألم كائن مقهور وكل ذلك لا يمنعني من خصام وإتهام بالجلافة لمن لا يصدقني عندما أقول أن الهواء يخاصم أنفي فلا أتنفس إلا في وجودها . ولا أحترم من لا يصدق أنها سر حياتي المفقود مني ، وأريد أن أسترده . وعندما أصرخ في العالم «أنا أحبها»، قد لا ينتبه لي أحد ، وقد ينظر لي الذين حولي كأني مجنون ، فهم لايرون أنياب الشوق المتوحش الذي يحاصر قلبي ، فيخنقني .

ويفاجئني الليل الذي يغمر المركب سوريا بظهور شخص لم أتوقع أبدا رؤيته هنا في نفس المكان ، إنه إسماعيل نجيب زميل الدراسة والذي أعلم أنه ضابط بحري ، وكل منا مولود في نفس الحي وتزاملنا في المدرسة الإبتدائية ثم الثانوية . قال لي إنه علم بخبر سفري إلى باريس من والدته صديقة والدتي ، وابتسم ليضيف « لم أكن أن أصدق أن الحب المجنون يطوح بك حيث تحلم ».

أقول : دعني بأني لم أقل لك من قبل على الحقيقة الأساسية التي تملا وجودي ، ولا مفر من الإعتراف لك الآن بأني جئت إلى هذا العالم حتى ألقاها ، ولا أعرف كيف يمكن أن أعيش الحياة بدونها . وبالتالي لك أن تصدقني حين أقول لك إن الأزهار تأخذ رونقها الربيعي في عيوني لأني أحبها ، وكل ما هو رقيق في هذا العالم إنما يكتسب رقته من إدراكي أنها قريبة مني للغاية ، وتتحول دوائر الهواء حولي إلى سجون غير مرئية عندما تبتعد عني . إن هناك لحناً يعزف نفسه في أعماقي ، يذكرني بأني موجود في هذا العالم حتى ألقاها .

يقهقه إسماعيل : كنت أقرأ قبل أن ألقاك عن قصة الملكة «تي» تلك التي قادت إخناتون إلى التوحيد ، وأن آثار عشق الاثنين جعلته يهتف أن هناك إلهاً واحداً خلق هذا الكون .

قلت : المكتوب على جدران المعابد لا يوحي لي إلا بأن الشمس تتبعثر كل نهار على وجه الأرض ، لا لشيء إلا في انتظار أن تصحو حبيبتي من نومها فتأتي لي ، وأن كل أحداث التاريخ لا تساوي عندي لحظة التغير في كيمياء أحاسيسي عندما تنادي اسمي . وأن آلاف الفلاحين الذين حفروا قناة السويس ، كانوا يريدون أن يقربوا المسافة بين بلدان الأرض حتى يسهل لقائي بها ، وأن كولومبس اكتشف أمريكا حتى يمكن أن نجد موضوعاً نتحدث فيه فنؤجل قليلا انصهارنا في عناق لا ينتهي . وأن نابليون أراد أن يكون إمبراطوراً لا لشيء إلا ليأتي من يحتقر كل مجده ، وهو أنا ، لأنه لم يقدس لحظة النشوة المقدسة في أحضان جوزفين التي أحبها ، وأن بيتهوفن لم يكتب موسيقاه إلا لأرى خلال النغمات ظلالاً من حركات اقتراب كل منا من الآخر ، وأن دانتي عندما كتب عن الجنة والنار إنما كان يقرأ كف قلبي ، فالجنة هي أن تتجسد حبيبتي أمامي ، والنار هي أن تبتعد حبيبتي عني ، والجسر الفاصل بين الاقتراب والابتعاد هو العذاب الذي يطهر النفس من ذنوب لم أرتكبها ، فأي حماقة تجعل من الحب مجرد تذكار ، لا أن تمنحه فرصة حياة .

يقول إسماعيل : أعرف أنك كنت تدرس الكيمياء الحيوية في المدرسة الثانوية ، وأنك لم توفق في الدخول إلى كلية الهندسة قسم الكيمياء الصناعية ، ولذلك دخلت الآداب ، ومن المؤكد أنك قرأت عن موسيقى الهرمونات في داخلك التي تتذبذب ارتفاعاً وهبوطاً ، فتتشقق خلايا جسدك بالشوق ، وكأنها الأرض المصابة بالعطش ، ولو تعودت على أن تخوض تجارب طارئة ومتعددة ، هنا لن ترتبط بواحدة ،و تجعلها سببا لحياتك . إن مثل هذا السلوك مرهق لك شخصيا .

أقول: أعرف أني كائن سريع الاشتعال ذاهب إلى رماد عمري بإرادتي . أحترق خلال تجسيد ما بيننا من أشواق ، أحترق خلال حساب اللحظات التي تلتقي عيونها بعيوني . أحترق وأنا ألمس خدها بكفي . أحترق لأني أريد أن أولد من جديد في أحضانها . وكثيرا ما وقفت أنا وهي على النيل ، وأقول لها يعلم هذا النهر أني أنا وأنت من الغرقى في بحر من عيون الذين حولنا ، فلماذا لا نبني بيتنا الآن ؟ وكانت تقول أنها تؤجل كل شيء من أجل الدراسة العالية ، وكنت أتعجب من أنها تبدد العمر في تلك الحكايات الغريبة ، فلم أكن لأمنعها من الدراسة ، إن بدأت هي في تصميم حياتي وإدارتها ، لأني لا أعرف كيف أدير يومي ، مجرد ريشة في مهب الريح .

يقول إسماعيل : ما رأيك في أن نشاهد فيلما قديما ؟

واتجهنا إلى غرفة الطعام ؛ حيث أمر هو المسئولين عن المطعم أن يقوموا بتشغيل شاشة السينما الصغيرة الموجودة بها . وبدأ فيلم لليلى مراد وأنور وجدي . ولاحظت أن الممثلة لولا صدقي تفخر بتسريحة كانت منتشرة في الزمن القديم ، وهي تسريحة «البوجودي «، وكانت تلك الموضة تفرض أن تلف فيها النساء خصلات من الشعر كقطع الخشب المدورة ، وترفع كل خصلة فوق الأخرى ؛ وتمشي منتصبة القامة خوفا من الاهتزاز . ذكرت إسماعيل بأكبر سيدة في حينا كانت تفعل ذلك هي «طنط أنصاف» ذات العيون المصابة بالحول ؛ والتي تضحك بصورة توقظ النيام من فرط تنغيمها للضحكة ؛ وكل ذلك لم يجعل زوجها محمد أفندي أسيرا لها ؛ فقد كان ناظر مدرسة ابتدائية ، وتزوج على طنط أنصاف من مدرسة حساب ذات شعر ناعم ، وبلا «بوجودي » ولها عيون خضراء رغم أنه من بنات بحري ووالدها تاجر سمك . وبدأت أحكي لإسماعيل حكاية طنط إنصاف حين فتحت لها باب بيتنا ،وكانت تصرخ وتبكي طالبة مساعدة أبي في أن يؤثر على زوجها لعله يتراجع عن الزواج بأخرى. ولكني قلت لطنط إنصاف « كان لازم يتجوز عليكي ، ما أنت شعرك عامل زي البيت المهدم » وجذبتني أمي من قميصي ، لتقول لي : اخرس يا قليل الأدب .

ولم أكن لأصمت على ما قالته أمي ، لذلك أسرعت بالرد : حضرتك خايفة إن بابا يتجوز عليكي ، علشان كده بتقولي لي « أنت قليل الأدب » . وسمعت أبي من حجرته يقول لي : عيب يا ولد .

كان اللقاء مع إسماعيل هو فرصة لتنفتح البوابة الملكية لتذكارات فترة لم تكن بعيدة جدا في أيامها ، ولكنها كانت بالنسبة لي غريبة للغاية .

كانت التذكارات قد انفتحت وكأنها أمواج البحر الذي تعبره المركب سوريا ،وتراءت التجارب متتالية تظهر واحدة منها لتختفي ، وأخذتني تلك التذكارات إلى المسافة ما بين ما يقوله الكبار للصغار وبين ما يفعلونه ؛ حيث توجد هوة تجعل الطفل غارقا في الضحك على هؤلاء الكبار . وكان المثل الواضح في ذاكرتي هو أبي وأمي ، فهذا الرجل القوي الجالس في غرفة مكتبه يقرأ في كتب الدين ، كثيرا ما كان يؤكد لي أن كل شيء يفعله الإنسان مكتوب منذ الأزل ، وإلى الأزل ، هذا الرجل هو الذي رأيته يرتجف ويغرق في العرق ؛ لحظة رؤيته لحبيبته الأولى المدرسة منيرة التي كانت زميلته حين عمل مدرسا للعلوم بمدرسة السنية الثانوية ، ثم ترك العمل بالتدريس لينتقل إلى وزارة الصحة هربا من لقاء الحبيبة التي يمنع القانون عنها الزواج ، فوزارة التربية والعليم أيامها كانت تفرض عدم زواج المدرسات ، ولم تكن المدرسة منيرة لتقبل الإستقالة والبقاء زوجة ، وعاش الأب عذابه دون أن يعلنه، ورأيته ؛ وهو يجري بمصل الكوليرا من بيت إلى بيت متطوعا لتحصين الناس ضد الكوليرا من أبناء الحي الذي نسكنه ، وكذلك سكان أحياء الإسكندرية الفقيرة في غيط العنب ، وكرموز وباب سدرة ضد الكوليرا ؛ وهو الرجل الذي دخل كل بيت في القرية إنشاص ليفعل نفس الشيء ، وهو الذي كان مكتوبا على دولابه في حجرته في القرية كلمة « الواجب «. ولكن كل تلك الواجبات لم تصنع لقلبه حصنا يحتمي فيه من رجفة عشق المدرسة منيرة . وإن كانت كل تلك الواجبات قد صنعت له مكانة الهادي لأهل الحي. وهاهي التذكارات تطفو بصورة طنط إنصاف حين دقت باب بيتنا لتشكو زوجها ؛ هذا الرجل الطيب الذي تعرف عليه أبي في مدينة أدكو أثناء هجرتنا إليها أيام الحرب العالمية الثانية . وكان يعمل بها ناظرا للمدرسة الابتدائية ، وهو أول من أمسك بقدمي ليضربني بالفلقة ، لأني صعدت على سور المدرسة في أدكو وعمري أربع سنوات ؛ وحاولت أن أقلد الطائرة ؛ وأن ألقي بنفسي فاردا يدي كجناحي الطائرة ، ولم أغضب من الرجل الذي ظل يردد _كلما رآني _أني صرخت وبكيت من حادث الضرب بالفلقة ؛ وما أن نزلت أقدامي على الأرض حتى بحثت عن طوبة ؛ ألقيتها على رأسه وأنا أصرخ : تضرب عيل يا ابن ال.... وظل يذكر تلك الطوبة ؛ و لا يذكر مسألة ضربي بالفلقة . و هاهي زوجته تقف على باب بيتنا بدموعها و ب «البوجوديه» المكور فوق رأسها ، و كنت لا أحب ضحكتها المسحوبة الرنانة ذات التقسيم المتدحرج .

‎ولم أكن في حاجة إلى أن أسمع « الموال التقليدي» الذي حكته طنط أنصاف أكثر من مرة ؛ الموال الذي يبدأ من أن محمد أفندي تزوجها ؛ لأنها قريبة إسماعيل صدقي باشا رئيس وزراء مصر ؛ هذا الذي قيل عن قسوته وعدم إيمانه بقدرة المصريين على فعل أي شيء ، وهو من كرهه عموم المصريين ؛وهو من أصدر قدرا كبيرا من القوانين التي تقوم بعصر ومص دم الناس ، و الذي نال من سخط الشارع المصري فوق ما يتخيل أي أحد . وكان محمد أفندي هو الرجل الذي قبل الزواج من أنصاف قريبة إسماعيل صدقي ، وهو يعلم أنها عاقر ، ويعلم أنها حولاء ، ولكن قريبها الباشا سيضمن له الترقية السهلة في الوزارة الصعبة ؛ وزارة المعارف «التربية والتعليم حاليا» ويبدو أن ضغط الرؤية اليومية لتلك الزوجة وهو المجبر عليها قد أصابه بالزهق ؛ كما أن الترقيات لم تحدث كما كان يتوقع . وانفجر الرجل في قصة زواج سريع من مدرسة الحساب برلنتي بنت المعلم الشوكي تاجر السمك وهي من بنات بحري وكانت تبدو كأنها خرجت من لوحة محمود سعيد فناننا الكبير ،وتحترف إرتداء الفساتين ، ولكنها عندما تسير على كورنيش الأنفوشي ، فقد كانت تفضل الملاءة اللف . وعندما رأتها أمي قالت بصوت عال :المرأة الإسكندرانية يمكن أن تخطف الرجل من زوجته ؛ وبعد أن تنجب منه تسحبه من كرافتته ؛ إلى المحكمة وتدور به على أقسام البوليس . وحين بكت طنط أنصاف لم أشعر تجاهها بأي شفقة ، ذلك أني كنت أكره «البوجوديه» كراهيتي للطربوش الذي يجبرونني على وضعه فوق رأسي ؛ وكنت واحدا ممن اخترعوا ثني الطربوش إلي أربع ثنيات وكأنه رغيف أطبقه على أربعة اتجاهات ؛ ثم أضعه في جيب البنطلون ؛ ثم أقوم بفرده مرة أخرى ووضعه على الرأس ، وحين كنت أفعل ذلك كان لابد أن يتكسر الخوص الموجود كبطانة للطربوش ، ولم أكن أهتم بتكسير البطانة ؛ ولكن كان المهم ألا أشعر بالضيق من قيد الطربوش على الدماغ . وسمعت أبي يتمتم بالحديث النبوي الشريف بمعناه « من تزوجها لمالها أفقره الله . ومن تزوجها لجاهها أفقره الله ، ومن تزوجها لجمالها جعلها الله دميمة في عيونه « فقلت لأبي : لا أصدق أن السماء تغيظ الناس بهذه الطريقة ؛ فإذا كان الرجل سيتزوج فهو سيتزوج لهذه الثلاثة أسباب ؛ فقال لي أبي بهدوء « بل يتزوج لأنه يحب « ولم أسأل أبي هل تزوج أمي من أجل الحب أو تزوجها خضوعا لرغبة والده في أن يناسب عائلة الأتراك ؛ فابنه - أبي - هو واحد من المتعلمين الثلاثة في القرية المجاورة لقرية يملكها بالتمام والكمال جدي لأمي. ولكن التوتر المشوب بالحذر في عيون أمي جعلني أصدق أن أبي يمكن أن يفر منها ؛ ولست أنسى يوم أن عرفت أمي خبر مقابلة أبي للمدرسة «منيرة » بالصدفة وحدها ، ففي هذا اليوم أصيبت أمي بالإغماء ؛ وصرخت الخادمة عزيزة ، وطلب أبي أن أنزل إلى الصيدلية لأحضر نقط «الكورامين » المنشطة للقلب ؛فلم أجد تلك النقط في الصيدلية القريبة من المنزل ؛ فجريت كالسهم إلى شارع محرم بك ، وقطعت مسافة تقترب من أربعة كيلومترات في دقائق ؛ وأحضرت تلك النقط المطلوبة لإفاقة أمي . وكنت أخشى أن أعود لأجدها في عداد الموتى ، وكنت أخشى أن توجد لي زوجة أب ، لأن عم علي بائع بسكويت « الفريسكا » والذي يمر حاملا طبلة ويغني في الشارع ، كان يردد أغنية تقول « مرات الأب خدها يا رب .. عمرها أبدا ما حاتتحب» . وأفاقت أمي من نوبة الإغماء بعد أن أقسم لها أبي على المصحف أنه لن يتزوج عليها ؛ لأنه سعيد معها . وكان ذلك قبل يومين من زيارة طنط أنصاف الباكية .

وكان بقاء طنط أنصاف معنا في ذلك اليوم ؛ هو فرصة لمعرفة كيف يتصرف الكبار بجنون ؛ بينما كانوا يغرقوننا نحن الصغار في الأوامر ؛ وفي التعليمات ؛ وفي أن الإنسان المهذب هو من يفعل كذا ؛ ولا يفعل كذا .

صدقي باشا ، والثانية هي برلنتي ابنة تاجر السمك.

وكنت أملك غيظا مكتوما من أبي ، لأنه هددني ألا يشتري لي طربوشا بدل الطربوش الذي طبقته على أربعة طيات حتى يسهل وضعه في جيبي . وكان ناظر المدرسة الرجل السمين والطيب محمد بك الزمك أستاذ الجغرافيا هو من قال لي همسا « قول لبابا يشتري لك طربوش جديد» . وكان الأستاذ الزمك بالنسبة لي رجل مقدس ، وكان يحب أن يدرس لنا الجغرافيا بنفسه ، ولست أنسى كيف كان يطلب منا أن نتخيل أنفسنا ونحن نركب سحابة في السماء لنطوف بها فوق البلاد ويشرح لنا تفاصيل القارات ، وعادات الناس ، وأحوال الاقتصاد ، وهو أول من قال لنا إن علماء أوروبا ظلموا أفريقيا حين ادعوا أن الحر هو السبب في كسل الأفارقة ، وهو أول من أزال من خيالنا تلك الصورة القائلة أن الجنود الأفارقة الموجودين مع الجيش الإنجليزي _الذي كان يحتل بلدنا _ لهم ذيول كما تقول الشائعات ، بل هم غلابة مثل المصريين الذين خطفهم الإنجليز عنوة من الريف المصري ليخدموا العساكر الإنجليز . كانت كلمات محمد الزمك بالنسبة لي قانونا يجب تنفيذه على الفور . وكان أبي يعلم ذلك ، كما يعلم أن كلمات حنفي أفندي مدرس اللغة العربية محترمة عندي جدا لأنه كان ضابطا متطوعا في حرب فلسطين ؛ وكان يقول لنا إن الإسرائيليين بشر مثلنا ؛ ولكن قيادتهم لم تخنهم مثلما فعلت قيادة مصر . وحين قال ذلك ؛ قفز محمد قناوي الذي صار بعد انتهاء مدة إعتقاله لعشر سنوات واحدا من زملائنا في مجلة صباح الخير ؛ قفز من على مقعده في آخر الصف ليهتف هتافه التقليدي « اليوم حرام فيه العلم » ، وهو الهتاف الذي ما أن يسمعه طلبة الفصل المجاور حتى تتحول المدرسة كلها خلال دقائق إلى صوت واحد يزعق « اليوم حرام فيه العلم» . ولكن حنفي أفندي صرخ في محمد قناوي « لا تقل ذلك ، ولكن قل لنحترم العلم كل يوم فهو الذي سيجعلنا نهزم إسرائيل وإنجلترا». وسكت محمد قناوي يومها ، ففي اليوم السابق قاد مظاهرة ، وصرخ بأعلى صوته « يسقط الملك الفاسد « وسانده سمير تراب ، من طلبة السنوات الأعلى ، وقال محمد سماحة من السنوات الأعلى : نحن لن نخرج كل يوم على حسب مزاج الاشتراكيين . وكان يقصد بذلك محمد قناوي . أما «على قمحة » الذي صار موظفا في أرشيف محافظة الإسكندرية فيما بعد فقد قال : ده سينما بلازا فيها ثلاثة أفلام روعة ؛نسوان بالمايوهات . أما «بهجت علي» الذي صار كمساريا رغم أنه ابن ذوات ولكن أباه كان لاعب قمار وسكران على طول الخط فقد قال : نسوان إيه الله يخرب بيت النسوان عايزين ننجح يا أولاد الكلب .

وقبل محمد قناوي الهزيمة أمام رأي حنفي أفندي مدرس اللغة العربية ؛ فقد كان الرجل محترما للغاية ، كما أن الطلبة لم يهتفوا وراءه حين قال « الحق أمك وأختك يا فاروق « وكان الهتاف يعاير الملك فاروق الذي ما أن نصب نفسه خليفة للمسلمين ؛ حتى جاء إليه نبأ زواج أخته الأميرة فتحية من سكرتيرها رياض غالى وترك أمه للإسلام ، واعتناقها للكاثوليكية . وطبعا لم تكن أحداث التاريخ قد أخذت مجراها ليقتل رياض غالي زوجته ، ثم يقتل نفسه ولتموت من بعد ذلك الملكة نازلي في مصحة للعجزة .

ولكن عندما جاءت سيرة والدة الملك فاروق قال زميلنا محمد سماحة : عيب نجيب سيرة الأمهات . وكانت معركة بين محمد سماحة وبين محمد قناوي ؛ واشترك على الدفراوي ابن صاحب شركة « ورق البفرة « الذي يلف الناس فيه سجائرهم « وعير قناوي كل من سماحة والدفراوي بأن الأول ابن صاحب شركة حلاوة ، وأن الثاني هو أحد أسباب انتشار الحشيش في مصر . فلم يلتفت أي منهما له ، واعتبرا عدم خروج الطلبة بناء على هتافه هو نصر لهما . أما بهجت قمر المؤلف المسرحي والذي قام بتأليف أغلب روايات شويكار و فؤاد المهندس والذي غادرنا منذ سنوات فقد وقف أمام باب المدرسة ليقول : ما خرجتوش ليه في مظاهرة ؟ أخرجوا علشان نعمل إحنا بروفة للمسرحية «السكرتير الفني» . وكان بهجت قمر طالبا في رأس التين الثانوية ، لكنه صديق لمدرس في مدرستنا ؛ ويشرف على فريق التمثيل في مدرستنا . أما إسماعيل نجيب فقد تركنا في فناء المدرسة ، وفتح غرفة الرسم ، وبدأ يستكمل لوحة لوجه فلاحة مصرية .وما أن انتهى اليوم الدراسي ؛ وعدت إلى المنزل ؛ وقبل أن تضع أمي لي الغداء ؛ دق جرس الباب لأجد طنط أنصاف تبدأ حكايتها عن عدم عدالة زوجها معها بعد أن تزوج عليها برلنتي بنت زكي الشوكي ؛ تاجر السمك في الحلقة . وكنت أعلم من هي برلنتي بنت زكي الشوكي ، فهي شقيقة أبو العباس أكبر فتوة في مدرسة محرم بك الثانوية الخاصة ؛ وكان يصفه ناظرنا محمد الزمك بأنه واحد من هؤلاء الذين دخلوا المدارس لأن طه حسين شاء ذلك ، وهو لن يفيد الطلبة في شيء سوى أن يعلمهم الخروج على النظام بدليل أن هواية أبو العباس الشوكي هي الترصد لغيره من الطلبة الذين لا يعجبونه ، وضرب أكبر من فيهم . وأعتقد أن الزلباني ممثل الأخوان المسلمين بالمدرسة هو الذي استقطب أبو العباس ليمارس إرهابه علينا ؛ لأن أحدا لا يقبل على الالتحاق بشعبة الإخوان المسلمين ، ولكن الشوكي تاجر السمك قد علم ابنته حتى صارت مدرسة ، وهي من تزوجت محمد أفندي مدرس الرياضيات يالرمل الثانوية، وناظر مدرسة إدكو الابتدائية السابق ؛ وهو المدرس الذي لم يفلح في أن يحبب شقيق زوجته الجديدة في المدارس . وأصبح على أبي أن يبحث عن تحقيق العدالة في قلب مدرس الرياضيات و بين زوجتيه ، الأولى هي طنط أنصاف قريبة إسماعيل صدقي الذي هو واحد من أكثر الساسة الذين كرههم عموم المصريين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.