بتكثيف شديد، واختصار حاد يوجز جريجوار بوييه حياته المضطربة بين دفتي هذا الكتاب الصغير. ويتطرق بجرأة يحسد عليها وبلغة تتراوح بين السرد السريع الوصفي والتأمل الاستبطاني العميق إلي تفاصيل دقيقة من سيرته العائلية والشخصية، صنعت منه ذلك الكاتب. وقد حصلت تلك السيرة الذاتية "تقرير عن نفسي" علي جائزة فلور الفرنسية عام 2002 وجريجوار بوييه هو كاتب و فنان تشكيلي فرنسي من مواليد 1960 من مؤلفاته: "المدعو اللغز" رواية 2004، و"كيب كانيفرال" رواية 2008 ترُجمت بعض أعماله إلي الإنجليزية والهولندية والإيطالية والإسبانية، و"تقرير عن نفسي" هو أول عمل يقدم له كاملا في العربية. عشتُ طفولةً سعيدة ذات ظهيرة في يوم أحد، تظهرُ أمي في غرفتنا، حيث نلعب أنا وأخي، كلٌ منّا في ركنه: "يا أطفالي هل أحبّكما؟" صوتها قوي، ومنخاراها رائعان. يرد شقيقي دون تردد. وأتردد أنا في تجاوز أعوامي السبعة. لدي وعي بما جري، لكني أتشكك فيما تلا. وانتهيت بأن همست: "ربما تحبيننا كثيرًا نوعًا ما". تنظر لي أمي بفزع. تبقي لوهلة ذاهلةً، تتوجّه نحو النافذة وتفتحها بعنف، وتحاول إلقاء نفسها من الطابق الخامس. تُنبه الضجةُ أبي، فيلحق بها علي حافة الشرفة، بعد أن تكون قد مرّرت إحدي رجليها في الفراغ. تصرخ أمي وتتشاجر. وتدوّي صرخاتها في الفناء. يجذبها أبي بحزم، ويحملها كجوال إلي داخل الشقة. في أثناء العراك، يصطدم رأس أمي بالحائط، ويُحدث رنينًا. ولفترة طويلة تبقت بقعة دم صغيرة علي الجدار شاهدةً علي ذلك المشهد. في يوم سأرسم حولها بالحبر الأسود دوائر، وأستخدمها كهدف للتصويب بأسهم اللعب الصغيرة، وعندما أرمي في رقم الألف، أتخيل أني أستعيد لوهلة ملكة الكلام دون خوف. كانت أمي في السادسة عشرة عندما قابلت أبي، فيما كان هو في الثامنة عشرة. كان ذلك في عام 1956 في حفل مُرتجل أقيم في رواق "بوا كولومب"، حيث كانت عائلة أبي قد استقرت بعد حرب 1939. كان أبي يُحيي الحفل بالعزف علي الدرامز، في إطار فرقة صغيرة للجاز، مكوّنة من زملائه طلبة الحقوق. وكانت أمي تساعد بغسل الصحون، بعدها بعام، كانا متزوّجين، وأنجبا شقيقي، الذي أسمياه أوليفييه، دون سبب معين أعرفه. بالكاد كان لأبي الوقت أن يري ولده: فقد استدعاه الجيش لتأدية الخِدمة الإلزامية. ولم تكن تلك اللحظة المناسبة للاستدعاء. فبدلًا من الثمانية عشر شهرًا العادية، أجبَرَت الحرب -التي لم تكن قد تسمَّت بعد بحرب الجزائر- أبي علي ارتداء الزيّ العسكري لثلاث سنوات. وقد استقر بمعسكر في تيزي أوزو، عاصمة إقليم القبائل، حيث لم يكن، وفقًا له، يحدثُ شيء عظيم. تكدّرت أمي لفراقها السريع لزوجها. واتّخذت قرارها سريعًا: تركت رضيعها لعائلة زوجها، وغادرت لتلحق بالرجل الذي أحبّته في الجزائر. بالنسبة لفتاة في السابعة عشرة، لم يكن هذا النوع من الجسارة معهودًا في ذلك الزمن. وهناك تحابّا. وبالأحري ثلاث مرات بدلًا من واحدة، حيث سقط تحت سحر أمي طبيب من مستشفي تيزي أوزو، وسريعا ما انضم للهوّهما، وكان حملها بي ثمرة أحد لقاءاتهم الثلاثية. "أنت ابن الحب"، كانت أمي تردد عليَّ طوال طفولتي، دون أن أعرف ماذا يعني هذا، أو إن كان بالأحري مُقلقًا. وعلي الملأ كانت تحب أن تذكّر ببشرتي الداكنة وحقيقة أن ملامحي لا تنتمي لآل بوييه. وعندما كشفت لي بعدها بفترة، وبناءً علي سؤالي عن حقيقة مولدي، استخلصتْ مما قالت إنها قرأته في مجلة أنّه إذا قذف رجلان في مهبل امرأة، فإن حيواناتهما المنوية بدلًا من التنافس، تندمج، لتخصّب البويضة، ويولد من ذلك جنين مشترك. وحكت لي كذلك أن أبي كان ينتصب جيدًا، وأنه كان مثلي جنسيًا، وفيما بعد، ادّعت أنها قالت ذلك لتمزح معي. أمي كان لديها من تأخذ عنه: كانت بالكاد في الثانية عشرة، عندما قام شقيقها الذي يكبرها بسنتين من الطاولة زاعقًا في الأب، الذي كان يؤنبه علي هفوة: "أنت لست أبانا الحقيقي!" في الواقع فإنه كان عمهما، الذي احتل سرًا سرير زوجة أخيه، مكان شقيقه، الذي اختفي في بدايات الحرب العالمية الثانية. ولم يكن لأمي، التي ولدت في نهايات عام 1939، أبدًا الوقت لتعرف من كان سببًا في وجودها. لا بدّ أنّها قد تذكّرته بشكل غامض، عندما قررت أن تلحق في الجزائر برجل كان هو أيضًا قد ذهب إلي الحرب، أيضًا بعد ميلاد ابنه مباشرة. وبنفس الطريقة التي استبدل بها أخ أخاه في شخصية أبيها، أصبحت هي أمًّا للمرة الثانية بين أحضان رجلين. من شقيق لشقيقه، عاشت جدّتي دائمًا، مع رجل يُدعي "بيرار"، ولم تضطر لتغيير الاسم لتبدو في زيجة مضبوطة في أعين العالم. وفي المجمل، لم يخرج الأمر من العائلة، وإداريًا فقد تم تبسيط الموضوع. في هذه الأثناء كان يجب مسح كل أثر للمختفي، وهو ما يفترض نوعًا من التركيز، لأن الأمر يتعلّق بالصمت عن شقيق وزوج وأب في نفس الوقت. وفي وسط هذه المؤامرة نشأ الأطفال. وخلال سنوات، لم يشكّ أي شخص في الحقيقة، باستثناء الابن الأكبرالذي لم تمح من ذهنه بعض الذكريات المتداخلة. بالنسبة لأمي، كان اكتشاف أن حياتها قامت علي كذبة بمثابة "صدمة" لها، كما ما زالت تتذكّر. تقول هذا، وتنظر في عينيّ بقوة. أما جدّي، الرجل البشوش، فقد عشق كلبةً صغيرةً مولّدة، كانت تتبعه في كل مكان كظله. وكان قد أسماها "ساتليت"، تيمنًا بمركبات سويوز الفضائية السوفيتية، كما أكّد، إذا تكلمنا من ناحية تناسلية، فقد اختار جيّدًا، لعشرين مرة في اليوم، كان يُصرح بالحقيقة التي احتفظ بها لنفسه، دون أن يشك فيها أحد، ولا هو نفسه. فعندما كان يصرخ في ساتليت كان يناديها سالتيه (قذارة). وفي الفرنسية القديمة تعني كلمه بيرار "الأب السييء". بوييه بدورها تعني "غابة صغيرة من أشجار البتولا". أنا أعرف إذن من أي نوع من الخشب قد صنعت، وهو ما لا يتأتّي لأناس كثيرين. عند مولدي، تم الاتفاق علي تسميتي نيكولا، ولكن لأن برجيت باردو كانت قد وضعت طفلًا أسمته نيكولا، فقد غيّرت أمي اسمي إلي جريجوار. وهكذا أصبحت "من يسهر في السهرات" وهو ما تعنيه جريجوار المنحدرة من الكلمة الإغريقية إجريجوريان. لو كنت قد تسمّيت نيكولا كنت سأكون "انتصار الشعب"، وهو ما لا يستتبع نفس المصير. ولأقنع نفسي فقد أصبحت صديقًا لفترة لواحد يُدعي نيكولا، وهو لم يعرف أبدًا ما الذي يعنيه اسمه لصداقتنا. لم يكن يحمل الشعب أبدًا في قلبه، وبدرجة أقل انتصاره. وبخلاف التقليد، لم يمنحني أبواي أي اسم آخر، مُلحقًا بجريجوار. لم يرتبط بي أي من الأسلاف سواء كان صالحًا أم طالحًا. لم أضطر لتخليد ذكري أيّ من موتانا. إليّ فقط سيرجع فضل تسمية ظلّي يومًا ما. عندما خرجت من بطن أمي، يبدو أنني كنت أضحك. النسوة الحكيمات تشاجرن معًا تقريبًا ليعتنين بي: لم يرين أبدًا رضيعًا فرحًا هكذا بقدومه إلي الحياة. بعدها بثلاثة أيام. كان وزني قد صار أقل من كيلوجرام، وحالتي أصبحت مُرعبة. ولم تستطع أمي إرضاعي، لإصابتها بخرّاج في الثدي، ورفضتُ بشكل قاطع الحليب الصناعي من ماركة "جيجوز". كذلك لم ينجح معي حليب البقرة أو الأتان أيضًا. واعتقدوا أني لن أكمل يومًا في الحياة، حتي تعطفتُ ورضعتُ حليبَ عنزةٍ، عثروا عليها بالمصادفة تقريبًا، بالقرب من مستشفي الولادة. لهذا الحيوان ذي الشخصية القذرة أدينُ بحياتي. كانت درجة الحرارة في تيزي أوزو تبلغ أربعين درجة في الظل يوم مولدي. "لم أعان أبدًا مثل هذا اليوم" تحكي أمي متطوّعةً. وتُحب أن تتذكر أنني كنت ضخمًا جدًا في آخر أيام حملها، حتي إنها كانت تضع طبقها باتزان علي بطنها بينما تتناول الوجبات. وكما حدث مع ابنها الأول، لم تشكّ أمي أبدًا في أنها تنتظر ولدًا. "لست بقادرة علي إنجاب الإناث" تقول بفخر. وهو ما لم يكن يمنعها من تصفيف شعري بمكواتها عندما تأخذها الرغبة في ذلك. وكانت تقول أيضًا إنها لا تريد أبدًا طفلًا ثالثًا، مقتنعة بأنه سيكون مشوَّهًا أو منغوليًا. ومرة سمعتها تقول مستنكرةً: "إنني أرنبة حقيقية"، لتعبر بهذه الصيغة المجازية عن موهبتها في الوقوع حبلي ما إن تمارس الحب، وأحيانًا حتي في أثناء دورتها الشهرية. هي لا تعلم حتي كم مرة أجهضت. تقريبًا خمس عشرة مرة، تعترف دون ضيق. كان أبي يساعدها أحيانًا في ذلك. ومعًا جربا تقنيات متعددة. كان ذلك يتم في الظهيرة، عندما نكون أنا وأخي في المدرسة. وفي يوم اضطرت فيه لإجراء العملية بمفردها، سرَّبت أمي ليترات من محلول "الميركروكروم" داخل فرجها لتقتل الجنين. وتم انقاذها من علي حافة الموت بعد نزيف داخلي. وضع ميلادي حدًا للمرحلة الجزائرية لأبويَّ. بمسئوليته عن طفل ثان، تسرح أبي فعليًا من التزاماته العسكرية، بالنسبة له كانت الحرب قد انتهت دون أن يطلق فيها طلقةً واحدة. وهنا كانت إحدي تبعات ظهوري علي سطح الأرض. والداي كان بإمكانهما أن يبتهجا بمواجهتهما للحدث السعيد في قلب ما كانت تعرف ب"الأحداث"، والتي بالتأكيد لم تكن سعيدة بهذا القدر. ومع ذلك، كان عليهم التخلي عن ذلك التقارب الفرنسي الجزائري الذي كرّساه في سرير لذّاتهما. وفي الواقع، فإن أمي رفضت البقاء في إقليم القبائل، علي الرغم من أن عشيقها استحثّها علي ذلك، وتفرّق الثالوث ليختفي من الوجود، إلا من عيني أمي عندما تنظر لي. لفترة طويلة امتنعت أمي عن الإفصاح عن اسم طبيب مستشفي تيزي أوزو. وعندما أفصحت عنه أخيرًا، سجّلته في دفتر ولم أعد ثانيةً للتفكير فيه. ولم أسع أبدًا للتعرف إليه. ولا هو سعي. من ملابسات مولدي تبقّي لديّ الانطباع بكوني طفل حرب، لا يفصح عن اسمه الحقيقي بين أشياء أخري. كذلك وعيي بالتاريخ غير متطابق مع الرواية الرسمية، أقل بساطة ومرضًا من تلك التي يضطلع بها المخوّلون بكتابته. وفي نفس الوقت عندما حان وقت "الحرّية الجنسية" المزعومة، كنت أنا ثمرتها قبل الأوان. لم يكن أبواي بحاجة لأي شعارات ليستمتعا بها بلا قيود. بوكاشيو وأريستوفان كانا دائما بالنسبة لي قريبين من الحقيقة، كذلك دي ساد وجورج باتاي، وبالذات ذلك الأخير لأنه يحمل في اسمه نفس الأحرف التي يبدأ بها اسمي. مكتوب في البطاقة العائلية لوالديَّ أني من مواليد 22 يونيو 1960. وفي المدرسة تعلمت مبكرًا أنه في 22 يونيو عام 1633 تمت تبرئة جاليليو أمام محكمة التفتيش الرومانية، وفي 22 يونيو 1940 وقع بيتان اتفاقية الهدنة مع هتلر في عربة قطار. ولأسلّي نفسي، كانت لدي عادة أن أكتب تاريخ ميلادي بطريقة جبرية، متوازنة تمامًا، متتالية الأرقام 22 06 60 كانت تبدو لي وكأنها تخفي متناظرة حسابية غامضة مميّزة لي هذه المرة عن الجموع. كانت سنة 1960، وفقا للتقويم الجريجوي سنةً كبيسةً، يوم 22 يونيو يوافق إذن مطلع الصيف. إنني أنا من يطيل النهارات. هكذا كنت أقول متبجّحًا لفترة طويلة. وعندما صارت حياتي أكثر ظلامًا فضّلت أن أقول إنني أنا من يقصّر الليالي. النساء الثلاث اللاتي عشت معهن حتي الآن، لديهن علي الأقل نقطتان مشتركتان. كلهن كانت لهن علاقات صراعية مع الأب، وكلهن وُلدن في الفترة بين منتصف سبتمبر ومنتصف أكتوبر. أي قبل يونيو بتسعة أشهر. بيني وبينهن كان هناك دائمًا اجتياز الشتاء والربيع. تلك التي يقترب تاريخ ميلادها أكثر من تاريخ ميلادي، ولدت في 18 سبتمبر. بعد أربعة أيام كنت سأعتقد أني في حضرة سر تناسخ روحي، كما يقولون. ولدت هي في عام 1968، كان عندي إذن ثمانيةأعوام، وبعدها بتسعة أشهر كنت سأبلغ التاسعة. وفي نفس اللحظة اختفت إلي الأبد ماري بلانش، التي كانت بالنسبة لي الأولي بينهن جميعًا. أحيانًا ما كنت أفكر أن هذين الحدثين متصلان، وأن تلك التي جاءت إلي الدنيا شهدت علي اختفاء الأخري، للحفاظ علي توازن ما، لو لم يكن في الكون، فعلي الأقل في حياتي. كان عمري ثلاثة أسابيع عندما نقلتنا طائرة "بريجيه" بمحرّكين، أنا وأبويّ، من الجزائر العاصمة لمدينة ليون، حيث كان من المنتظر أن يكون في استقبالنا أبي في العماد. واجهت رحلتنا الجوية عاصفةً لا يزال والداي يتذكّرانها حتي الآن. كنت أبكي طوال الرحلة. وكانت كل أجزاء الطائرة تقرقع، إذ تتلاعب بها الرياح والأمطار. ووجد قائد الطائرة أنه من الضروري أن يأتي بنفسه ليُطمئن الركاب. وانحني علي المهد المحمول الذي يحتويني، راغبًا أن يهدئني، فتضاعف بكائي. هذه الرحلة المتقلّبة لا بدّ وأنها قد تركت آثارها. فطوال طفولتي كان يحضرني نفس الكابوس عن وجه عابس يقترب من سريري بسرعات مختلفة، ثم يهبط فجأة نحوي، بسرعة بطيئة. كما أنني لم أغير أبدًا حبًا بحب، أو أتغيّر في حياتي أو أتخذ موقفًا جديدًا دون أن يصحب ذلك عاصفة. والفكرة هي أن التغيّر أصبح مقرونًا لدي بالفوضي، لدرجة أن الاضطراب استطاع أن يقنعني أحيانًا بفكرة التغيير نفسها. أتخيل أحيانًا أنه لو كانت السماء رائقة بين الجزائر العاصمة وليون، لاستطعت أن أجتاز بعض الأحداث بنعومة، وربما الحياة نفسها. كان أبي في العماد يقطن عند مخرج مدينة ليون في قلعة "شوفالييه دو لا بار"، الذي كان مشهورًا بأنه آخر من أعدمه النظام القديم، بعد أن تم تجريسه في موكب ديني. تحيط بالقلعة حديقة كبيرة. نوع من عزبة صغيرة من القرن الثامن عشر، قامت بلدية "فولكس او فيلين" بقصقصتها عام 1974 تاركة بناية خضراء، ذات قبح صار معممًا. تضم الآن دار سينما تعاونية. الحقول التي كانت تحيط بالقلعة عام 1961 تحوّلت اليوم لبارات وتجمّعات علي مساحة كيلومترات لمساكن شعبية تثير في ساكنيها الضجر حد الانفجار. سكن أبواي في جناح، بينما كان أبي في العماد وزوجته الشابة يسكنان جناحًا آخر. هذه الحياة المُحبّة الخفيفة استمرت لعام. وفي عيد ميلاد زوجة أبي في العماد، اشتري لها سيارة صغيرة كانت تحلم بها. ولدي خروجها الأول بها اصطدمت بشجرة جميز، وماتت علي الفور. لم يستوعب أبي في العماد أبدًا أنه قدّم الموت لزوجته هدية، وصار مرتعبًا من كل ما يحيط به. وكان علي أبوي أن يغادرا المكان. ولم يعودا لرؤية من كان المفروض أن يضطلع بتعليمي الديني أبدًا. وفي ليون سكن أبواي في حي "لا كروا روس". ولم يتم ذلك بسهولة. لم يكن لديهما أي نقود، إذ قطع أبي علاقته مع عائلته، بعد أن هدّد أباه بالزواج من "زنجيّة". بينما لا تستطيع أمي الاعتماد علي والديها بالرواتب التي يتقاضيانها كعمّال في مصانع "ميشلان"، والتي تكفي بالكاد احتياجاتهما. وهكذا، بينما كان أبي يبحث عن عمل، كانت أمي تدور علي الفنادق بحثًا عن غرفة لمبيت الليل، وكان لا بدّ لهما أن يبدّلا الفندق كل يوم، إذ أن وجودي لم يكن مرحّبًا به في مثل تلك المؤسسات.ولحسن الحظ فقد كنت رضيعًا حكيمًا للغاية، وفي أغلب الأحيان كانت أمي تضطر لإخفاء وجودي، بتهريبي داخل حقيبة،بينما هي تمرّ أمام الموظف. وكثيرًا ما حكي لي أبواي أنهما إذ وجدا نفسيهما عاجزين تمامًا، اضطرا للاستغناء عن الطعام لثلاثة أيام، للاحتفاظ بما تبقّي لهما من نقود، لمصاريف رضعتي الصناعية. بحثًا عن الموارد، انتهي أبي بأن اتصل بوالده. وقد وعد الأخير بمساعدته، بشرط أن يتخلّي عن "موسيقي الزنوج".أخفي أبي الدرامز واستقررنا في بوا-كولومب، حيث اكتشفت أن لي شقيقًا يكبرني بعامين ونصف، واكتشف هو أن له شقيقًا أصغر وأبوين. في عيد ميلاده الخامس والأربعين، أهديت لأبي درامز صغيرًا، لعب عليه في الأمسية، ثم وضعه في الصباح التالي في المخزن، ولم يعد للمسه أبدًا. في أثناء بعض الأمسيات المبهجة المنتعشة، كان يحدث أن يسمع أبي شيئا من الجاز في الراديو، فكان يفتح لفافة سباجيتي ويقسم محتوياتها قسمين، ويستخدمهما كعصوين للعزف علي الطاولة والأطباق والأكواب، وبينما يعزف كانت السباجيتي تتكسر وتتطاير في كل الاتجاهات، وعند نهاية المقطوعة لم يكن يتبقي له شيء في يديه. وبعدها لأيام كنا نجد قطع السباجيتي متناثرة علي الموكيت. كان رواق بوا-كولومب بيتًا كبيرًا تستحيل تدفئته في الشتاء. وفي الصباح كان يتوجّب الدق بالأيدي والأرجل علي السلم الصاعد إلي المطبخ، لإزاحة الفئران. كانت هناك مربّية تُشرف علينا، أنا وأخي. اسمها مدام جيومو. أفصح أخي بعد سنوات أن ذوقه في حب الرجال ربما يرجع لذلك الاسم: كان معشوقه الأول يدعي جي. لا أحتفظ بأي ذكريات لمدام جيومو، بخلاف تلك الذكري الباهتة للصفعة القوية التي ضربتني إياها، لدرجة أنها أسقطتني من فوق كرسي الأطفال، وانشرخت جبهتي لنصفين. وفسّرت مدام جيومو ذلك لأبوي، بأنني اصطدمت وحدي بزاوية الثلاجة. وتبقّت لدي من هذه الكذبة ندبةٌ، تبدو وكأنها من البارحة. كرفض من رأسي أن يحاك علي الشرور التي يحتويها. في كل الصور التي تظهرني طفلًا، تختفي تلك الندبة خلف شعري المسدل الذي يخبّئ جبهتي، عندما تركت والدي، أرجعت شعري إلي الخلف وبدت الندبة في وضح النهار طازجةً ووردية وغير ملتئمة. ومن غير النادر أن بعض الناس، وعلي الرغم من أنهم يعرفونني منذ فترة طويلة، يندهشون من ذلك الجرح الذي أحمله علي جبهتي. لم يلحظوه مسبقًا، ويظنونه حديثًا. أفسّر لهم ذلك حينها أنها أمي قد عضّتني. انتقلنا للعيش في "أوبرفيير". وذات مساء عادت أمي من العمل وتمدّدت لتستريح هنيهة. وكان أبي قد ذهب ليأتي بنا أنا وشقيقي من عند المربية. وفجأة سمعتني أناديها "ماما" ثلاث مرات. كان صوتي يصلها نقيًا لدرجة أنها اعتقدت، وهي غافية، أننا قد عدنا دون أن تشعر، وأنني أناديها من علي حافة سريرها. ولكن الوقت كان ليلًا والشقة خالية. وفي هذه اللحظة تحديدًا دق جرس التليفون ليعلن لها أبي أنني قد دخلت المستشفي لحالة طارئة. كان وجهي قد تشوّه بالبثور، ولا أستطيع التنفس وأشعر باختناق خطير. وقد اعتقد الأطباء إصابتي بالدفتيريا التي كانت مرضًا قاتلًا في ذلك الوقت. لتجنّب أي نوع من العدوي، تم وضعي في حَجْر صحّي بغرفة منعزلة. وكان والداي لا يستطيعان الاقتراب مني، ومن خلف لوح زجاج، كانا يرسلان لي قبلات لم تصل أبدًا. فقط الممرضون بأقنعتهم وقفازاتهم كان لهم حق الدخول عندي. وكانت أمي تبكي لرؤيتي في هذه الحالة. وللمرة الأولي كان حبها عاجزًا. هذه الحالة من العزلة التامة استمرّت سبعة أيام بسبع ليال، حيث واصلتُ الهزال داخل ذلك التابوت الزجاجي، حتي إنهم توقّعوا موتي. كان عندي بالكاد أربع سنوات. كشفت التحاليل في النهاية أني مصاب بنوع من البكتيريا العنقودية. وتكفّل البنسلين، الذي كان دواءً حديثًا في السوق أيامها، بالقضاء علي مرضي. وفقدت في هذه الأثناء حاسة الشم، وهو ما لم يلحظه أحد. أنا نفسي أخفيت ذلك الأمر طويلًا خلف استراتيجيات استطعت تطويرها. أُعلن مثلًا بحماس أن طعم الليمون زائد في السلاطة، بعد أن تكون قد فاجأتني إحدي بذوره في الصلصة. لو كنت ذكيًا فذلك لأني استطعت أن أخدع عالمي أني قد صرت كذلك: ألم يكن عليّ أن أدرس المظاهر لأعطيهم معني كنت قد فقدته. وهكذا عرفت مبكرًا أن المحتمل لا يختلط أبدًا بالحقيقة، ولا ماهو حقيقي بتمثيله، وهو ما أبعدني سريعًا عن عصري. إذن فقد أصبحت شديد الانعزالية في فترة مبكّرة،ليس فقط لأن عليّ أن أخفي عجزي عن الشم، ولكن لأنه لا تواتيني أي رغبة في فعل ذلك وسط الناس، إذ كان بإمكاني خداعهم بمنتهي السهولة. في حدود سن العاشرة، جرؤت للمرة الأولي علي الإفصاح عن عاهتي. "لا تقل سخافات" قالت لي أمي. فلم أعد للكلام في ذلك، وأمعنت في تطوير ملكاتي الذهنية. في المدرسة الابتدائية، حصلتُ علي أعلي الدرجات في التعبير، إذ حكيت عن سوق مراكش، بألوانها المدغدغة وروائحها المُسكِرة. وقرأت المعلّمة موضوعي أمام كل الناس، بل حتي إنها مرّرته علي الفصول الأخري. كان هذا أول نجاح لي في العالم. وقد جعلني ذلك أفكر في الأدب وفي الدجل: فأنا لم أذهب أبدًا إلي مراكش ولا أملك حاسة شم. "العنقوديات الذهبية"، لطالما فتنني هذا الاسم. لم أكن فقط فخورًا بأني مرضت بذلك المرض الذي يثبت صعوبة بالغة في إملاء حروفه، بل كنت أتلذّذ بمغامرةالجنوح اللفظي، بعيدًا عن معجمي اليومي. كان ذلك كالتلفّظ بكلمة بذيئة بكامل الحصانة. أو كالتكلّم بلغة محظورة. وفي أحد القواميس اكتشفت أن ذلك المرض الذي كدت أموت به، كان يُسمّي أحيانًا ب"داء الملوك". استنتجتُ أيضًا أن الموت كان استثنائيًا وغامضًا لمّا كان اسم المرض طويلًا ومعقّدًا. لم أكن لأتراجع عن هذا. كل مرض يقل اسمه عن خمسة عشر حرفًا منذ تلك اللحظة لامعني له. وعندما اتضح أن أبي مصاب بالسرطان، لم ينتبني القلق بشأنه، إذ لم أتخيل أن كلمة من خمسة حروف يمكن أن تقضي عليه، بينما كان ذكالجميع- قلقًا، علي الرغم من ذلك، ففكّرت أني عديم الإحساس. وفي المقابل، صدمتُ عندما أدخلوه المستشفي، بسبب التهاب حاد في الغشاء البريتوني: وفجأة، بدا لي موته قريبًا بشكل رهيب، لدرجة أني شعرت بالتوعّك في الغرفة التي كان يرقد فيها، مع ذلك فقد نجا أبي منها، وعلي حافة سريره، كانت أمي تمزح. وطلب هو ألا نضحكه، حيث كانوا قد خاطوا له بطنه للتو، وأقل تقلّص سيصيبه بمضاعفات. لقد عاني أبي كثيرًا، وفي صمت. كان "العنقوديات الذهبية" هو المرض الوحيد الذي أدخلني المستشفي في طفولتي. فالتهاب اللوزتين، والناميات الخبيثة، والتهاب الزائدة الدودية، كلها نجوت منها. وما رفضته دوما هو أن يختنوني. علي المائدة كان يحلو لأمي أن تحكي أن الحكيمات في مستشفي تيزي أوزو، بينما كنّ يغسلنني من سوائل الولادة، قد سألنها بصوت ماجن فيما يبدو "هل تريدين أن نقطع له؟" وإذ تقول هذا، تنفجر أمي في الضحك، وتردّدها أكثر من مرة، كما لو كانت تغنّي "هل تريدين أن نقطع له؟" وهو ما كان يجعلها تتلوّي أكثر، ومعها الضيوف. لم يهتم أحد بأن يشرح لي أن الأمر كان متعلّقًا بختاني. وهو ما لم يكن ليغيّر شيئًا من الأمر إذ إن أمي تضحك أصلًا من سوء التفاهم. ولكن أنا كنت أرتعد لسنوات من فكرة أنهم يقرّرون جنس الأطفال بعد مولدهم، وأنني أصبحت ولدًا لا بنتًا وفقًا لإرادة أمي فقط. ماذا لو كانت قالت نعم؟ ومنذ إصابتي بالعنقوديات الذهبية، لم أسقط مريضًا أبدًا، وبدت حياتي وكأنها تسير منذ نحو أربعين عامًا في حالة توافق مع بنيتي الجسدية، أو العكس صحيح، وذلك علي الرغم من بعض الإفراط، أو لهذا السبب نفسه. لم أعان أبدًا من الإمساك ولا من آلام الصداع. ولا أسمّيهما أمراضًا تلكما المرتان الوحيدتان اللتان اضطررت فيهما لدخول المستشفي: الأولي بسبب كسر مضاعف في الفك بعد الاعتداء عليّ في ردهات المترو، والثانية بسبب قطع تام في وتر الكعب في أثناء مباراة في تنس الريشة بينما تقترب ولادة ابنتي. والحقيقة أني لا أحتفظ بأي ذكريات عن العنقوديات الذهبية. أو بالأحري لا أملك أي ذكريات غير تلك صنعها أبواي، وهما يتكلّمان عن ذلك الحدث الأكبر في طفولتي كأكبر المخاوف التي تعرّضا لها في حياتهما. لم تتنوّع روايتهما أبدًا. فلمعرفتهما أن ذلك المرض يصيبنا نتيجة شرب الماء الآسن وأني لا بدَّ قد أصبت به نتيجة لَعْقي لزجاج نافذة القطار الذي كان علينا ركوبه مساء كل أحد، للعودة من بيت جديّ. "كنت تضع كل شيء في فمك" تؤكّد أمي. بعد نحو خمس وعشرين سنة قابلت فتاةً شابة في قطار كان يقلّني من برلين، كانت نائمةً مستندةً علي شبّاك العربة، وعندما مررت في الطرقة، فتحت عينيها وبدت وكأن صورتي قد اختلطت بحلمها: وفي اللحظة التالية كانت ورائي متعلّقةً بكل حركة من حركاتي، وأحبتني لسبع سنوات تالية حبًا عنيفًا أمسك بتلابيبي. كانت تُدعي لورنس. ربما من الخطأ أن نعتبر "الماء الآسن" اسمًا. وكانت تعاني أيضًا من مرض جلدي. أنفجر في الضحك، عندما أتبيّن أن هذا اللقاء قد أعاد تركيب ما قد حكاه لي أبواي عن كيفية التقاطي عدوي العنقوديات الذهبية في أدق تفاصيله.أكفّ عن اليأس من حب كان يبدو لي حتي لحظتها قاهرًا وكارثيًا. فصدمة الغرام التي شكّلها لقاؤنا كانت صدمة سامة. ألم أتوقع ذلك من قبل؟ بعد لقائنا بقليل، قالت لي لورنس "أنت تعجبني" وبما رددت وأنا أظن نفسي أتخابث: "عن أي جرح تتكلمين حضرتك؟ فقد حافظت علي مخاطبتها بصيغة الاحترام فترة طويلة. ولم تخب توقعاتي. فقد توالت سبع سنوات عاصفات، أسوأ من سنوات السيست مع سيليمان، أو للملذات الوحشية التي لا تنتمي إلا لعالم الأمراض، المظاهر الأخيرة للحياة عندما لا يتبقي لها خيار آخر. انتهت فترة الحضانة لعلاقتنا سريعًا. حيث تدهور كل شيء بعد بضعة أشهر رائعة محمومة. كان لديها نوع من العدائية تجاهي، متواصل في البداية ولكن في النهاية انتهي بأن استسلمت لذلك الشعور ليلتهمها. كانت تخالفني بخصوص أي شيء، ولم نكن نتفق علي أي شيء، سوي في السرير. في كل لحظة كانت تبتزّ مشاعري، لكنها لم تكن تحبّني أبدًا فوق ذلك إلا عندما أكون غائبًا، كان ذلك كما لو كان حبها لي يريد أن يستغني عني، وكنا كالليل والنهار في إنهاك من اختلافهما المتواتر. في بداية الصيف أعلنت لها أنها ليست فتاة بالنسبة لي. أشياء كثيرة كان تصدمنا الواحد في الآخر، وما يلي ذلك لا يمكن أن يكون سوي كارثة، ولم يكن لديها أيضًا سحر عدم التوقع بتصرفاتها. كانت لورنس ترفض الاستماع إليَّ. كنا جالسين علي سلالم إحدي الكنائس. وأرادت أن نتزوج. وقد طردتها في أكثر من مناسبة، لتعود في كل مرة، وكنت أستسلم دائمًا. كنت أمقت ضعف الشخصية الذي أصابني حيالها. حتي الليالي التي قضيتها في أسرّة أخري كانت تقودني إليها. لم يكن أحد قادرًا علي المتعة مثلها. كان يكفي أن تلمس نهديها حتي يأخذ جسدها كله في الارتعاش. عيناها شديدتا الزرقة كانتا تجنحان نحو الأسود البحري ولا تثبتان علي شيء، وكنت أشعر أنني مشفوط داخل عدم يخبرني بأني لا شيء، ولا حتي تراب، ولا ذرة. لأحاول العودة للوجود كنت أقذف، ثم أنتصب، في إثارة مستمرة. معها كان الحب يعبّر عن نفسه كتراكم ضخم للذات، والذي كان يحيلني، كما لاحظت، إلي كائن هزيل مائع. كل يوم كانت لورنس تهاتفني لتخبرني أن أعتني بنفسي، وفي فمها نبرة حنان تدوّي كتهديد. كما كان لها طريقة لتقول لي "أحبك"، تكشف عن عشيق آخر، علاقة أخري جديدة، لم تكن غيرةً، فأنا لم أكن أطلب منها التفاني في الإخلاص، ولا أن تُمعن في إذلالي بذلك الشكل المفضوح. عدد قليل من أصدقائي كانوا يرفضون مبادراتها. ودون أن تكفّ عن ترداد أنها تحبّني، كان سلوكها يدوس بدقة علي كل ما كنت أعتبره قيمًا، ورأيتني أرتكب الخيانة بحق نفسي باحتمالي لما لا يُحتمل. "قلقك من الموت يغتالني"، قلت لها مصرًّا علي إفهامها. أعلنتْ بوضوح وبقوة أنّها تحب كل الرجال، كتلك التي كنت أعرفها قبلها عندما اعترفت بالنقيض، وكان عليَّ أن أجابه نفس النفي. نفس الخوف. كانت تتصرّف كأنّها تريد أن تأخذ مكاني، ورأيتها تحاول أن تصنع مني امرأتها، وفقًا للفكرة المعروفة التي تقول إن الرجل لا بدَّ وأن يتصرّف كوغد. وفي يوم ظنّت أنه سينمو لها قضيبٌ، كان الأمر عبارة عن خُرّاج له شكل قضيبي بطريقة مذهلة، نصحتها أن تذهب لتري الطبيب. "أنت لا تحتمل أبدا أن يحدث لي شيء طيب" ردت وهي تغلق فخذيها. واستمرت في التردد علي الاختصاصي لفترة طويلة. فكرة أن أقاومها كانت تجعلها تجنّ. كانت تعتقد أني أتبع تكتيكًا معينًا. أو أني أعاني من مشكلة نفسية لا بدَّ أن أعالجها. وكان لديها حلول لحالتي. "لابدَّ أن تكفّ عن رفض الحياة" كانت تقول لي. وأرد عليها "لا تعتبري نفسك الحياة. أنا لا أرفض سوي الحياة التي تقدّمينها. وهو ليس خطئي فالأمر يكمن هنا" وهكذا علي التوالي، لمدة سبع سنوات. ما كانت تفعله باللغة كان أكثر شيء يخنقني. كان لديها كلمات تملأ الفم وأخري فارغة، وأخري كونية تقذفها في الهواء دون تحسّب لأين ستقع. لا شيء مما كانت تقوله كان يلزمها. كان بإمكانها أن تقول ما يتناقض مع ما تفكّر به، وتتصرف بنفس الطريقة. لقد كان ذلك مبدًأ. الاستمتاع كان يقوم لديها مقام التفكير. كانت ترغب في الانتفاع من كل شيء. الانتفاع كان كلمتها. يجب أن ننتفع ولكن أن نحب أن نعيش، أن نكون، لم تكن نوعا من الانتفاع بالنسبة لي. كان الأمر يتعلق بأفعال مختلفة. العالم لم يكن كعكةً يجب التهامها قبل أن يفوت الأوان. أي عالم؟ أي كعكة؟ علي الرغم من نهديها الصغيرين وحساسية بشرتها المفرطة، لم أكن أستطيع تحمّل تركيب جملها. عندما كانت تتكلم تكون ملايين الناس، وكان ذلك كثيرًا من البشر بالنسبة لي. كل يوم كانت تركل التليفزيون الذي كنت أنتهي بمشاهدته كسكران، كي لا أري أو أسمع شيئًا آخر. لم أكن أريد أن ينتهي بي الحال كأونراث. العقاب الذي كانت تبحث عنه كان يبدو لي غريبًا. الصفعة القوية التي ضربتها بها مرةً لم تجلب لي أي لذة. لم يكن مَثَلي الأعلي أن أكون قوادًا أو جيجولو. وعلي أنقاض مشاعري العائدة تجاهي، لم أعد أهتم إلا بتكوين أجساد مضادة لها. وهكذا كان بقائي علي قيد الحياة، فيما أعتقد، كان عليّ أن أقاوم أربع سنوات العدوي التي أصابتني من الداخل كي لا أموت. تعلّمت كراهية نفسي، ثم الاشمئزاز منها. وذهبت حتي التلصص علي تليفونها كي أتنصت علي محادثاتها بأمل اكتشاف ما فاتني من تفاصيل في علاقتنا. وقد بلغت حد التقيؤ في الحمام عند سماعها تتكلّم عني. كانت تضحك بشكل رائع. وبعد إنهائها للمكالمات كل مرة تقريبًا كانت تجيء لتحييني في مكتبي الواقع في نفس الطابق، وكما لو كان بالحركة البطيئة كنت أراها تتقدّم مبتسمة نحوي وتحيط عنقي بذراعيها، وتقول لي إنها تحبني. وعرفت حينئذٍ ما الذي تعنيه الشفقة علي الذات. لم ينج عشاقها من الرجال والنساء من تلك المحادثات، وقد قدّرت الطريقة التي تروّج بها لصعودها الاجتماعي: كانت تقدّم نفسها لكل شخص، وتجعله يعتقد أنه الوحيد، كان ذلك بتملّقهم جميعًا بنفس الدرجة. الشكل الذي كان يتخذه بؤسها كان يؤثر بي، لو لم تكن تضعني في منظارها الموازي. كنت سأضحك من دروس الأخلاق التي تعطيها، لو لم تكن تصدّقها هي نفسها. كان ذلك فوق طاقتي. كنت متدهورًا لدرجة أني لا أجرؤ علي الثقة في أي شخص. كانت حياتي تشبه غرفة معزولة لم أعد أستطيع الخروج منها، وحيث أُحتَضر بلا نهاية. كنت أشعر بالعار من نفسي. أتهم نفسي بعدم القدرة علي الحب أو علي ترك نفسي كي تُحَب. كنت أرتعد لدي رؤيتها تقترب. مشاركتها نفس الهواء كانت تخنقني. كنت آوي إذن لثورات الطفح الجلدي أو إلي شعري خلال المعركة، وهي الأماكن الوحيدة التي كنت أجد فيها الملجأ. ولكني لم أكف عن الرجوع إليها كل ليلة. لكني كففت عن الاعتقاد في وجود فتاة صغيرة يرتعش ذراعاها مطبقة قبضتها بيأس خلف ظهرها. وتيقنت أن العنقوديات الذهبية لا يمكن أن نعقد معه معاهدة صلح. قضت واحدة اسمها انستازي-لويز وهو ما يظل بالنسبة لي الاسم المثير للبنسلين علي آلامي. لقد أخذت بيدي في منتزه شاتو، وكان مرحها القادم من جزيرة ترينداد بمثابة ترياق للألم الفرنسي الذي حطّمني. كانت لي كنبتة المولي التي قيل إنها حمت عوليس في الأوديسا من القوة الجنسية لسيرس، الساحرة التي حوّلت البحارة الراسين علي جزيرتها إلي خنازير. جويس الذي تذكر هذه القصة لاحقًا، جعل من مولي شخصية في روايته "عوليس"، في حالتي لم تكن روايةً. ثروتي العريضة كانت دائما لها أسماء بحرف الياء: ليلي كيم، فاليري، أوريلي، ميلاني كارولين، وعدد من الناتالي وبعض الكاترينات، بيرجيت، وكورين... معهن كنت أشعر دائمًا أني منتعش وأدين لهن بعدم إصابتي باليأس من الحياة. ومن جهة أخري النساء الثلاث اللائي عشت معهن هن جاييل وفابيان ولورانس. بالنسبة لي فإن الحب هو مسألة حروف متحركة. وعادت انستازي إلي بلادها. فكرت قليلًا أن ألحق بها، حتي أعلنت لي لورانس أنها توقفت عن أخذ الحبوب. وبعيدًا عن أنّها فاجأتني، فقد بدا لي قرارها أكيدًا. لقد نجّاني البنسلين ولكن أليس من المنطقي أن يكون مبرمجًا علي إخراجي من الغرفة المعزولة؟ فكرت أنها مجرد أيام سعيدة أعلنت عن نفسها وتخليت عن انستازي. أصبحت لورانس حبلي. وقد تكون المرة الأولي التي أشعر بالاتفاق معها كأن حجابًا قد تمزق فأعادها لي. وكففت فجأة عن أن أكون رجلًا في الرابعة من عمره. وأحببتها في النهاية دون تحفظات. وعندما ولدت الطفلة الصغيرة كانت فرحة استثنائية. كانت لها عيناي وجبهتي. بعدها بتسعة أشهر أعلنت لي لورانس انفصالنا. كان لا بدَّ لها أن تصير أُمًّا كي تقرر ذلك "أستطيع أن أتركك بعد أن صنعنا طفلًا، أعرف أنني لن أفقدك إلي الأبد" هكذا قالت لي عبر الهاتف. وقد حفرت هذه العبارة أنفاقًا بداخلي كحيوان خُلد تم حبسه داخل جسدي. "لكنك تفقدينني منذ البداية" صرخت كالمجنون في السماعة "عن أي أب تتكلم أنت؟" ردت هي بهدوء. كانت العقد قد عُقدت. ظننت ساعتها أنه لن يبقي بي شيء أصيل بعدها. لقد كان الأمر هكذا، الإصابة بالعنقوديات الذهبية. والمدهش ان لورانس لعبت الدور الذي رسمه لها مرضي (ودون شك لعبتُ أنا في أحلامها دور الشخصية المقدرة لي). لقد اخترتها بشكل كامل، ودونها لم أكن لأستطيع تجاوز ظلامي. لقد أعدّت لورانس كل شيء كي لا تخرج أبدًا من حياتي لدرجة إنجاب طفل، أو أن العنقوديات الذهبية سلالة مرضية لا شفاء منها: تعشش في ثنايا الجسد، وحيث الميكروبات تكمن فقط بعد تعرضها للمسار المدمر للمضادات الحيوية، تنتظر استيقاظها بفضل أي ظروف لا نعلمها. لو كان أبواي قد حكيا لي أني سقطت مريضًا بطريقة أخري، وأنا أتدحرج علي الأعشاب علي سبيل المثال، أو وأنا أبتلع الحصي، فبلا شك كنت سأقع في غرام واحدة أخري، وبالتأكيد ليس في قطار. وهو ما لا يغيّر شيئًا من فكرة أنيكان يجب أن أعيش من جديد ما كنت قد نسيته. من كل الأسباب التي يمكن أن تدّعي تفسير حب بائس، فأنا أفضّل قصة العنقوديات الذهبية. نعتقد أننا نفكّر في كل شيء، بينما نحن ننسي أمراض الطفولة. لزمت لي سنوات عديدة قبل أن أستعيد شهيتي للحياة، وحريتي في التفكير والحركة. كنت قد تجاوزت الأربعين بالكاد. ومنذ عمر العشرين كنت أردّد لنفسي دائمًا أن حياتي لن تبدأ بشكل واقعي إلا حين أبلغ هذا العمر. هذه القناعة حافظت عليّ متماسكًا، وسمحت لي بكل الأحلام. وأيضًا حالت دوني والانتحار، وربما دون موتي صغيرًا. ولم أكن مخطئًا: بتجاوزي للأربعين، جاءني الانطباع أني بدأت أحيا، كما لو كان كل ما سبق هو حياة بين قوسين. متأخرًا جدًا بالتأكيد لاحظت أن الأمر لم يكن يتعلّق بأي أربعينيات، ولكن بتلك التي وضعوني فيها في عمر أربع سنوات، لتلافي كل أشكال العدوي. لقد خرجت منها معافي وانتهت بي الحال أن اقتنعت أن لا حياة بالنسبة لي قبل الأربعين. كانت حدود عالمي هكذا كلمة من أحد عشر حرفًا. وقد تألّمت عندما لاحظت أن حياتي تشكّلت من اللغة. وفكّرت لو كان الحجر الصحي "الكارنتين أو الأربعينية" لطفولتي لها اسم الثلاثينية، لما كنت مضطرًا أن أنتظر حتي الأربعين لكي أدرك ذلك. وعند معرفة أي حاسة سأفقد هذه المرة في المعركة، أعتقد أنها حاسة إدراك الاتجاه، وهو ما أصبح عيبًا لديّ اليوم، لم يكن موجودًا قبل أن أسقط مريضًا بلورانس. إن تحقيقًا يصف كيف تأرجح القطب الشمالي المغناطيسي علي محوره، ليستقر في منطقة الأردين لم يُثر عجبي في وقتها، ولم أدرك للحظة أن الأمر يتعلّق بكذبة أبريل. سقطت الصغيرة مريضة في صبيحة اليوم التالي لمغادرة لورانس. وبعدها بعام أجريت لها جراحة في الحالب الذي كان قد نما لديها بإفراط مما كان يهدد بتدمير كليتيها. وفي نفس الفترة كانت تعاني كل شهر بمستشفي "نيكر" من الحقن التي كانت تخترق أوردة ذراعيها أو قدميها أو جبهتها الدقيقة جدًا، حتي يؤخذ منها ملليلترات من دمها بغرض التحليل. كانت تبكي بينما أمسك يديها وأكلّمها بلا انقطاع. وفي إحدي المرات أرادت ممرضة غير ماهرة ومرهقة أن تقطع لها الشريان السباتي، بينما هي تعجل من العملية. وكان لابدَّ أن أتعصّب لتحجم عن ذلك. عن هذه المرحلة من حياتها، لا تعرف الطفلة إلا ما قلناه لها أنا وأمها. ومن وقت لآخر تبدي فضولًا ولا بدَّ أن نحكي لها عما عاشته ولا تحتفظ منه بأي ذكري، حتي لو كانت ذاكرتها لم تنس شيئًا من خبرة الموت التي عانتها في هذه الواقعة. عندما أفكر فيما يمكن أن يعنيه هذا أرغب في تمزيق الأرض والسماء. لم تستمر الحياة في أوبرفيييه. استجابة لإعلان صغير وجد أبواي نفسيهما سعداء بتغيير شقة الإسكان الشعبي بالضاحية المملّة، إلي شقة من ثلاث غرف في شارع ماربوف بباريس، علي مبعدة خطوتين من الشانزيليزيه. وهكذا بلغت السنوات الخمس في العاصمة التي لم أُضطر لمغادرتها أبدًا. ومن هذه اللحظة فإن ذكرياتي تنتمي لي. أفكّر أحيانًا فيما كان يمكن أن يحدث لو بقينا في أوبرفييه. إعلان صغير عن العقارات ً قرر مصيري أيضًا. ودارت طفولتي في محيط صغير محدود شمالاً بشارع بيير شارون، وفي الجنوب بجادة مونتاني، وفي الغرب جادة جورج الخامس والشانزليزيه في الشرق. كنت أذهب لشراء الخبز من شارع الرينسانس، ومكتب البريد كان بشارع التريموال، ومتجر الألعاب بشارع كليمون مارو، وتقبع مدرستي بشارع روبرت استيان، الذي هو طريق مسدود. وعن طريق نزوة إدارية التقي كل رجال القرن السادس عشر أسفل بيتنا، وكنت أقوم بالصهيل في كل مرة أمرّ بشارع بايار، لم يكن هناك إلا شارع ماربوف الذي يحمل اسمًا مبتذلًا. ومع ذلك هو الوحيد الذي يستحق لوحته، بما أنه استخدم في توجيه المواشي إلي مورد المياه حين كان الشانزيليزيه مجرد حقول بالفعل. قرب نهاية الشارع قام أحد المصارف حيث عاش أرسين لوبين. وفي عام 1995، سبّب انفجار قنبلة سقوط عدّة جرحي بمجرد ما مرّت أمي، التي كانت ذراعاها محمّلتين بالمشتريات، إذ هي عائدة من متاجر بريسونيك بالشانزيليزيه. نسكن شقة من ثلاث غرف بالطابق الخامس، دون مصعد. كنا نصل إليها عن طريق سلم الخدم الكائن بنهاية الفناء. في كل مرة لا بدَّ أن نمرّ أمام الركن الذي تتراكم فيه القمامة. المكان غير مضاء دائمًا وأتخيل وحوشًا تتربص بي في الظل. في أحد المساءات وبينما أنزل بالقمامة مرق من أمامي جرذ سمين من جرذان المجاري. فطوحت أكياس القمامة بشكل عشوائي وهربت. كانت شقتنا مستطيلة. نشغل أنا وشقيقي نفس الغرفة في آخر الطرقة، وكان لها جدار مشترك مع غرفة أبوينا. ننام علي سريرين يعلو أحدهما الآخر، حيث كنت أشغل السرير الأسفل. لمدة طويلة كان أخي يتبوّل في سريره فوق رأسي. الحمام كان يشغل ثلث مساحة غرفتنا، وحيث يحمي بارفان مدخله من النظرات لكنه لا يمنع الأصوات. في كل غرفة هناك نوافذ وأبواب تطل علي الشرفة، والتي تطل بدورها من الطابق الخامس علي فناء البناية. ومن نافذة ببير السلم، تقع بين الطوابق بنحو مترين، بإمكان المرء أن يثب فيقف علي الدرابزين، ثم يقفز فيطال أحد عوارض الشرفة، وبارتكازه علي قوة ذراعيه بالاتكاء علي الحافة، يقفز بعد ذلك داخل الشرفة فيكون في بيتنا. وفي الاتجاه المعاكس، فإن الأمر أكثر تعقيدًا لأنه سيكون عليك أن تتأرجح لجزء من الثانية في الفراغ، قبل أن تحطّ قدمه علي درابزين النافذة، وفي تلك اللحظة يكون مستحيلًا عليك أن تري ما تفعل. عندما أكون محبوسًا يوم الخميس في غرفتي، أو في المراهقة، عندما أخرج في المساء سرًا كنت "أعبر من الشرفة" مرتجفًا من الخوف في الظلام، وفخورًا بتجاوزه. ينظّم أبواي الحفلات في مناسبات كثيرة. وفي حفل تنكّري تحوّلت أمي لأميرة شرقية، بينما أبي يرقص معها في زي الملك فرانسوا الأول. هناك دائمًا أصدقاء في البيت. في إحدي المرات تحدي ماكس أبي أن يتعرف علي من يعزف الدرامز في المقطوعة التي وضعها في جهاز الأسطوانات. ومخبئًا خلف ظهره غلاف الأسطوانة ذات الثلاث وثلاثين لفة التي أحضرها معه. أجلس مرتديًا بذلة أمام سماعات الإستريو الضخمة، تحاول عيناي اختراق الغموض الذي يخرج من السماعات. يحبس الجميع أنفاسهم. يستمر هذا لفترة طويلة. وفجأة يخرج صوت أبي بوضوح: "إنه سام ووديارد علي اليمين وسوني بين علي اليسار". يصفق الأصدقاء. تشعر أمي بالزهو. ماكس يهنئه. وأنا فخور بأبي، وفي نفس الوقت يتسرب داخلي شعور غامض: حيث كنت أنتظر اسمًا واحدًا فقط، كان هناك اثنان. ماكس هو أفضل أصدقاء والديَّ. ضخم جدًا، يرتدي كوفيات من الحرير حول عنقه وبدلات بأناقة لا تخفي. عندما يصل في مكان ما، يكون دائمًا كنجم. وهو عاطل بشكل مستمر. يقدم نفسه لأصحاب العمل المحتملين مرتديا ثيابًا فاخرة، مدخنًا السيجار أحيانًا، متعاملًا معهم باستعلاء. وحدث أن أحد أصحاب العمل قد تم إغواؤه بهذه الهيئة ورغب في الاستفادة منها، وجرؤ علي تشغيله ليبيع بوالص تأمين أو أي شيء كهذا، وينتهي الأمر دائمًا في محكمة العمل. أعشق ماكس لفترة طويلة كنت أتخيل أنه أبي الحقيقي. هو أيضًا ضاجع أمي. الغرام الكبير لماكس تُدعي مونيكا. تشبه لويز بروكس لكنها بحجم أصغر. في حادث سيارة، اخترقت الزجاج الأمامي للسيارة وبقيت مشوهةً. لشهور يذهب ماكس لزيارتها في المستشفي فلا تتعرف عليه. آخر مرة أري فيها ماكس، كان يعيش مع امرأة ضخمة بساق في الجبس وذراعين مشعّرين. ولديهما ابن أسماه ماكس بوريس، تخليدًا لذكري فيان. وذات مساء، سيغلق ماكس غرفته عليه ويطلق رصاصة من بندقية داخل فمه. سيحتفظ أبي بخبر انتحاره لنفسه فترة طويلة. كل الإجازات المدرسية، نقضيها أنا وشقيقي في سان جيرمان أو لي بمنطقة إيفلين، حيث انتقل جدانا للعيش في بيت علي حافة الغابة. كنت كل مرة أجد ديدييه، ابن الحارسين. معًا نتسابق بالدراجات، ونبني أكواخًا، ونصيد الضفادع. ولكن في نهاية ظهر يوم ما، وحين كان يدور بدراجته حول البيت الصغير الذي يسكنه والداه، يأخذ ديدييه في الصراخ ويقفز قفزات في مكانه متبوعًا بألسنة صغيرة من لهب أزرق. يندفع أبوه ويحاول أن يمسك بولده الذي يتلوّي علي الأرض، يعطيه ضربات علي كل جسده، ويجرّه علي الأرض، ويحاول أن ينزع ملابسه. كانت أم ديدييه تتابع المشهد ويداها علي فمها. كل شيء حدث بسرعة شديدة. مات ديدييه ساعة أن نقلوه المستشفي. بينما يمر أمام نافذة المطبخ المفتوحة غلّفه تيار هوائي بتسرّب للغاز، خارج من البوتاجاز، حيث كانت أمه تسخّن وجبة المساء، فتكفّل قميصه المصنوع من النايلون بالباقي، هكذا عرفنا في اليوم التالي. بعدها بقليل رحل زوج الحرس. كل سكان المنطقة ساعدوا في عملية رحيلهم. كانت يدا أبي ديدييه مربوطتين. خلال عدة شهور سأبحث عن كلمة "نايلون" علي البطاقات الملتصقة بملابسي. يوم الخميس، وبعد أن أكون استنشقت زجاجة أمي حد الغثيان، أسكب بعض المذيب علي يدي وأشعلها بعود ثقاب وأهز يدي أمامي وهي في النار، كما لو كنت أؤدي إشارات. وكنت أحرق أيضًا دمي صغيرة علي شكل جنود من البلاستيك في الشرفة، أراقبها وهي تذوب وتنكمش علي نفسها حتي لا يتبقي منها إلا كومة صغيرة متكلسة. لاحقًا سيعرّفني واحد اسمه ديدييه إلي تلك التي سأرغب في إشعالها بمجرد رؤيتها، وقد انتهت باستهلاكي. ذات ليلة، يصطحب والديّ إلي البيت رجلًا وامرأتين سويديتين -شقراء وسمراء- التقيا بهم في بار آسكوت بشارع بطرس الأول، ملك صربيا، حيث اعتادا الذهاب للاستماع للجاز. أستيقظ علي صوت الموسيقي والقهقهات الآتية من الصالون، فأنزلق بالبيجاما إلي الشرفة وأراقبهم من بين خصاص النافذة. أمي تمسك بين يديها بوجه السمراء، وتعبير وجهها مبالغ فيه. أعتقد أن إحداهما تُقبّل الأخري، لكن خصاص النافذة يحجبهما عني في اللحظة الأخيرة، وبلا طائل ألوي عنقي. هذا هو أول مشهد إيروتيكي أراه. لم أستطع أيضًا تمييز ما يفعله الآخرون، وكان يبدو أنهم مستمتعون، أبي يملأ كؤوس النبيذ ويغيّر علي الإستريو أسطوانات الخمس وأربعين لفّة، التي تتكدّس أغلفتها بالجملة علي الموكيت. ينتابني البرد بعد نحو ساعة، ولمّا لم يكن هناك شيء عجيب يحدث أعود للرقاد. ولكن الضجيج والفضول يمنعانني من النوم علي الرغم من الوسادة التي وضعتها علي أذنيّ. أنهض إذن وأجازف بالتحرّك للصالون، بحجة الذهاب إلي المرحاض.عندي أحد عشر عامًا. يسبب ظهوري انتعاشًا للجميع. فيجلسونني علي الأريكة. أمي تقدّم لي الجين مع الليمون وماء التونيك. يسألني الرجل في أي عام دراسي أنا. ويبدو أن إجابتي جلبت له السعادة. وقال أيضًا إني يجب أن أعرف أن لديّ والدين رائعين. ثم ينصرف عني الجميع. يرقص أبي مع الشقراء. تضحك أمي لما يقوله الرجل في أذنها. تنتهي السمراء بأن تغادر. لا أتوقف عن تقديم الجين لنفسي. فجأة تذيع أمي فكرة أن يستحم الجميع. يُستقبل اقتراحها بالفرح، ويأخذ الجميع في خلع ملابسهم. الأول في التعري هو الرجل، ويتدلّي عضوه رخوًا بين فخذيه. وكان مليئًا بالشعر. لم أكن قد رأيت عضو رجل حتي الآن. تهزه أمي بأطراف أصابعها كجرس وتصيح: "لكنه صغير جدًا". وتنفجر في ضحكة عصبية تقطعها شهقات كصهيل الخيل. يلهو الرجل ويقلّد طرزان وهو يضرب علي صدره. آخذًا أمي من يدها ويدخلها نحو الحمام. تصيح أمي: "هيا، الجميع إلي الماء!" وعندها استقرت نظرتها عليّ فجأة، كمن اكتشف وجودي "هيا يا جريجوار، تحت الدش، بلا كلام!" قالت بحماس. يتدخل أبي ليقترح أني ربما لا أكون ملزمًا بذلك. أتجنب أن أنظر إليه. "كما يريد" قالت أمي بمرح بينما تجري في الطُرقة مطوّحة أقدامها في كل الاتجاهات لتتخلص من ثوبها. يختفي أبي والشقراء بدورهم. أجلس بمفردي في الصالون. أرغب في العودة للنوم في سريري، لكن الحمام موجود في غرفتي. أبقي علي الأريكة، أحتسي الشويبس لأن الجين قد نفد. تأتي من الطرقة ضوضاء وضحكات وقرقعات مياه. ثم لم أعد أسمع شيئًا. أنتظرُ. يستمر هذا لفترة طويلة. لا أفعل شيئًا. أبي هو أول واحد يعاود الظهور. يرتدي بذلةً مضطرًا للذهاب إلي العمل، لأنه يشتغل هذا الأحد. وخلفه الشقراء ملتفّة بمنشفة حمام حول وسطها، شعرها في غاية الفوضي. لا أجرؤ علي السؤال أين أمي. أبي يأخذ حافظة أوراقه السوداء من عند المدخل، ويلتحف بمعطف المطر. يقول لي إني يجب أن أذهب لأنام. أطيعه. منكمشًا داخل سريري أنصت لأقل نأمة يمكن أن تأتي عبر الحائط من غرفة أبويّ، حيث أفترض أن أمي هناك مع الرجل الآخر. لكني لا ألاحظ أي صوت، فينتابني القلق. لفترة طويلة مكثت أتنصت مفتوح العينين. عبر خصاص النافذة بدأ الصبح يظهر. فنهضت ورجعت دون جلبة للصالون. الشقراء تنام علي الأريكة. تغط بهدوء. تغطيها منشفة الحمام بشكل غير كامل. قمت بزحزحتها بحذر شديد، حتي انكشف ثدياها الثقيلان، وبطنها المتثني، وعضو أشقر ومشعر أدهشني. لا تتحرك. لم أتخيل جسدها مترهلًا هكذا، مما أصابني بالاضطراب والإحباط. لا أعرف كم من الوقت بقيت أتأمل هذا الجسد الرخو والغريب، كحوت خارج البحر. متمنيًا وخائفًا أن تستيقظ الفتاة . كنت أريد أن أتمدد بجوارها وأن تأخذني بين ذراعيها، تقبلني وتتركني ألمسها. وجرؤت علي لمس ثدييها. لم تتفاعل. وظننت لوهلة أنها تتظاهر بالنوم. وفي النهاية أذهب لسريري وأستسلم للنوم. عندما أستيقظ سيكون البيت هادئًا. الرجل والشقراء قد انصرفا. أمي مصابة بنوبة حساسية قوية أدت إلي انتفاخ وجهها. علي عينيها نظّارة شمس ولا تبرح السرير. وطوال اليوم مزاجها سييء. بعدها بثلاثة أيام تسألني أمي بينما تصبّ في الحوض وعاء من القواقع: "أتمني ألا تكون قد صُدمت تلك الليلة." أشعر بالضيق فأجيبها برخاوة. تطمئن أمي فتسترسل. تبتسم وهي تقول:" كانت الشقراء جميلة، أليس كذلك؟" صوتها مليء بالتواطؤ. أبقي صامتًا. "اذهب وأخبر أباك أن الطعام جاهز" قالت أمي بعدم إلحاح، وهي تضع القواقع علي طاولة المطبخ. أفكر أن الشقراء كانت تتظاهر بالنوم إذن. من كل الرسوم المتحركة التي من المفترض أنها كانت متعة بريئة في طفولتي كانت "الجميلة النائمة" هي أكثرها تأثيرًا في نفسي. في غرفتي كنت القديس جريجوار الذي يصرع الملكة السوداء المتحولة إلي تنين. ولاحقًا كنت أقبِّل بحماس الفتيات اللائي أقابلهن، متخيلًا أني أوقظهن في النهاية، لكنهن لم يكنّ نائمات أبدًا، أو نائمات في حكاية أخري لا تنتمي إلا إليهن. لم أكن أفهم. لم أكن أتصور أن من تجذبني لا تكون -بشكل ما- نائمةً، حتي ولو لم يكن ذلك فوق الأريكة بالصالون في بيت شارع مارابوف. "يا للرعب" قال أبي متعجبًا ذات يوم، عندما صرحت لهم برأيي، في أثناء محادثة تافهة، أن امرأتين تمارسان الحب لهو مشهد جميل. "مثير للاشمئزاز" زايدت أمي. كانت غاضبة بصدق. في ذلك اليوم تعلمت أن النزعة الأخلاقية قد تنافس التهتّك. وفي أثناء وجبة أخري في أحد المطاعم، قلت لأبي إنني أحبه. بعدها مباشرة أحسست أني تحررت من ثقل ما، كمن سدّد دينًا. بدا أقل تأثرًا بتصريحي مني أنا. وفي مواجهتنا، تعض أمي شفتيها وتلوي فمها بحزن ومرارة. هناك صورةٌ تمثلنا أنا وأبي وأخي نسير في طريق بالغابة. ربما كنت في السادسة. مطبوعة بالأبيض والأسود، وبحواف مشرشرة. وتبدو فيها بهجة شهر نوفمبر. دون شك تمسك أمي بآلة التصوير بما أنّها لا تظهر في الصورة. لا أملك أي ذكري عن هذه النزهة. ومع ذلك هي أجمل ذكريات للطفولة صنعتها بنفسي. عندما نرتكب أنا وأخي حماقة تثير الغضب، تضربنا أمي بسيف "زورو" البلاستيكي الأصفر الخاصبي. نضحك تحت الضربات متظاهرين بالشجاعة، ونتمسك أحدنا بالآخر، وهو ما يجعل أمي تجن من الغضب. ولكن كل مرة كان يصيبها التعب قبلنا، وفي النهاية يسقط من يدها السيف المؤلم. وعندما تكون قد غادرت، أنظر إلي سيفي معتقدًا أنه من الخيانة أن يوجّه نحوي. كان يحدث أن يصيب أبي الملل من سماعه لثرثرتنا أنا وأخي في غرفتنا. يصرخ حينئذ عبر الحائط: "هذا يكفي وإلا سأضرب أحدكما بالآخر". هذه صياغته. ولما كنت الأخف وزنًا فلم أشك أني من سيستخدم كهراوة، وسأهتم لفترة طويلة بالطريقة التي أسبب بها أقل ضرر ممكن لأخي عندما يُضرب بي. "تتهمونني بكسر الأكواب ولكن أنا من يغسل دائمًا المواعين" تتمرد أمي من وقت لآخر. طولها مائة وستون سنتيمترًا، وعندما نشير لقامتها ترد بشكل حاسم "ربما أكون قصيرةً، لكن جسدي متناسق بشكل يثير الإعجاب".والواقع إنها ليست فقط قصيرة، يمكن أن نقول أيضًا إنها بعيدة. في بعض الأيام المتوهجة، كانت تصعد علي الطاولة وتلوح بقبضتها، وتخطب: "لو لم يتبق سوي شخص واحد، سيكون أنا". أبي طاهٍ ممتاز. في أيام الأحاد يتكفّل بالمشتريات ويعدّ الوجبات. تخصصه هو الأرانب. وعندما يكون في مزاج طيب أو يكون راضيًا عني، يداعب شعري ويقول لي "يا أرنبي الصغير". استطاعت أمي أن تتوظّف في شركة "بيجين ساي"، حيث أصبحت السكرتيرة الشخصية للمدير لويس ميرلين، الذي كان يدير أيضًا"أوروب نيمرو 1" محطة الراديو الشهيرة في ذلك الوقت، وحيث سأترك ذكري سيئة للغاية بعد ذلك بسنوات حين أعمل للمصادفة هناك، وأعيث فسادًا. ذات يوم، أعلمت مكالمة تليفونية أمي في عملها، أن سيارة قد صدمت السيدة التي تأتي بنا من المدرسة أنا وأخي. كانت سكرانة كعادتها عندما حاولت مدام ليجال أن تعبر بنا والإشارة خضراء، فوقعت الحادثة. لمستها سيارة عن قرب، فتهاوت دائخةً أكثر منها مصابة. استقالت أمي من عملها لتعتني بنا.وقد تركت بذلك موقعًا وظيفيًا واعدًا لن تناله ثانية فيما سيأتي. "أبنائي قبل كل شيء" تقول بقوة. طائش، مشاغب، غير منضبط... تابعتني هذه الصفات طوال أعوامي المدرسية، في نفس الوقت مع تنويهات "تلميذ جيد" أو "تلميذ موهوب". لا يصيبني الملل أبدًا. ذات مساء يوم خميس دعوت عندي ليري وفريتير وجرافيه، ثلاثة تلاميذ كبار من المدرسة لا يفترقون، فقد كانوا من أبناء البوابين. وفي حجرتي ابتهجوا بأشيائي، ووكزوني في ظهري، كما لو كانوا ينتقمون من استقبالهم لمرة في الشقق. في هذا اليوم تحققت من أني لا أحب أن أكون ابنًا لبواب، كي لا أكون مثلهم. هم أيضًا لا بدّ أنهم يكرهون كونهم أبناء بوابين، وبد لي هذا فجأةً. ووجدته أمرًا شاذًا أن يقيّموا وضعي المحظوظ واحتقرت احتقارهم. بيننا، اكتشفت عالمًا لا ينتمي لنا ويصيب بالمرارة، وبشكل غريزي، رفضت الخضوع له، وحتي اليوم لا يمكن لأحد أن يقول إنه عدوي دون موافقتي. في ذلك المساء، استدعتني أمي إلي الصالون. اختفت ورقة فئة المائة فرنك من فوق المدفأة. نظرتها تفتش جيوبي. وانتهت بأن أرسلتني إلي السرير ناصحةً إياي أن أفكر جيدًا. بعدها بيومين، ليري يلعب في فناء بنايتنا بمسدس جديد. نزلت السلالم فورًا. ينكر ليري أنه سرق النقود. بجانبه جرافيه وفريتير يساندانه. أحذّره أن أبوي يعرفان الحقيقة وأنهما سيخبران والدي ليري، وربما الشرطة، أو الجيش. وذكرت وأنا أحذّره كيف أننا أصدقاء مخلصون. تحمر أذنا ليري. وانتهي بأن أعطاني المسدس وما تبقّي من النقود، في مقابل وعد مني أن أحاول تسوية الأمر مع والديّ.. بينما أصعد، مزهوًا بنفسي ومن الطريقة التي أدرت بها المناورة مع الأخذ في الاعتبار فرق القوة. حين تدخل أمي، سأعطيها بانتصار الغنيمة المستردّة من الأعداء. تقول: "أهنئك علي رد النقود، لكنني لن أؤيدك أبدًا في السرقة" أريد أن أعترض، لكن حماسي أكد لأمي مسألة أني مذنب. وصمتت في النهاية. منذ هذه اللحظة لم أقل لها أي شيء آخر، كفت عن أن تكون أمي، حتي لو بقيت ابنها. عشتُ طفولةً سعيدة ذات ظهيرة في يوم أحد، تظهرُ أمي في غرفتنا، حيث نلعب أنا وأخي، كلٌ منّا في ركنه: "يا أطفالي هل أحبّكما؟" صوتها قوي، ومنخاراها رائعان. يرد شقيقي دون تردد. وأتردد أنا في تجاوز أعوامي السبعة. لدي وعي بما جري، لكني أتشكك فيما تلا. وانتهيت بأن همست: "ربما تحبيننا كثيرًا نوعًا ما". تنظر لي أمي بفزع. تبقي لوهلة ذاهلةً، تتوجّه نحو النافذة وتفتحها بعنف، وتحاول إلقاء نفسها من الطابق الخامس. تُنبه الضجةُ أبي، فيلحق بها علي حافة الشرفة، بعد أن تكون قد مرّرت إحدي رجليها في الفراغ. تصرخ أمي وتتشاجر. وتدوّي صرخاتها في الفناء. يجذبها أبي بحزم، ويحملها كجوال إلي داخل الشقة. في أثناء العراك، يصطدم رأس أمي بالحائط، ويُحدث رنينًا. ولفترة طويلة تبقت بقعة دم صغيرة علي الجدار شاهدةً علي ذلك المشهد. في يوم سأرسم حولها بالحبر الأسود دوائر، وأستخدمها كهدف للتصويب بأسهم اللعب الصغيرة، وعندما أرمي في رقم الألف، أتخيل أني أستعيد لوهلة ملكة الكلام دون خوف. كانت أمي في السادسة عشرة عندما قابلت أبي، فيما كان هو في الثامنة عشرة. كان ذلك في عام 1956 في حفل مُرتجل أقيم في رواق "بوا كولومب"، حيث كانت عائلة أبي قد استقرت بعد حرب 1939. كان أبي يُحيي الحفل بالعزف علي الدرامز، في إطار فرقة صغيرة للجاز، مكوّنة من زملائه طلبة الحقوق. وكانت أمي تساعد بغسل الصحون، بعدها بعام، كانا متزوّجين، وأنجبا شقيقي، الذي أسمياه أوليفييه، دون سبب معين أعرفه. بالكاد كان لأبي الوقت أن يري ولده: فقد استدعاه الجيش لتأدية الخِدمة الإلزامية. ولم تكن تلك اللحظة المناسبة للاستدعاء. فبدلًا من الثمانية عشر شهرًا العادية، أجبَرَت الحرب -التي لم تكن قد تسمَّت بعد بحرب الجزائر- أبي علي ارتداء الزيّ العسكري لثلاث سنوات. وقد استقر بمعسكر في تيزي أوزو، عاصمة إقليم القبائل، حيث لم يكن، وفقًا له، يحدثُ شيء عظيم. تكدّرت أمي لفراقها السريع لزوجها. واتّخذت قرارها سريعًا: تركت رضيعها لعائلة زوجها، وغادرت لتلحق بالرجل الذي أحبّته في الجزائر. بالنسبة لفتاة في السابعة عشرة، لم يكن هذا النوع من الجسارة معهودًا في ذلك الزمن. وهناك تحابّا. وبالأحري ثلاث مرات بدلًا من واحدة، حيث سقط تحت سحر أمي طبيب من مستشفي تيزي أوزو، وسريعا ما انضم للهوّهما، وكان حملها بي ثمرة أحد لقاءاتهم الثلاثية. "أنت ابن الحب"، كانت أمي تردد عليَّ طوال طفولتي، دون أن أعرف ماذا يعني هذا، أو إن كان بالأحري مُقلقًا. وعلي الملأ كانت تحب أن تذكّر ببشرتي الداكنة وحقيقة أن ملامحي لا تنتمي لآل بوييه. وعندما كشفت لي بعدها بفترة، وبناءً علي سؤالي عن حقيقة مولدي، استخلصتْ مما قالت إنها قرأته في مجلة أنّه إذا قذف رجلان في مهبل امرأة، فإن حيواناتهما المنوية بدلًا من التنافس، تندمج، لتخصّب البويضة، ويولد من ذلك جنين مشترك. وحكت لي كذلك أن أبي كان ينتصب جيدًا، وأنه كان مثلي جنسيًا، وفيما بعد، ادّعت أنها قالت ذلك لتمزح معي. أمي كان لديها من تأخذ عنه: كانت بالكاد في الثانية عشرة، عندما قام شقيقها الذي يكبرها بسنتين من الطاولة زاعقًا في الأب، الذي كان يؤنبه علي هفوة: "أنت لست أبانا الحقيقي!" في الواقع فإنه كان عمهما، الذي احتل سرًا سرير زوجة أخيه، مكان شقيقه، الذي اختفي في بدايات الحرب العالمية الثانية. ولم يكن لأمي، التي ولدت في نهايات عام 1939، أبدًا الوقت لتعرف من كان سببًا في وجودها. لا بدّ أنّها قد تذكّرته بشكل غامض، عندما قررت أن تلحق في الجزائر برجل كان هو أيضًا قد ذهب إلي الحرب، أيضًا بعد ميلاد ابنه مباشرة. وبنفس الطريقة التي استبدل بها أخ أخاه في شخصية أبيها، أصبحت هي أمًّا للمرة الثانية بين أحضان رجلين. من شقيق لشقيقه، عاشت جدّتي دائمًا، مع رجل يُدعي "بيرار"، ولم تضطر لتغيير الاسم لتبدو في زيجة مضبوطة في أعين العالم. وفي المجمل، لم يخرج الأمر من العائلة، وإداريًا فقد تم تبسيط الموضوع. في هذه الأثناء كان يجب مسح كل أثر للمختفي، وهو ما يفترض نوعًا من التركيز، لأن الأمر يتعلّق بالصمت عن شقيق وزوج وأب في نفس الوقت. وفي وسط هذه المؤامرة نشأ الأطفال. وخلال سنوات، لم يشكّ أي شخص في الحقيقة، باستثناء الابن الأكبرالذي لم تمح من ذهنه بعض الذكريات المتداخلة. بالنسبة لأمي، كان اكتشاف أن حياتها قامت علي كذبة بمثابة "صدمة" لها، كما ما زالت تتذكّر. تقول هذا، وتنظر في عينيّ بقوة. أما جدّي، الرجل البشوش، فقد عشق كلبةً صغيرةً مولّدة، كانت تتبعه في كل مكان كظله. وكان قد أسماها "ساتليت"، تيمنًا بمركبات سويوز الفضائية السوفيتية، كما أكّد، إذا تكلمنا من ناحية تناسلية، فقد اختار جيّدًا، لعشرين مرة في اليوم، كان يُصرح بالحقيقة التي احتفظ بها لنفسه، دون أن يشك فيها أحد، ولا هو نفسه. فعندما كان يصرخ في ساتليت كان يناديها سالتيه (قذارة). وفي الفرنسية القديمة تعني كلمه بيرار "الأب السييء". بوييه بدورها تعني "غابة صغيرة من أشجار البتولا". أنا أعرف إذن من أي نوع من الخشب قد صنعت، وهو ما لا يتأتّي لأناس كثيرين. عند مولدي، تم الاتفاق علي تسميتي نيكولا، ولكن لأن برجيت باردو كانت قد وضعت طفلًا أسمته نيكولا، فقد غيّرت أمي اسمي إلي جريجوار. وهكذا أصبحت "من يسهر في السهرات" وهو ما تعنيه جريجوار المنحدرة من الكلمة الإغريقية إجريجوريان. لو كنت قد تسمّيت نيكولا كنت سأكون "انتصار الشعب"، وهو ما لا يستتبع نفس المصير. ولأقنع نفسي فقد أصبحت صديقًا لفترة لواحد يُدعي نيكولا، وهو لم يعرف أبدًا ما الذي يعنيه اسمه لصداقتنا. لم يكن يحمل الشعب أبدًا في قلبه، وبدرجة أقل انتصاره. وبخلاف التقليد، لم يمنحني أبواي أي اسم آخر، مُلحقًا بجريجوار. لم يرتبط بي أي من الأسلاف سواء كان صالحًا أم طالحًا. لم أضطر لتخليد ذكري أيّ من موتانا. إليّ فقط سيرجع فضل تسمية ظلّي يومًا ما. عندما خرجت من بطن أمي، يبدو أنني كنت أضحك. النسوة الحكيمات تشاجرن معًا تقريبًا ليعتنين بي: لم يرين أبدًا رضيعًا فرحًا هكذا بقدومه إلي الحياة. بعدها بثلاثة أيام. كان وزني قد صار أقل من كيلوجرام، وحالتي أصبحت مُرعبة. ولم تستطع أمي إرضاعي، لإصابتها بخرّاج في الثدي، ورفضتُ بشكل قاطع الحليب الصناعي من ماركة "جيجوز". كذلك لم ينجح معي حليب البقرة أو الأتان أيضًا. واعتقدوا أني لن أكمل يومًا في الحياة، حتي تعطفتُ ورضعتُ حليبَ عنزةٍ، عثروا عليها بالمصادفة تقريبًا، بالقرب من مستشفي الولادة. لهذا الحيوان ذي الشخصية القذرة أدينُ بحياتي. كانت درجة الحرارة في تيزي أوزو تبلغ أربعين درجة في الظل يوم مولدي. "لم أعان أبدًا مثل هذا اليوم" تحكي أمي متطوّعةً. وتُحب أن تتذكر أنني كنت ضخمًا جدًا في آخر أيام حملها، حتي إنها كانت تضع طبقها باتزان علي بطنها بينما تتناول الوجبات. وكما حدث مع ابنها الأول، لم تشكّ أمي أبدًا في أنها تنتظر ولدًا. "لست بقادرة علي إنجاب الإناث" تقول بفخر. وهو ما لم يكن يمنعها من تصفيف شعري بمكواتها عندما تأخذها الرغبة في ذلك. وكانت تقول أيضًا إنها لا تريد أبدًا طفلًا ثالثًا، مقتنعة بأنه سيكون مشوَّهًا أو منغوليًا. ومرة سمعتها تقول مستنكرةً: "إنني أرنبة حقيقية"، لتعبر بهذه الصيغة المجازية عن موهبتها في الوقوع حبلي ما إن تمارس الحب، وأحيانًا حتي في أثناء دورتها الشهرية. هي لا تعلم حتي كم مرة أجهضت. تقريبًا خمس عشرة مرة، تعترف دون ضيق. كان أبي يساعدها أحيانًا في ذلك. ومعًا جربا تقنيات متعددة. كان ذلك يتم في الظهيرة، عندما نكون أنا وأخي في المدرسة. وفي يوم اضطرت فيه لإجراء العملية بمفردها، سرَّبت أمي ليترات من محلول "الميركروكروم" داخل فرجها لتقتل الجنين. وتم انقاذها من علي حافة الموت بعد نزيف داخلي. وضع ميلادي حدًا للمرحلة الجزائرية لأبويَّ. بمسئوليته عن طفل ثان، تسرح أبي فعليًا من التزاماته العسكرية، بالنسبة له كانت الحرب قد انتهت دون أن يطلق فيها طلقةً واحدة. وهنا كانت إحدي تبعات ظهوري علي سطح الأرض. والداي كان بإمكانهما أن يبتهجا بمواجهتهما للحدث السعيد في قلب ما كانت تعرف ب"الأحداث"، والتي بالتأكيد لم تكن سعيدة بهذا القدر. ومع ذلك، كان عليهم التخلي عن ذلك التقارب الفرنسي الجزائري الذي كرّساه في سرير لذّاتهما. وفي الواقع، فإن أمي رفضت البقاء في إقليم القبائل، علي الرغم من أن عشيقها استحثّها علي ذلك، وتفرّق الثالوث ليختفي من الوجود، إلا من عيني أمي عندما تنظر لي. لفترة طويلة امتنعت أمي عن الإفصاح عن اسم طبيب مستشفي تيزي أوزو. وعندما أفصحت عنه أخيرًا، سجّلته في دفتر ولم أعد ثانيةً للتفكير فيه. ولم أسع أبدًا للتعرف إليه. ولا هو سعي. من ملابسات مولدي تبقّي لديّ الانطباع بكوني طفل حرب، لا يفصح عن اسمه الحقيقي بين أشياء أخري. كذلك وعيي بالتاريخ غير متطابق مع الرواية الرسمية، أقل بساطة ومرضًا من تلك التي يضطلع بها المخوّلون بكتابته. وفي نفس الوقت عندما حان وقت "الحرّية الجنسية" المزعومة، كنت أنا ثمرتها قبل الأوان. لم يكن أبواي بحاجة لأي شعارات ليستمتعا بها بلا قيود. بوكاشيو وأريستوفان كانا دائما بالنسبة لي قريبين من الحقيقة، كذلك دي ساد وجورج باتاي، وبالذات ذلك الأخير لأنه يحمل في اسمه نفس الأحرف التي يبدأ بها اسمي. مكتوب في البطاقة العائلية لوالديَّ أني من مواليد 22 يونيو 1960. وفي المدرسة تعلمت مبكرًا أنه في 22 يونيو عام 1633 تمت تبرئة جاليليو أمام محكمة التفتيش الرومانية، وفي 22 يونيو 1940 وقع بيتان اتفاقية الهدنة مع هتلر في عربة قطار. ولأسلّي نفسي، كانت لدي عادة أن أكتب تاريخ ميلادي بطريقة جبرية، متوازنة تمامًا، متتالية الأرقام 22 06 60 كانت تبدو لي وكأنها تخفي متناظرة حسابية غامضة مميّزة لي هذه المرة عن الجموع. كانت سنة 1960، وفقا للتقويم الجريجوي سنةً كبيسةً، يوم 22 يونيو يوافق إذن مطلع الصيف. إنني أنا من يطيل النهارات. هكذا كنت أقول متبجّحًا لفترة طويلة. وعندما صارت حياتي أكثر ظلامًا فضّلت أن أقول إنني أنا من يقصّر الليالي. النساء الثلاث اللاتي عشت معهن حتي الآن، لديهن علي الأقل نقطتان مشتركتان. كلهن كانت لهن علاقات صراعية مع الأب، وكلهن وُلدن في الفترة بين منتصف سبتمبر ومنتصف أكتوبر. أي قبل يونيو بتسعة أشهر. بيني وبينهن كان هناك دائمًا اجتياز الشتاء والربيع. تلك التي يقترب تاريخ ميلادها أكثر من تاريخ ميلادي، ولدت في 18 سبتمبر. بعد أربعة أيام كنت سأعتقد أني في حضرة سر تناسخ روحي، كما يقولون. ولدت هي في عام 1968، كان عندي إذن ثمانيةأعوام، وبعدها بتسعة أشهر كنت سأبلغ التاسعة. وفي نفس اللحظة اختفت إلي الأبد ماري بلانش، التي كانت بالنسبة لي الأولي بينهن جميعًا. أحيانًا ما كنت أفكر أن هذين الحدثين متصلان، وأن تلك التي جاءت إلي الدنيا شهدت علي اختفاء الأخري، للحفاظ علي توازن ما، لو لم يكن في الكون، فعلي الأقل في حياتي. كان عمري ثلاثة أسابيع عندما نقلتنا طائرة "بريجيه" بمحرّكين، أنا وأبويّ، من الجزائر العاصمة لمدينة ليون، حيث كان من المنتظر أن يكون في استقبالنا أبي في العماد. واجهت رحلتنا الجوية عاصفةً لا يزال والداي يتذكّرانها حتي الآن. كنت أبكي طوال الرحلة. وكانت كل أجزاء الطائرة تقرقع، إذ تتلاعب بها الرياح والأمطار. ووجد قائد الطائرة أنه من الضروري أن يأتي بنفسه ليُطمئن الركاب. وانحني علي المهد المحمول الذي يحتويني، راغبًا أن يهدئني، فتضاعف بكائي. هذه الرحلة المتقلّبة لا بدّ وأنها قد تركت آثارها. فطوال طفولتي كان يحضرني نفس الكابوس عن وجه عابس يقترب من سريري بسرعات مختلفة، ثم يهبط فجأة نحوي، بسرعة بطيئة. كما أنني لم أغير أبدًا حبًا بحب، أو أتغيّر في حياتي أو أتخذ موقفًا جديدًا دون أن يصحب ذلك عاصفة. والفكرة هي أن التغيّر أصبح مقرونًا لدي بالفوضي، لدرجة أن الاضطراب استطاع أن يقنعني أحيانًا بفكرة التغيير نفسها. أتخيل أحيانًا أنه لو كانت السماء رائقة بين الجزائر العاصمة وليون، لاستطعت أن أجتاز بعض الأحداث بنعومة، وربما الحياة نفسها. كان أبي في العماد يقطن عند مخرج مدينة ليون في قلعة "شوفالييه دو لا بار"، الذي كان مشهورًا بأنه آخر من أعدمه النظام القديم، بعد أن تم تجريسه في موكب ديني. تحيط بالقلعة حديقة كبيرة. نوع من عزبة صغيرة من القرن الثامن عشر، قامت بلدية "فولكس او فيلين" بقصقصتها عام 1974 تاركة بناية خضراء، ذات قبح صار معممًا. تضم الآن دار سينما تعاونية. الحقول التي كانت تحيط بالقلعة عام 1961 تحوّلت اليوم لبارات وتجمّعات علي مساحة كيلومترات لمساكن شعبية تثير في ساكنيها الضجر حد الانفجار. سكن أبواي في جناح، بينما كان أبي في العماد وزوجته الشابة يسكنان جناحًا آخر. هذه الحياة المُحبّة الخفيفة استمرت لعام. وفي عيد ميلاد زوجة أبي في العماد، اشتري لها سيارة صغيرة كانت تحلم بها. ولدي خروجها الأول بها اصطدمت بشجرة جميز، وماتت علي الفور. لم يستوعب أبي في العماد أبدًا أنه قدّم الموت لزوجته هدية، وصار مرتعبًا من كل ما يحيط به. وكان علي أبوي أن يغادرا المكان. ولم يعودا لرؤية من كان المفروض أن يضطلع بتعليمي الديني أبدًا. وفي ليون سكن أبواي في حي "لا كروا روس". ولم يتم ذلك بسهولة. لم يكن لديهما أي نقود، إذ قطع أبي علاقته مع عائلته، بعد أن هدّد أباه بالزواج من "زنجيّة". بينما لا تستطيع أمي الاعتماد علي والديها بالرواتب التي يتقاضيانها كعمّال في مصانع "ميشلان"، والتي تكفي بالكاد احتياجاتهما. وهكذا، بينما كان أبي يبحث عن عمل، كانت أمي تدور علي الفنادق بحثًا عن غرفة لمبيت الليل، وكان لا بدّ لهما أن يبدّلا الفندق كل يوم، إذ أن وجودي لم يكن مرحّبًا به في مثل تلك المؤسسات.ولحسن الحظ فقد كنت رضيعًا حكيمًا للغاية، وفي أغلب الأحيان كانت أمي تضطر لإخفاء وجودي، بتهريبي داخل حقيبة،بينما هي تمرّ أمام الموظف. وكثيرًا ما حكي لي أبواي أنهما إذ وجدا نفسيهما عاجزين تمامًا، اضطرا للاستغناء عن الطعام لثلاثة أيام، للاحتفاظ بما تبقّي لهما من نقود، لمصاريف رضعتي الصناعية. بحثًا عن الموارد، انتهي أبي بأن اتصل بوالده. وقد وعد الأخير بمساعدته، بشرط أن يتخلّي عن "موسيقي الزنوج".أخفي أبي الدرامز واستقررنا في بوا-كولومب، حيث اكتشفت أن لي شقيقًا يكبرني بعامين ونصف، واكتشف هو أن له شقيقًا أصغر وأبوين. في عيد ميلاده الخامس والأربعين، أهديت لأبي درامز صغيرًا، لعب عليه في الأمسية، ثم وضعه في الصباح التالي في المخزن، ولم يعد للمسه أبدًا. في أثناء بعض الأمسيات المبهجة المنتعشة، كان يحدث أن يسمع أبي شيئا من الجاز في الراديو، فكان يفتح لفافة سباجيتي ويقسم محتوياتها قسمين، ويستخدمهما كعصوين للعزف علي الطاولة والأطباق والأكواب، وبينما يعزف كانت السباجيتي تتكسر وتتطاير في كل الاتجاهات، وعند نهاية المقطوعة لم يكن يتبقي له شيء في يديه. وبعدها لأيام كنا نجد قطع السباجيتي متناثرة علي الموكيت. كان رواق بوا-كولومب بيتًا كبيرًا تستحيل تدفئته في الشتاء. وفي الصباح كان يتوجّب الدق بالأيدي والأرجل علي السلم الصاعد إلي المطبخ، لإزاحة الفئران. كانت هناك مربّية تُشرف علينا، أنا وأخي. اسمها مدام جيومو. أفصح أخي بعد سنوات أن ذوقه في حب الرجال ربما يرجع لذلك الاسم: كان معشوقه الأول يدعي جي. لا أحتفظ بأي ذكريات لمدام جيومو، بخلاف تلك الذكري الباهتة للصفعة القوية التي ضربتني إياها، لدرجة أنها أسقطتني من فوق كرسي الأطفال، وانشرخت جبهتي لنصفين. وفسّرت مدام جيومو ذلك لأبوي، بأنني اصطدمت وحدي بزاوية الثلاجة. وتبقّت لدي من هذه الكذبة ندبةٌ، تبدو وكأنها من البارحة. كرفض من رأسي أن يحاك علي الشرور التي يحتويها. في كل الصور التي تظهرني طفلًا، تختفي تلك الندبة خلف شعري المسدل الذي يخبّئ جبهتي، عندما تركت والدي، أرجعت شعري إلي الخلف وبدت الندبة في وضح النهار طازجةً ووردية وغير ملتئمة. ومن غير النادر أن بعض الناس، وعلي الرغم من أنهم يعرفونني منذ فترة طويلة، يندهشون من ذلك الجرح الذي أحمله علي جبهتي. لم يلحظوه مسبقًا، ويظنونه حديثًا. أفسّر لهم ذلك حينها أنها أمي قد عضّتني. انتقلنا للعيش في "أوبرفيير". وذات مساء عادت أمي من العمل وتمدّدت لتستريح هنيهة. وكان أبي قد ذهب ليأتي بنا أنا وشقيقي من عند المربية. وفجأة سمعتني أناديها "ماما" ثلاث مرات. كان صوتي يصلها نقيًا لدرجة أنها اعتقدت، وهي غافية، أننا قد عدنا دون أن تشعر، وأنني أناديها من علي حافة سريرها. ولكن الوقت كان ليلًا والشقة خالية. وفي هذه اللحظة تحديدًا دق جرس التليفون ليعلن لها أبي أنني قد دخلت المستشفي لحالة طارئة. كان وجهي قد تشوّه بالبثور، ولا أستطيع التنفس وأشعر باختناق خطير. وقد اعتقد الأطباء إصابتي بالدفتيريا التي كانت مرضًا قاتلًا في ذلك الوقت. لتجنّب أي نوع من العدوي، تم وضعي في حَجْر صحّي بغرفة منعزلة. وكان والداي لا يستطيعان الاقتراب مني، ومن خلف لوح زجاج، كانا يرسلان لي قبلات لم تصل أبدًا. فقط الممرضون بأقنعتهم وقفازاتهم كان لهم حق الدخول عندي. وكانت أمي تبكي لرؤيتي في هذه الحالة. وللمرة الأولي كان حبها عاجزًا. هذه الحالة من العزلة التامة استمرّت سبعة أيام بسبع ليال، حيث واصلتُ الهزال داخل ذلك التابوت الزجاجي، حتي إنهم توقّعوا موتي. كان عندي بالكاد أربع سنوات. كشفت التحاليل في النهاية أني مصاب بنوع من البكتيريا العنقودية. وتكفّل البنسلين، الذي كان دواءً حديثًا في السوق أيامها، بالقضاء علي مرضي. وفقدت في هذه الأثناء حاسة الشم، وهو ما لم يلحظه أحد. أنا نفسي أخفيت ذلك الأمر طويلًا خلف استراتيجيات استطعت تطويرها. أُعلن مثلًا بحماس أن طعم الليمون زائد في السلاطة، بعد أن تكون قد فاجأتني إحدي بذوره في الصلصة. لو كنت ذكيًا فذلك لأني استطعت أن أخدع عالمي أني قد صرت كذلك: ألم يكن عليّ أن أدرس المظاهر لأعطيهم معني كنت قد فقدته. وهكذا عرفت مبكرًا أن المحتمل لا يختلط أبدًا بالحقيقة، ولا ماهو حقيقي بتمثيله، وهو ما أبعدني سريعًا عن عصري. إذن فقد أصبحت شديد الانعزالية في فترة مبكّرة،ليس فقط لأن عليّ أن أخفي عجزي عن الشم، ولكن لأنه لا تواتيني أي رغبة في فعل ذلك وسط الناس، إذ كان بإمكاني خداعهم بمنتهي السهولة. في حدود سن العاشرة، جرؤت للمرة الأولي علي الإفصاح عن عاهتي. "لا تقل سخافات" قالت لي أمي. فلم أعد للكلام في ذلك، وأمعنت في تطوير ملكاتي الذهنية. في المدرسة الابتدائية، حصلتُ علي أعلي الدرجات في التعبير، إذ حكيت عن سوق مراكش، بألوانها المدغدغة وروائحها المُسكِرة. وقرأت المعلّمة موضوعي أمام كل الناس، بل حتي إنها مرّرته علي الفصول الأخري. كان هذا أول نجاح لي في العالم. وقد جعلني ذلك أفكر في الأدب وفي الدجل: فأنا لم أذهب أبدًا إلي مراكش ولا أملك حاسة شم. "العنقوديات الذهبية"، لطالما فتنني هذا الاسم. لم أكن فقط فخورًا بأني مرضت بذلك المرض الذي يثبت صعوبة بالغة في إملاء حروفه، بل كنت أتلذّذ بمغامرةالجنوح اللفظي، بعيدًا عن معجمي اليومي. كان ذلك كالتلفّظ بكلمة بذيئة بكامل الحصانة. أو كالتكلّم بلغة محظورة. وفي أحد القواميس اكتشفت أن ذلك المرض الذي كدت أموت به، كان يُسمّي أحيانًا ب"داء الملوك". استنتجتُ أيضًا أن الموت كان استثنائيًا وغامضًا لمّا كان اسم المرض طويلًا ومعقّدًا. لم أكن لأتراجع عن هذا. كل مرض يقل اسمه عن خمسة عشر حرفًا منذ تلك اللحظة لامعني له. وعندما اتضح أن أبي مصاب بالسرطان، لم ينتبني القلق بشأنه، إذ لم أتخيل أن كلمة من خمسة حروف يمكن أن تقضي عليه، بينما كان ذكالجميع- قلقًا، علي الرغم من ذلك، ففكّرت أني عديم الإحساس. وفي المقابل، صدمتُ عندما أدخلوه المستشفي، بسبب التهاب حاد في الغشاء البريتوني: وفجأة، بدا لي موته قريبًا بشكل رهيب، لدرجة أني شعرت بالتوعّك في الغرفة التي كان يرقد فيها، مع ذلك فقد نجا أبي منها، وعلي حافة سريره، كانت أمي تمزح. وطلب هو ألا نضحكه، حيث كانوا قد خاطوا له بطنه للتو، وأقل تقلّص سيصيبه بمضاعفات. لقد عاني أبي كثيرًا، وفي صمت. كان "العنقوديات الذهبية" هو المرض الوحيد الذي أدخلني المستشفي في طفولتي. فالتهاب اللوزتين، والناميات الخبيثة، والتهاب الزائدة الدودية، كلها نجوت منها. وما رفضته دوما هو أن يختنوني. علي المائدة كان يحلو لأمي أن تحكي أن الحكيمات في مستشفي تيزي أوزو، بينما كنّ يغسلنني من سوائل الولادة، قد سألنها بصوت ماجن فيما يبدو "هل تريدين أن نقطع له؟" وإذ تقول هذا، تنفجر أمي في الضحك، وتردّدها أكثر من مرة، كما لو كانت تغنّي "هل تريدين أن نقطع له؟" وهو ما كان يجعلها تتلوّي أكثر، ومعها الضيوف. لم يهتم أحد بأن يشرح لي أن الأمر كان متعلّقًا بختاني. وهو ما لم يكن ليغيّر شيئًا من الأمر إذ إن أمي تضحك أصلًا من سوء التفاهم. ولكن أنا كنت أرتعد لسنوات من فكرة أنهم يقرّرون جنس الأطفال بعد مولدهم، وأنني أصبحت ولدًا لا بنتًا وفقًا لإرادة أمي فقط. ماذا لو كانت قالت نعم؟ ومنذ إصابتي بالعنقوديات الذهبية، لم أسقط مريضًا أبدًا، وبدت حياتي وكأنها تسير منذ نحو أربعين عامًا في حالة توافق مع بنيتي الجسدية، أو العكس صحيح، وذلك علي الرغم من بعض الإفراط، أو لهذا السبب نفسه. لم أعان أبدًا من الإمساك ولا من آلام الصداع. ولا أسمّيهما أمراضًا تلكما المرتان الوحيدتان اللتان اضطررت فيهما لدخول المستشفي: الأولي بسبب كسر مضاعف في الفك بعد الاعتداء عليّ في ردهات المترو، والثانية بسبب قطع تام في وتر الكعب في أثناء مباراة في تنس الريشة بينما تقترب ولادة ابنتي. والحقيقة أني لا أحتفظ بأي ذكريات عن العنقوديات الذهبية. أو بالأحري لا أملك أي ذكريات غير تلك صنعها أبواي، وهما يتكلّمان عن ذلك الحدث الأكبر في طفولتي كأكبر المخاوف التي تعرّضا لها في حياتهما. لم تتنوّع روايتهما أبدًا. فلمعرفتهما أن ذلك المرض يصيبنا نتيجة شرب الماء الآسن وأني لا بدَّ قد أصبت به نتيجة لَعْقي لزجاج نافذة القطار الذي كان علينا ركوبه مساء كل أحد، للعودة من بيت جديّ. "كنت تضع كل شيء في فمك" تؤكّد أمي. بعد نحو خمس وعشرين سنة قابلت فتاةً شابة في قطار كان يقلّني من برلين، كانت نائمةً مستندةً علي شبّاك العربة، وعندما مررت في الطرقة، فتحت عينيها وبدت وكأن صورتي قد اختلطت بحلمها: وفي اللحظة التالية كانت ورائي متعلّقةً بكل حركة من حركاتي، وأحبتني لسبع سنوات تالية حبًا عنيفًا أمسك بتلابيبي. كانت تُدعي لورنس. ربما من الخطأ أن نعتبر "الماء الآسن" اسمًا. وكانت تعاني أيضًا من مرض جلدي. أنفجر في الضحك، عندما أتبيّن أن هذا اللقاء قد أعاد تركيب ما قد حكاه لي أبواي عن كيفية التقاطي عدوي العنقوديات الذهبية في أدق تفاصيله.أكفّ عن اليأس من حب كان يبدو لي حتي لحظتها قاهرًا وكارثيًا. فصدمة الغرام التي شكّلها لقاؤنا كانت صدمة سامة. ألم أتوقع ذلك من قبل؟ بعد لقائنا بقليل، قالت لي لورنس "أنت تعجبني" وبما رددت وأنا أظن نفسي أتخابث: "عن أي جرح تتكلمين حضرتك؟ فقد حافظت علي مخاطبتها بصيغة الاحترام فترة طويلة. ولم تخب توقعاتي. فقد توالت سبع سنوات عاصفات، أسوأ من سنوات السيست مع سيليمان، أو للملذات الوحشية التي لا تنتمي إلا لعالم الأمراض، المظاهر الأخيرة للحياة عندما لا يتبقي لها خيار آخر. انتهت فترة الحضانة لعلاقتنا سريعًا. حيث تدهور كل شيء بعد بضعة أشهر رائعة محمومة. كان لديها نوع من العدائية تجاهي، متواصل في البداية ولكن في النهاية انتهي بأن استسلمت لذلك الشعور ليلتهمها. كانت تخالفني بخصوص أي شيء، ولم نكن نتفق علي أي شيء، سوي في السرير. في كل لحظة كانت تبتزّ مشاعري، لكنها لم تكن تحبّني أبدًا فوق ذلك إلا عندما أكون غائبًا، كان ذلك كما لو كان حبها لي يريد أن يستغني عني، وكنا كالليل والنهار في إنهاك من اختلافهما المتواتر. في بداية الصيف أعلنت لها أنها ليست فتاة بالنسبة لي. أشياء كثيرة كان تصدمنا الواحد في الآخر، وما يلي ذلك لا يمكن أن يكون سوي كارثة، ولم يكن لديها أيضًا سحر عدم التوقع بتصرفاتها. كانت لورنس ترفض الاستماع إليَّ. كنا جالسين علي سلالم إحدي الكنائس. وأرادت أن نتزوج. وقد طردتها في أكثر من مناسبة، لتعود في كل مرة، وكنت أستسلم دائمًا. كنت أمقت ضعف الشخصية الذي أصابني حيالها. حتي الليالي التي قضيتها في أسرّة أخري كانت تقودني إليها. لم يكن أحد قادرًا علي المتعة مثلها. كان يكفي أن تلمس نهديها حتي يأخذ جسدها كله في الارتعاش. عيناها شديدتا الزرقة كانتا تجنحان نحو الأسود البحري ولا تثبتان علي شيء، وكنت أشعر أنني مشفوط داخل عدم يخبرني بأني لا شيء، ولا حتي تراب، ولا ذرة. لأحاول العودة للوجود كنت أقذف، ثم أنتصب، في إثارة مستمرة. معها كان الحب يعبّر عن نفسه كتراكم ضخم للذات، والذي كان يحيلني، كما لاحظت، إلي كائن هزيل مائع. كل يوم كانت لورنس تهاتفني لتخبرني أن أعتني بنفسي، وفي فمها نبرة حنان تدوّي كتهديد. كما كان لها طريقة لتقول لي "أحبك"، تكشف عن عشيق آخر، علاقة أخري جديدة، لم تكن غيرةً، فأنا لم أكن أطلب منها التفاني في الإخلاص، ولا أن تُمعن في إذلالي بذلك الشكل المفضوح. عدد قليل من أصدقائي كانوا يرفضون مبادراتها. ودون أن تكفّ عن ترداد أنها تحبّني، كان سلوكها يدوس بدقة علي كل ما كنت أعتبره قيمًا، ورأيتني أرتكب الخيانة بحق نفسي باحتمالي لما لا يُحتمل. "قلقك من الموت يغتالني"، قلت لها مصرًّا علي إفهامها. أعلنتْ بوضوح وبقوة أنّها تحب كل الرجال، كتلك التي كنت أعرفها قبلها عندما اعترفت بالنقيض، وكان عليَّ أن أجابه نفس النفي. نفس الخوف. كانت تتصرّف كأنّها تريد أن تأخذ مكاني، ورأيتها تحاول أن تصنع مني امرأتها، وفقًا للفكرة المعروفة التي تقول إن الرجل لا بدَّ وأن يتصرّف كوغد. وفي يوم ظنّت أنه سينمو لها قضيبٌ، كان الأمر عبارة عن خُرّاج له شكل قضيبي بطريقة مذهلة، نصحتها أن تذهب لتري الطبيب. "أنت لا تحتمل أبدا أن يحدث لي شيء طيب" ردت وهي تغلق فخذيها. واستمرت في التردد علي الاختصاصي لفترة طويلة. فكرة أن أقاومها كانت تجعلها تجنّ. كانت تعتقد أني أتبع تكتيكًا معينًا. أو أني أعاني من مشكلة نفسية لا بدَّ أن أعالجها. وكان لديها حلول لحالتي. "لابدَّ أن تكفّ عن رفض الحياة" كانت تقول لي. وأرد عليها "لا تعتبري نفسك الحياة. أنا لا أرفض سوي الحياة التي تقدّمينها. وهو ليس خطئي فالأمر يكمن هنا" وهكذا علي التوالي، لمدة سبع سنوات. ما كانت تفعله باللغة كان أكثر شيء يخنقني. كان لديها كلمات تملأ الفم وأخري فارغة، وأخري كونية تقذفها في الهواء دون تحسّب لأين ستقع. لا شيء مما كانت تقوله كان يلزمها. كان بإمكانها أن تقول ما يتناقض مع ما تفكّر به، وتتصرف بنفس الطريقة. لقد كان ذلك مبدًأ. الاستمتاع كان يقوم لديها مقام التفكير. كانت ترغب في الانتفاع من كل شيء. الانتفاع كان كلمتها. يجب أن ننتفع ولكن أن نحب أن نعيش، أن نكون، لم تكن نوعا من الانتفاع بالنسبة لي. كان الأمر يتعلق بأفعال مختلفة. العالم لم يكن كعكةً يجب التهامها قبل أن يفوت الأوان. أي عالم؟ أي كعكة؟ علي الرغم من نهديها الصغيرين وحساسية بشرتها المفرطة، لم أكن أستطيع تحمّل تركيب جملها. عندما كانت تتكلم تكون ملايين الناس، وكان ذلك كثيرًا من البشر بالنسبة لي. كل يوم كانت تركل التليفزيون الذي كنت أنتهي بمشاهدته كسكران، كي لا أري أو أسمع شيئًا آخر. لم أكن أريد أن ينتهي بي الحال كأونراث. العقاب الذي كانت تبحث عنه كان يبدو لي غريبًا. الصفعة القوية التي ضربتها بها مرةً لم تجلب لي أي لذة. لم يكن مَثَلي الأعلي أن أكون قوادًا أو جيجولو. وعلي أنقاض مشاعري العائدة تجاهي، لم أعد أهتم إلا بتكوين أجساد مضادة لها. وهكذا كان بقائي علي قيد الحياة، فيما أعتقد، كان عليّ أن أقاوم أربع سنوات العدوي التي أصابتني من الداخل كي لا أموت. تعلّمت كراهية نفسي، ثم الاشمئزاز منها. وذهبت حتي التلصص علي تليفونها كي أتنصت علي محادثاتها بأمل اكتشاف ما فاتني من تفاصيل في علاقتنا. وقد بلغت حد التقيؤ في الحمام عند سماعها تتكلّم عني. كانت تضحك بشكل رائع. وبعد إنهائها للمكالمات كل مرة تقريبًا كانت تجيء لتحييني في مكتبي الواقع في نفس الطابق، وكما لو كان بالحركة البطيئة كنت أراها تتقدّم مبتسمة نحوي وتحيط عنقي بذراعيها، وتقول لي إنها تحبني. وعرفت حينئذٍ ما الذي تعنيه الشفقة علي الذات. لم ينج عشاقها من الرجال والنساء من تلك المحادثات، وقد قدّرت الطريقة التي تروّج بها لصعودها الاجتماعي: كانت تقدّم نفسها لكل شخص، وتجعله يعتقد أنه الوحيد، كان ذلك بتملّقهم جميعًا بنفس الدرجة. الشكل الذي كان يتخذه بؤسها كان يؤثر بي، لو لم تكن تضعني في منظارها الموازي. كنت سأضحك من دروس الأخلاق التي تعطيها، لو لم تكن تصدّقها هي نفسها. كان ذلك فوق طاقتي. كنت متدهورًا لدرجة أني لا أجرؤ علي الثقة في أي شخص. كانت حياتي تشبه غرفة معزولة لم أعد أستطيع الخروج منها، وحيث أُحتَضر بلا نهاية. كنت أشعر بالعار من نفسي. أتهم نفسي بعدم القدرة علي الحب أو علي ترك نفسي كي تُحَب. كنت أرتعد لدي رؤيتها تقترب. مشاركتها نفس الهواء كانت تخنقني. كنت آوي إذن لثورات الطفح الجلدي أو إلي شعري خلال المعركة، وهي الأماكن الوحيدة التي كنت أجد فيها الملجأ. ولكني لم أكف عن الرجوع إليها كل ليلة. لكني كففت عن الاعتقاد في وجود فتاة صغيرة يرتعش ذراعاها مطبقة قبضتها بيأس خلف ظهرها. وتيقنت أن العنقوديات الذهبية لا يمكن أن نعقد معه معاهدة صلح. قضت واحدة اسمها انستازي-لويز وهو ما يظل بالنسبة لي الاسم المثير للبنسلين علي آلامي. لقد أخذت بيدي في منتزه شاتو، وكان مرحها القادم من جزيرة ترينداد بمثابة ترياق للألم الفرنسي الذي حطّمني. كانت لي كنبتة المولي التي قيل إنها حمت عوليس في الأوديسا من القوة الجنسية لسيرس، الساحرة التي حوّلت البحارة الراسين علي جزيرتها إلي خنازير. جويس الذي تذكر هذه القصة لاحقًا، جعل من مولي شخصية في روايته "عوليس"، في حالتي لم تكن روايةً. ثروتي العريضة كانت دائما لها أسماء بحرف الياء: ليلي كيم، فاليري، أوريلي، ميلاني كارولين، وعدد من الناتالي وبعض الكاترينات، بيرجيت، وكورين... معهن كنت أشعر دائمًا أني منتعش وأدين لهن بعدم إصابتي باليأس من الحياة. ومن جهة أخري النساء الثلاث اللائي عشت معهن هن جاييل وفابيان ولورانس. بالنسبة لي فإن الحب هو مسألة حروف متحركة. وعادت انستازي إلي بلادها. فكرت قليلًا أن ألحق بها، حتي أعلنت لي لورانس أنها توقفت عن أخذ الحبوب. وبعيدًا عن أنّها فاجأتني، فقد بدا لي قرارها أكيدًا. لقد نجّاني البنسلين ولكن أليس من المنطقي أن يكون مبرمجًا علي إخراجي من الغرفة المعزولة؟ فكرت أنها مجرد أيام سعيدة أعلنت عن نفسها وتخليت عن انستازي. أصبحت لورانس حبلي. وقد تكون المرة الأولي التي أشعر بالاتفاق معها كأن حجابًا قد تمزق فأعادها لي. وكففت فجأة عن أن أكون رجلًا في الرابعة من عمره. وأحببتها في النهاية دون تحفظات. وعندما ولدت الطفلة الصغيرة كانت فرحة استثنائية. كانت لها عيناي وجبهتي. بعدها بتسعة أشهر أعلنت لي لورانس انفصالنا. كان لا بدَّ لها أن تصير أُمًّا كي تقرر ذلك "أستطيع أن أتركك بعد أن صنعنا طفلًا، أعرف أنني لن أفقدك إلي الأبد" هكذا قالت لي عبر الهاتف. وقد حفرت هذه العبارة أنفاقًا بداخلي كحيوان خُلد تم حبسه داخل جسدي. "لكنك تفقدينني منذ البداية" صرخت كالمجنون في السماعة "عن أي أب تتكلم أنت؟" ردت هي بهدوء. كانت العقد قد عُقدت. ظننت ساعتها أنه لن يبقي بي شيء أصيل بعدها. لقد كان الأمر هكذا، الإصابة بالعنقوديات الذهبية. والمدهش ان لورانس لعبت الدور الذي رسمه لها مرضي (ودون شك لعبتُ أنا في أحلامها دور الشخصية المقدرة لي). لقد اخترتها بشكل كامل، ودونها لم أكن لأستطيع تجاوز ظلامي. لقد أعدّت لورانس كل شيء كي لا تخرج أبدًا من حياتي لدرجة إنجاب طفل، أو أن العنقوديات الذهبية سلالة مرضية لا شفاء منها: تعشش في ثنايا الجسد، وحيث الميكروبات تكمن فقط بعد تعرضها للمسار المدمر للمضادات الحيوية، تنتظر استيقاظها بفضل أي ظروف لا نعلمها. لو كان أبواي قد حكيا لي أني سقطت مريضًا بطريقة أخري، وأنا أتدحرج علي الأعشاب علي سبيل المثال، أو وأنا أبتلع الحصي، فبلا شك كنت سأقع في غرام واحدة أخري، وبالتأكيد ليس في قطار. وهو ما لا يغيّر شيئًا من فكرة أنيكان يجب أن أعيش من جديد ما كنت قد نسيته. من كل الأسباب التي يمكن أن تدّعي تفسير حب بائس، فأنا أفضّل قصة العنقوديات الذهبية. نعتقد أننا نفكّر في كل شيء، بينما نحن ننسي أمراض الطفولة. لزمت لي سنوات عديدة قبل أن أستعيد شهيتي للحياة، وحريتي في التفكير والحركة. كنت قد تجاوزت الأربعين بالكاد. ومنذ عمر العشرين كنت أردّد لنفسي دائمًا أن حياتي لن تبدأ بشكل واقعي إلا حين أبلغ هذا العمر. هذه القناعة حافظت عليّ متماسكًا، وسمحت لي بكل الأحلام. وأيضًا حالت دوني والانتحار، وربما دون موتي صغيرًا. ولم أكن مخطئًا: بتجاوزي للأربعين، جاءني الانطباع أني بدأت أحيا، كما لو كان كل ما سبق هو حياة بين قوسين. متأخرًا جدًا بالتأكيد لاحظت أن الأمر لم يكن يتعلّق بأي أربعينيات، ولكن بتلك التي وضعوني فيها في عمر أربع سنوات، لتلافي كل أشكال العدوي. لقد خرجت منها معافي وانتهت بي الحال أن اقتنعت أن لا حياة بالنسبة لي قبل الأربعين. كانت حدود عالمي هكذا كلمة من أحد عشر حرفًا. وقد تألّمت عندما لاحظت أن حياتي تشكّلت من اللغة. وفكّرت لو كان الحجر الصحي "الكارنتين أو الأربعينية" لطفولتي لها اسم الثلاثينية، لما كنت مضطرًا أن أنتظر حتي الأربعين لكي أدرك ذلك. وعند معرفة أي حاسة سأفقد هذه المرة في المعركة، أعتقد أنها حاسة إدراك الاتجاه، وهو ما أصبح عيبًا لديّ اليوم، لم يكن موجودًا قبل أن أسقط مريضًا بلورانس. إن تحقيقًا يصف كيف تأرجح القطب الشمالي المغناطيسي علي محوره، ليستقر في منطقة الأردين لم يُثر عجبي في وقتها، ولم أدرك للحظة أن الأمر يتعلّق بكذبة أبريل. سقطت الصغيرة مريضة في صبيحة اليوم التالي لمغادرة لورانس. وبعدها بعام أجريت لها جراحة في الحالب الذي كان قد نما لديها بإفراط مما كان يهدد بتدمير كليتيها. وفي نفس الفترة كانت تعاني كل شهر بمستشفي "نيكر" من الحقن التي كانت تخترق أوردة ذراعيها أو قدميها أو جبهتها الدقيقة جدًا، حتي يؤخذ منها ملليلترات من دمها بغرض التحليل. كانت تبكي بينما أمسك يديها وأكلّمها بلا انقطاع. وفي إحدي المرات أرادت ممرضة غير ماهرة ومرهقة أن تقطع لها الشريان السباتي، بينما هي تعجل من العملية. وكان لابدَّ أن أتعصّب لتحجم عن ذلك. عن هذه المرحلة من حياتها، لا تعرف الطفلة إلا ما قلناه لها أنا وأمها. ومن وقت لآخر تبدي فضولًا ولا بدَّ أن نحكي لها عما عاشته ولا تحتفظ منه بأي ذكري، حتي لو كانت ذاكرتها لم تنس شيئًا من خبرة الموت التي عانتها في هذه الواقعة. عندما أفكر فيما يمكن أن يعنيه هذا أرغب في تمزيق الأرض والسماء. لم تستمر الحياة في أوبرفيييه. استجابة لإعلان صغير وجد أبواي نفسيهما سعداء بتغيير شقة الإسكان الشعبي بالضاحية المملّة، إلي شقة من ثلاث غرف في شارع ماربوف بباريس، علي مبعدة خطوتين من الشانزيليزيه. وهكذا بلغت السنوات الخمس في العاصمة التي لم أُضطر لمغادرتها أبدًا. ومن هذه اللحظة فإن ذكرياتي تنتمي لي. أفكّر أحيانًا فيما كان يمكن أن يحدث لو بقينا في أوبرفييه. إعلان صغير عن العقارات ً قرر مصيري أيضًا. ودارت طفولتي في محيط صغير محدود شمالاً بشارع بيير شارون، وفي الجنوب بجادة مونتاني، وفي الغرب جادة جورج الخامس والشانزليزيه في الشرق. كنت أذهب لشراء الخبز من شارع الرينسانس، ومكتب البريد كان بشارع التريموال، ومتجر الألعاب بشارع كليمون مارو، وتقبع مدرستي بشارع روبرت استيان، الذي هو طريق مسدود. وعن طريق نزوة إدارية التقي كل رجال القرن السادس عشر أسفل بيتنا، وكنت أقوم بالصهيل في كل مرة أمرّ بشارع بايار، لم يكن هناك إلا شارع ماربوف الذي يحمل اسمًا مبتذلًا. ومع ذلك هو الوحيد الذي يستحق لوحته، بما أنه استخدم في توجيه المواشي إلي مورد المياه حين كان الشانزيليزيه مجرد حقول بالفعل. قرب نهاية الشارع قام أحد المصارف حيث عاش أرسين لوبين. وفي عام 1995، سبّب انفجار قنبلة سقوط عدّة جرحي بمجرد ما مرّت أمي، التي كانت ذراعاها محمّلتين بالمشتريات، إذ هي عائدة من متاجر بريسونيك بالشانزيليزيه. نسكن شقة من ثلاث غرف بالطابق الخامس، دون مصعد. كنا نصل إليها عن طريق سلم الخدم الكائن بنهاية الفناء. في كل مرة لا بدَّ أن نمرّ أمام الركن الذي تتراكم فيه القمامة. المكان غير مضاء دائمًا وأتخيل وحوشًا تتربص بي في الظل. في أحد المساءات وبينما أنزل بالقمامة مرق من أمامي جرذ سمين من جرذان المجاري. فطوحت أكياس القمامة بشكل عشوائي وهربت. كانت شقتنا مستطيلة. نشغل أنا وشقيقي نفس الغرفة في آخر الطرقة، وكان لها جدار مشترك مع غرفة أبوينا. ننام علي سريرين يعلو أحدهما الآخر، حيث كنت أشغل السرير الأسفل. لمدة طويلة كان أخي يتبوّل في سريره فوق رأسي. الحمام كان يشغل ثلث مساحة غرفتنا، وحيث يحمي بارفان مدخله من النظرات لكنه لا يمنع الأصوات. في كل غرفة هناك نوافذ وأبواب تطل علي الشرفة، والتي تطل بدورها من الطابق الخامس علي فناء البناية. ومن نافذة ببير السلم، تقع بين الطوابق بنحو مترين، بإمكان المرء أن يثب فيقف علي الدرابزين، ثم يقفز فيطال أحد عوارض الشرفة، وبارتكازه علي قوة ذراعيه بالاتكاء علي الحافة، يقفز بعد ذلك داخل الشرفة فيكون في بيتنا. وفي الاتجاه المعاكس، فإن الأمر أكثر تعقيدًا لأنه سيكون عليك أن تتأرجح لجزء من الثانية في الفراغ، قبل أن تحطّ قدمه علي درابزين النافذة، وفي تلك اللحظة يكون مستحيلًا عليك أن تري ما تفعل. عندما أكون محبوسًا يوم الخميس في غرفتي، أو في المراهقة، عندما أخرج في المساء سرًا كنت "أعبر من الشرفة" مرتجفًا من الخوف في الظلام، وفخورًا بتجاوزه. ينظّم أبواي الحفلات في مناسبات كثيرة. وفي حفل تنكّري تحوّلت أمي لأميرة شرقية، بينما أبي يرقص معها في زي الملك فرانسوا الأول. هناك دائمًا أصدقاء في البيت. في إحدي المرات تحدي ماكس أبي أن يتعرف علي من يعزف الدرامز في المقطوعة التي وضعها في جهاز الأسطوانات. ومخبئًا خلف ظهره غلاف الأسطوانة ذات الثلاث وثلاثين لفة التي أحضرها معه. أجلس مرتديًا بذلة أمام سماعات الإستريو الضخمة، تحاول عيناي اختراق الغموض الذي يخرج من السماعات. يحبس الجميع أنفاسهم. يستمر هذا لفترة طويلة. وفجأة يخرج صوت أبي بوضوح: "إنه سام ووديارد علي اليمين وسوني بين علي اليسار". يصفق الأصدقاء. تشعر أمي بالزهو. ماكس يهنئه. وأنا فخور بأبي، وفي نفس الوقت يتسرب داخلي شعور غامض: حيث كنت أنتظر اسمًا واحدًا فقط، كان هناك اثنان. ماكس هو أفضل أصدقاء والديَّ. ضخم جدًا، يرتدي كوفيات من الحرير حول عنقه وبدلات بأناقة لا تخفي. عندما يصل في مكان ما، يكون دائمًا كنجم. وهو عاطل بشكل مستمر. يقدم نفسه لأصحاب العمل المحتملين مرتديا ثيابًا فاخرة، مدخنًا السيجار أحيانًا، متعاملًا معهم باستعلاء. وحدث أن أحد أصحاب العمل قد تم إغواؤه بهذه الهيئة ورغب في الاستفادة منها، وجرؤ علي تشغيله ليبيع بوالص تأمين أو أي شيء كهذا، وينتهي الأمر دائمًا في محكمة العمل. أعشق ماكس لفترة طويلة كنت أتخيل أنه أبي الحقيقي. هو أيضًا ضاجع أمي. الغرام الكبير لماكس تُدعي مونيكا. تشبه لويز بروكس لكنها بحجم أصغر. في حادث سيارة، اخترقت الزجاج الأمامي للسيارة وبقيت مشوهةً. لشهور يذهب ماكس لزيارتها في المستشفي فلا تتعرف عليه. آخر مرة أري فيها ماكس، كان يعيش مع امرأة ضخمة بساق في الجبس وذراعين مشعّرين. ولديهما ابن أسماه ماكس بوريس، تخليدًا لذكري فيان. وذات مساء، سيغلق ماكس غرفته عليه ويطلق رصاصة من بندقية داخل فمه. سيحتفظ أبي بخبر انتحاره لنفسه فترة طويلة. كل الإجازات المدرسية، نقضيها أنا وشقيقي في سان جيرمان أو لي بمنطقة إيفلين، حيث انتقل جدانا للعيش في بيت علي حافة الغابة. كنت كل مرة أجد ديدييه، ابن الحارسين. معًا نتسابق بالدراجات، ونبني أكواخًا، ونصيد الضفادع. ولكن في نهاية ظهر يوم ما، وحين كان يدور بدراجته حول البيت الصغير الذي يسكنه والداه، يأخذ ديدييه في الصراخ ويقفز قفزات في مكانه متبوعًا بألسنة صغيرة من لهب أزرق. يندفع أبوه ويحاول أن يمسك بولده الذي يتلوّي علي الأرض، يعطيه ضربات علي كل جسده، ويجرّه علي الأرض، ويحاول أن ينزع ملابسه. كانت أم ديدييه تتابع المشهد ويداها علي فمها. كل شيء حدث بسرعة شديدة. مات ديدييه ساعة أن نقلوه المستشفي. بينما يمر أمام نافذة المطبخ المفتوحة غلّفه تيار هوائي بتسرّب للغاز، خارج من البوتاجاز، حيث كانت أمه تسخّن وجبة المساء، فتكفّل قميصه المصنوع من النايلون بالباقي، هكذا عرفنا في اليوم التالي. بعدها بقليل رحل زوج الحرس. كل سكان المنطقة ساعدوا في عملية رحيلهم. كانت يدا أبي ديدييه مربوطتين. خلال عدة شهور سأبحث عن كلمة "نايلون" علي البطاقات الملتصقة بملابسي. يوم الخميس، وبعد أن أكون استنشقت زجاجة أمي حد الغثيان، أسكب بعض المذيب علي يدي وأشعلها بعود ثقاب وأهز يدي أمامي وهي في النار، كما لو كنت أؤدي إشارات. وكنت أحرق أيضًا دمي صغيرة علي شكل جنود من البلاستيك في الشرفة، أراقبها وهي تذوب وتنكمش علي نفسها حتي لا يتبقي منها إلا كومة صغيرة متكلسة. لاحقًا سيعرّفني واحد اسمه ديدييه إلي تلك التي سأرغب في إشعالها بمجرد رؤيتها، وقد انتهت باستهلاكي. ذات ليلة، يصطحب والديّ إلي البيت رجلًا وامرأتين سويديتين -شقراء وسمراء- التقيا بهم في بار آسكوت بشارع بطرس الأول، ملك صربيا، حيث اعتادا الذهاب للاستماع للجاز. أستيقظ علي صوت الموسيقي والقهقهات الآتية من الصالون، فأنزلق بالبيجاما إلي الشرفة وأراقبهم من بين خصاص النافذة. أمي تمسك بين يديها بوجه السمراء، وتعبير وجهها مبالغ فيه. أعتقد أن إحداهما تُقبّل الأخري، لكن خصاص النافذة يحجبهما عني في اللحظة الأخيرة، وبلا طائل ألوي عنقي. هذا هو أول مشهد إيروتيكي أراه. لم أستطع أيضًا تمييز ما يفعله الآخرون، وكان يبدو أنهم مستمتعون، أبي يملأ كؤوس النبيذ ويغيّر علي الإستريو أسطوانات الخمس وأربعين لفّة، التي تتكدّس أغلفتها بالجملة علي الموكيت. ينتابني البرد بعد نحو ساعة، ولمّا لم يكن هناك شيء عجيب يحدث أعود للرقاد. ولكن الضجيج والفضول يمنعانني من النوم علي الرغم من الوسادة التي وضعتها علي أذنيّ. أنهض إذن وأجازف بالتحرّك للصالون، بحجة الذهاب إلي المرحاض.عندي أحد عشر عامًا. يسبب ظهوري انتعاشًا للجميع. فيجلسونني علي الأريكة. أمي تقدّم لي الجين مع الليمون وماء التونيك. يسألني الرجل في أي عام دراسي أنا. ويبدو أن إجابتي جلبت له السعادة. وقال أيضًا إني يجب أن أعرف أن لديّ والدين رائعين. ثم ينصرف عني الجميع. يرقص أبي مع الشقراء. تضحك أمي لما يقوله الرجل في أذنها. تنتهي السمراء بأن تغادر. لا أتوقف عن تقديم الجين لنفسي. فجأة تذيع أمي فكرة أن يستحم الجميع. يُستقبل اقتراحها بالفرح، ويأخذ الجميع في خلع ملابسهم. الأول في التعري هو الرجل، ويتدلّي عضوه رخوًا بين فخذيه. وكان مليئًا بالشعر. لم أكن قد رأيت عضو رجل حتي الآن. تهزه أمي بأطراف أصابعها كجرس وتصيح: "لكنه صغير جدًا". وتنفجر في ضحكة عصبية تقطعها شهقات كصهيل الخيل. يلهو الرجل ويقلّد طرزان وهو يضرب علي صدره. آخذًا أمي من يدها ويدخلها نحو الحمام. تصيح أمي: "هيا، الجميع إلي الماء!" وعندها استقرت نظرتها عليّ فجأة، كمن اكتشف وجودي "هيا يا جريجوار، تحت الدش، بلا كلام!" قالت بحماس. يتدخل أبي ليقترح أني ربما لا أكون ملزمًا بذلك. أتجنب أن أنظر إليه. "كما يريد" قالت أمي بمرح بينما تجري في الطُرقة مطوّحة أقدامها في كل الاتجاهات لتتخلص من ثوبها. يختفي أبي والشقراء بدورهم. أجلس بمفردي في الصالون. أرغب في العودة للنوم في سريري، لكن الحمام موجود في غرفتي. أبقي علي الأريكة، أحتسي الشويبس لأن الجين قد نفد. تأتي من الطرقة ضوضاء وضحكات وقرقعات مياه. ثم لم أعد أسمع شيئًا. أنتظرُ. يستمر هذا لفترة طويلة. لا أفعل شيئًا. أبي هو أول واحد يعاود الظهور. يرتدي بذلةً مضطرًا للذهاب إلي العمل، لأنه يشتغل هذا الأحد. وخلفه الشقراء ملتفّة بمنشفة حمام حول وسطها، شعرها في غاية الفوضي. لا أجرؤ علي السؤال أين أمي. أبي يأخذ حافظة أوراقه السوداء من عند المدخل، ويلتحف بمعطف المطر. يقول لي إني يجب أن أذهب لأنام. أطيعه. منكمشًا داخل سريري أنصت لأقل نأمة يمكن أن تأتي عبر الحائط من غرفة أبويّ، حيث أفترض أن أمي هناك مع الرجل الآخر. لكني لا ألاحظ أي صوت، فينتابني القلق. لفترة طويلة مكثت أتنصت مفتوح العينين. عبر خصاص النافذة بدأ الصبح يظهر. فنهضت ورجعت دون جلبة للصالون. الشقراء تنام علي الأريكة. تغط بهدوء. تغطيها منشفة الحمام بشكل غير كامل. قمت بزحزحتها بحذر شديد، حتي انكشف ثدياها الثقيلان، وبطنها المتثني، وعضو أشقر ومشعر أدهشني. لا تتحرك. لم أتخيل جسدها مترهلًا هكذا، مما أصابني بالاضطراب والإحباط. لا أعرف كم من الوقت بقيت أتأمل هذا الجسد الرخو والغريب، كحوت خارج البحر. متمنيًا وخائفًا أن تستيقظ الفتاة . كنت أريد أن أتمدد بجوارها وأن تأخذني بين ذراعيها، تقبلني وتتركني ألمسها. وجرؤت علي لمس ثدييها. لم تتفاعل. وظننت لوهلة أنها تتظاهر بالنوم. وفي النهاية أذهب لسريري وأستسلم للنوم. عندما أستيقظ سيكون البيت هادئًا. الرجل والشقراء قد انصرفا. أمي مصابة بنوبة حساسية قوية أدت إلي انتفاخ وجهها. علي عينيها نظّارة شمس ولا تبرح السرير. وطوال اليوم مزاجها سييء. بعدها بثلاثة أيام تسألني أمي بينما تصبّ في الحوض وعاء من القواقع: "أتمني ألا تكون قد صُدمت تلك الليلة." أشعر بالضيق فأجيبها برخاوة. تطمئن أمي فتسترسل. تبتسم وهي تقول:" كانت الشقراء جميلة، أليس كذلك؟" صوتها مليء بالتواطؤ. أبقي صامتًا. "اذهب وأخبر أباك أن الطعام جاهز" قالت أمي بعدم إلحاح، وهي تضع القواقع علي طاولة المطبخ. أفكر أن الشقراء كانت تتظاهر بالنوم إذن. من كل الرسوم المتحركة التي من المفترض أنها كانت متعة بريئة في طفولتي كانت "الجميلة النائمة" هي أكثرها تأثيرًا في نفسي. في غرفتي كنت القديس جريجوار الذي يصرع الملكة السوداء المتحولة إلي تنين. ولاحقًا كنت أقبِّل بحماس الفتيات اللائي أقابلهن، متخيلًا أني أوقظهن في النهاية، لكنهن لم يكنّ نائمات أبدًا، أو نائمات في حكاية أخري لا تنتمي إلا إليهن. لم أكن أفهم. لم أكن أتصور أن من تجذبني لا تكون -بشكل ما- نائمةً، حتي ولو لم يكن ذلك فوق الأريكة بالصالون في بيت شارع مارابوف. "يا للرعب" قال أبي متعجبًا ذات يوم، عندما صرحت لهم برأيي، في أثناء محادثة تافهة، أن امرأتين تمارسان الحب لهو مشهد جميل. "مثير للاشمئزاز" زايدت أمي. كانت غاضبة بصدق. في ذلك اليوم تعلمت أن النزعة الأخلاقية قد تنافس التهتّك. وفي أثناء وجبة أخري في أحد المطاعم، قلت لأبي إنني أحبه. بعدها مباشرة أحسست أني تحررت من ثقل ما، كمن سدّد دينًا. بدا أقل تأثرًا بتصريحي مني أنا. وفي مواجهتنا، تعض أمي شفتيها وتلوي فمها بحزن ومرارة. هناك صورةٌ تمثلنا أنا وأبي وأخي نسير في طريق بالغابة. ربما كنت في السادسة. مطبوعة بالأبيض والأسود، وبحواف مشرشرة. وتبدو فيها بهجة شهر نوفمبر. دون شك تمسك أمي بآلة التصوير بما أنّها لا تظهر في الصورة. لا أملك أي ذكري عن هذه النزهة. ومع ذلك هي أجمل ذكريات للطفولة صنعتها بنفسي. عندما نرتكب أنا وأخي حماقة تثير الغضب، تضربنا أمي بسيف "زورو" البلاستيكي الأصفر الخاصبي. نضحك تحت الضربات متظاهرين بالشجاعة، ونتمسك أحدنا بالآخر، وهو ما يجعل أمي تجن من الغضب. ولكن كل مرة كان يصيبها التعب قبلنا، وفي النهاية يسقط من يدها السيف المؤلم. وعندما تكون قد غادرت، أنظر إلي سيفي معتقدًا أنه من الخيانة أن يوجّه نحوي. كان يحدث أن يصيب أبي الملل من سماعه لثرثرتنا أنا وأخي في غرفتنا. يصرخ حينئذ عبر الحائط: "هذا يكفي وإلا سأضرب أحدكما بالآخر". هذه صياغته. ولما كنت الأخف وزنًا فلم أشك أني من سيستخدم كهراوة، وسأهتم لفترة طويلة بالطريقة التي أسبب بها أقل ضرر ممكن لأخي عندما يُضرب بي. "تتهمونني بكسر الأكواب ولكن أنا من يغسل دائمًا المواعين" تتمرد أمي من وقت لآخر. طولها مائة وستون سنتيمترًا، وعندما نشير لقامتها ترد بشكل حاسم "ربما أكون قصيرةً، لكن جسدي متناسق بشكل يثير الإعجاب".والواقع إنها ليست فقط قصيرة، يمكن أن نقول أيضًا إنها بعيدة. في بعض الأيام المتوهجة، كانت تصعد علي الطاولة وتلوح بقبضتها، وتخطب: "لو لم يتبق سوي شخص واحد، سيكون أنا". أبي طاهٍ ممتاز. في أيام الأحاد يتكفّل بالمشتريات ويعدّ الوجبات. تخصصه هو الأرانب. وعندما يكون في مزاج طيب أو يكون راضيًا عني، يداعب شعري ويقول لي "يا أرنبي الصغير". استطاعت أمي أن تتوظّف في شركة "بيجين ساي"، حيث أصبحت السكرتيرة الشخصية للمدير لويس ميرلين، الذي كان يدير أيضًا"أوروب نيمرو 1" محطة الراديو الشهيرة في ذلك الوقت، وحيث سأترك ذكري سيئة للغاية بعد ذلك بسنوات حين أعمل للمصادفة هناك، وأعيث فسادًا. ذات يوم، أعلمت مكالمة تليفونية أمي في عملها، أن سيارة قد صدمت السيدة التي تأتي بنا من المدرسة أنا وأخي. كانت سكرانة كعادتها عندما حاولت مدام ليجال أن تعبر بنا والإشارة خضراء، فوقعت الحادثة. لمستها سيارة عن قرب، فتهاوت دائخةً أكثر منها مصابة. استقالت أمي من عملها لتعتني بنا.وقد تركت بذلك موقعًا وظيفيًا واعدًا لن تناله ثانية فيما سيأتي. "أبنائي قبل كل شيء" تقول بقوة. طائش، مشاغب، غير منضبط... تابعتني هذه الصفات طوال أعوامي المدرسية، في نفس الوقت مع تنويهات "تلميذ جيد" أو "تلميذ موهوب". لا يصيبني الملل أبدًا. ذات مساء يوم خميس دعوت عندي ليري وفريتير وجرافيه، ثلاثة تلاميذ كبار من المدرسة لا يفترقون، فقد كانوا من أبناء البوابين. وفي حجرتي ابتهجوا بأشيائي، ووكزوني في ظهري، كما لو كانوا ينتقمون من استقبالهم لمرة في الشقق. في هذا اليوم تحققت من أني لا أحب أن أكون ابنًا لبواب، كي لا أكون مثلهم. هم أيضًا لا بدّ أنهم يكرهون كونهم أبناء بوابين، وبد لي هذا فجأةً. ووجدته أمرًا شاذًا أن يقيّموا وضعي المحظوظ واحتقرت احتقارهم. بيننا، اكتشفت عالمًا لا ينتمي لنا ويصيب بالمرارة، وبشكل غريزي، رفضت الخضوع له، وحتي اليوم لا يمكن لأحد أن يقول إنه عدوي دون موافقتي. في ذلك المساء، استدعتني أمي إلي الصالون. اختفت ورقة فئة المائة فرنك من فوق المدفأة. نظرتها تفتش جيوبي. وانتهت بأن أرسلتني إلي السرير ناصحةً إياي أن أفكر جيدًا. بعدها بيومين، ليري يلعب في فناء بنايتنا بمسدس جديد. نزلت السلالم فورًا. ينكر ليري أنه سرق النقود. بجانبه جرافيه وفريتير يساندانه. أحذّره أن أبوي يعرفان الحقيقة وأنهما سيخبران والدي ليري، وربما الشرطة، أو الجيش. وذكرت وأنا أحذّره كيف أننا أصدقاء مخلصون. تحمر أذنا ليري. وانتهي بأن أعطاني المسدس وما تبقّي من النقود، في مقابل وعد مني أن أحاول تسوية الأمر مع والديّ.. بينما أصعد، مزهوًا بنفسي ومن الطريقة التي أدرت بها المناورة مع الأخذ في الاعتبار فرق القوة. حين تدخل أمي، سأعطيها بانتصار الغنيمة المستردّة من الأعداء. تقول: "أهنئك علي رد النقود، لكنني لن أؤيدك أبدًا في السرقة" أريد أن أعترض، لكن حماسي أكد لأمي مسألة أني مذنب. وصمتت في النهاية. منذ هذه اللحظة لم أقل لها أي شيء آخر، كفت عن أن تكون أمي، حتي لو بقيت ابنها. عشتُ طفولةً سعيدة ذات ظهيرة في يوم أحد، تظهرُ أمي في غرفتنا، حيث نلعب أنا وأخي، كلٌ منّا في ركنه: "يا أطفالي هل أحبّكما؟" صوتها قوي، ومنخاراها رائعان. يرد شقيقي دون تردد. وأتردد أنا في تجاوز أعوامي السبعة. لدي وعي بما جري، لكني أتشكك فيما تلا. وانتهيت بأن همست: "ربما تحبيننا كثيرًا نوعًا ما". تنظر لي أمي بفزع. تبقي لوهلة ذاهلةً، تتوجّه نحو النافذة وتفتحها بعنف، وتحاول إلقاء نفسها من الطابق الخامس. تُنبه الضجةُ أبي، فيلحق بها علي حافة الشرفة، بعد أن تكون قد مرّرت إحدي رجليها في الفراغ. تصرخ أمي وتتشاجر. وتدوّي صرخاتها في الفناء. يجذبها أبي بحزم، ويحملها كجوال إلي داخل الشقة. في أثناء العراك، يصطدم رأس أمي بالحائط، ويُحدث رنينًا. ولفترة طويلة تبقت بقعة دم صغيرة علي الجدار شاهدةً علي ذلك المشهد. في يوم سأرسم حولها بالحبر الأسود دوائر، وأستخدمها كهدف للتصويب بأسهم اللعب الصغيرة، وعندما أرمي في رقم الألف، أتخيل أني أستعيد لوهلة ملكة الكلام دون خوف. كانت أمي في السادسة عشرة عندما قابلت أبي، فيما كان هو في الثامنة عشرة. كان ذلك في عام 1956 في حفل مُرتجل أقيم في رواق "بوا كولومب"، حيث كانت عائلة أبي قد استقرت بعد حرب 1939. كان أبي يُحيي الحفل بالعزف علي الدرامز، في إطار فرقة صغيرة للجاز، مكوّنة من زملائه طلبة الحقوق. وكانت أمي تساعد بغسل الصحون، بعدها بعام، كانا متزوّجين، وأنجبا شقيقي، الذي أسمياه أوليفييه، دون سبب معين أعرفه. بالكاد كان لأبي الوقت أن يري ولده: فقد استدعاه الجيش لتأدية الخِدمة الإلزامية. ولم تكن تلك اللحظة المناسبة للاستدعاء. فبدلًا من الثمانية عشر شهرًا العادية، أجبَرَت الحرب -التي لم تكن قد تسمَّت بعد بحرب الجزائر- أبي علي ارتداء الزيّ العسكري لثلاث سنوات. وقد استقر بمعسكر في تيزي أوزو، عاصمة إقليم القبائل، حيث لم يكن، وفقًا له، يحدثُ شيء عظيم. تكدّرت أمي لفراقها السريع لزوجها. واتّخذت قرارها سريعًا: تركت رضيعها لعائلة زوجها، وغادرت لتلحق بالرجل الذي أحبّته في الجزائر. بالنسبة لفتاة في السابعة عشرة، لم يكن هذا النوع من الجسارة معهودًا في ذلك الزمن. وهناك تحابّا. وبالأحري ثلاث مرات بدلًا من واحدة، حيث سقط تحت سحر أمي طبيب من مستشفي تيزي أوزو، وسريعا ما انضم للهوّهما، وكان حملها بي ثمرة أحد لقاءاتهم الثلاثية. "أنت ابن الحب"، كانت أمي تردد عليَّ طوال طفولتي، دون أن أعرف ماذا يعني هذا، أو إن كان بالأحري مُقلقًا. وعلي الملأ كانت تحب أن تذكّر ببشرتي الداكنة وحقيقة أن ملامحي لا تنتمي لآل بوييه. وعندما كشفت لي بعدها بفترة، وبناءً علي سؤالي عن حقيقة مولدي، استخلصتْ مما قالت إنها قرأته في مجلة أنّه إذا قذف رجلان في مهبل امرأة، فإن حيواناتهما المنوية بدلًا من التنافس، تندمج، لتخصّب البويضة، ويولد من ذلك جنين مشترك. وحكت لي كذلك أن أبي كان ينتصب جيدًا، وأنه كان مثلي جنسيًا، وفيما بعد، ادّعت أنها قالت ذلك لتمزح معي. أمي كان لديها من تأخذ عنه: كانت بالكاد في الثانية عشرة، عندما قام شقيقها الذي يكبرها بسنتين من الطاولة زاعقًا في الأب، الذي كان يؤنبه علي هفوة: "أنت لست أبانا الحقيقي!" في الواقع فإنه كان عمهما، الذي احتل سرًا سرير زوجة أخيه، مكان شقيقه، الذي اختفي في بدايات الحرب العالمية الثانية. ولم يكن لأمي، التي ولدت في نهايات عام 1939، أبدًا الوقت لتعرف من كان سببًا في وجودها. لا بدّ أنّها قد تذكّرته بشكل غامض، عندما قررت أن تلحق في الجزائر برجل كان هو أيضًا قد ذهب إلي الحرب، أيضًا بعد ميلاد ابنه مباشرة. وبنفس الطريقة التي استبدل بها أخ أخاه في شخصية أبيها، أصبحت هي أمًّا للمرة الثانية بين أحضان رجلين. من شقيق لشقيقه، عاشت جدّتي دائمًا، مع رجل يُدعي "بيرار"، ولم تضطر لتغيير الاسم لتبدو في زيجة مضبوطة في أعين العالم. وفي المجمل، لم يخرج الأمر من العائلة، وإداريًا فقد تم تبسيط الموضوع. في هذه الأثناء كان يجب مسح كل أثر للمختفي، وهو ما يفترض نوعًا من التركيز، لأن الأمر يتعلّق بالصمت عن شقيق وزوج وأب في نفس الوقت. وفي وسط هذه المؤامرة نشأ الأطفال. وخلال سنوات، لم يشكّ أي شخص في الحقيقة، باستثناء الابن الأكبرالذي لم تمح من ذهنه بعض الذكريات المتداخلة. بالنسبة لأمي، كان اكتشاف أن حياتها قامت علي كذبة بمثابة "صدمة" لها، كما ما زالت تتذكّر. تقول هذا، وتنظر في عينيّ بقوة. أما جدّي، الرجل البشوش، فقد عشق كلبةً صغيرةً مولّدة، كانت تتبعه في كل مكان كظله. وكان قد أسماها "ساتليت"، تيمنًا بمركبات سويوز الفضائية السوفيتية، كما أكّد، إذا تكلمنا من ناحية تناسلية، فقد اختار جيّدًا، لعشرين مرة في اليوم، كان يُصرح بالحقيقة التي احتفظ بها لنفسه، دون أن يشك فيها أحد، ولا هو نفسه. فعندما كان يصرخ في ساتليت كان يناديها سالتيه (قذارة). وفي الفرنسية القديمة تعني كلمه بيرار "الأب السييء". بوييه بدورها تعني "غابة صغيرة من أشجار البتولا". أنا أعرف إذن من أي نوع من الخشب قد صنعت، وهو ما لا يتأتّي لأناس كثيرين. عند مولدي، تم الاتفاق علي تسميتي نيكولا، ولكن لأن برجيت باردو كانت قد وضعت طفلًا أسمته نيكولا، فقد غيّرت أمي اسمي إلي جريجوار. وهكذا أصبحت "من يسهر في السهرات" وهو ما تعنيه جريجوار المنحدرة من الكلمة الإغريقية إجريجوريان. لو كنت قد تسمّيت نيكولا كنت سأكون "انتصار الشعب"، وهو ما لا يستتبع نفس المصير. ولأقنع نفسي فقد أصبحت صديقًا لفترة لواحد يُدعي نيكولا، وهو لم يعرف أبدًا ما الذي يعنيه اسمه لصداقتنا. لم يكن يحمل الشعب أبدًا في قلبه، وبدرجة أقل انتصاره. وبخلاف التقليد، لم يمنحني أبواي أي اسم آخر، مُلحقًا بجريجوار. لم يرتبط بي أي من الأسلاف سواء كان صالحًا أم طالحًا. لم أضطر لتخليد ذكري أيّ من موتانا. إليّ فقط سيرجع فضل تسمية ظلّي يومًا ما. عندما خرجت من بطن أمي، يبدو أنني كنت أضحك. النسوة الحكيمات تشاجرن معًا تقريبًا ليعتنين بي: لم يرين أبدًا رضيعًا فرحًا هكذا بقدومه إلي الحياة. بعدها بثلاثة أيام. كان وزني قد صار أقل من كيلوجرام، وحالتي أصبحت مُرعبة. ولم تستطع أمي إرضاعي، لإصابتها بخرّاج في الثدي، ورفضتُ بشكل قاطع الحليب الصناعي من ماركة "جيجوز". كذلك لم ينجح معي حليب البقرة أو الأتان أيضًا. واعتقدوا أني لن أكمل يومًا في الحياة، حتي تعطفتُ ورضعتُ حليبَ عنزةٍ، عثروا عليها بالمصادفة تقريبًا، بالقرب من مستشفي الولادة. لهذا الحيوان ذي الشخصية القذرة أدينُ بحياتي. كانت درجة الحرارة في تيزي أوزو تبلغ أربعين درجة في الظل يوم مولدي. "لم أعان أبدًا مثل هذا اليوم" تحكي أمي متطوّعةً. وتُحب أن تتذكر أنني كنت ضخمًا جدًا في آخر أيام حملها، حتي إنها كانت تضع طبقها باتزان علي بطنها بينما تتناول الوجبات. وكما حدث مع ابنها الأول، لم تشكّ أمي أبدًا في أنها تنتظر ولدًا. "لست بقادرة علي إنجاب الإناث" تقول بفخر. وهو ما لم يكن يمنعها من تصفيف شعري بمكواتها عندما تأخذها الرغبة في ذلك. وكانت تقول أيضًا إنها لا تريد أبدًا طفلًا ثالثًا، مقتنعة بأنه سيكون مشوَّهًا أو منغوليًا. ومرة سمعتها تقول مستنكرةً: "إنني أرنبة حقيقية"، لتعبر بهذه الصيغة المجازية عن موهبتها في الوقوع حبلي ما إن تمارس الحب، وأحيانًا حتي في أثناء دورتها الشهرية. هي لا تعلم حتي كم مرة أجهضت. تقريبًا خمس عشرة مرة، تعترف دون ضيق. كان أبي يساعدها أحيانًا في ذلك. ومعًا جربا تقنيات متعددة. كان ذلك يتم في الظهيرة، عندما نكون أنا وأخي في المدرسة. وفي يوم اضطرت فيه لإجراء العملية بمفردها، سرَّبت أمي ليترات من محلول "الميركروكروم" داخل فرجها لتقتل الجنين. وتم انقاذها من علي حافة الموت بعد نزيف داخلي. وضع ميلادي حدًا للمرحلة الجزائرية لأبويَّ. بمسئوليته عن طفل ثان، تسرح أبي فعليًا من التزاماته العسكرية، بالنسبة له كانت الحرب قد انتهت دون أن يطلق فيها طلقةً واحدة. وهنا كانت إحدي تبعات ظهوري علي سطح الأرض. والداي كان بإمكانهما أن يبتهجا بمواجهتهما للحدث السعيد في قلب ما كانت تعرف ب"الأحداث"، والتي بالتأكيد لم تكن سعيدة بهذا القدر. ومع ذلك، كان عليهم التخلي عن ذلك التقارب الفرنسي الجزائري الذي كرّساه في سرير لذّاتهما. وفي الواقع، فإن أمي رفضت البقاء في إقليم القبائل، علي الرغم من أن عشيقها استحثّها علي ذلك، وتفرّق الثالوث ليختفي من الوجود، إلا من عيني أمي عندما تنظر لي. لفترة طويلة امتنعت أمي عن الإفصاح عن اسم طبيب مستشفي تيزي أوزو. وعندما أفصحت عنه أخيرًا، سجّلته في دفتر ولم أعد ثانيةً للتفكير فيه. ولم أسع أبدًا للتعرف إليه. ولا هو سعي. من ملابسات مولدي تبقّي لديّ الانطباع بكوني طفل حرب، لا يفصح عن اسمه الحقيقي بين أشياء أخري. كذلك وعيي بالتاريخ غير متطابق مع الرواية الرسمية، أقل بساطة ومرضًا من تلك التي يضطلع بها المخوّلون بكتابته. وفي نفس الوقت عندما حان وقت "الحرّية الجنسية" المزعومة، كنت أنا ثمرتها قبل الأوان. لم يكن أبواي بحاجة لأي شعارات ليستمتعا بها بلا قيود. بوكاشيو وأريستوفان كانا دائما بالنسبة لي قريبين من الحقيقة، كذلك دي ساد وجورج باتاي، وبالذات ذلك الأخير لأنه يحمل في اسمه نفس الأحرف التي يبدأ بها اسمي. مكتوب في البطاقة العائلية لوالديَّ أني من مواليد 22 يونيو 1960. وفي المدرسة تعلمت مبكرًا أنه في 22 يونيو عام 1633 تمت تبرئة جاليليو أمام محكمة التفتيش الرومانية، وفي 22 يونيو 1940 وقع بيتان اتفاقية الهدنة مع هتلر في عربة قطار. ولأسلّي نفسي، كانت لدي عادة أن أكتب تاريخ ميلادي بطريقة جبرية، متوازنة تمامًا، متتالية الأرقام 22 06 60 كانت تبدو لي وكأنها تخفي متناظرة حسابية غامضة مميّزة لي هذه المرة عن الجموع. كانت سنة 1960، وفقا للتقويم الجريجوي سنةً كبيسةً، يوم 22 يونيو يوافق إذن مطلع الصيف. إنني أنا من يطيل النهارات. هكذا كنت أقول متبجّحًا لفترة طويلة. وعندما صارت حياتي أكثر ظلامًا فضّلت أن أقول إنني أنا من يقصّر الليالي. النساء الثلاث اللاتي عشت معهن حتي الآن، لديهن علي الأقل نقطتان مشتركتان. كلهن كانت لهن علاقات صراعية مع الأب، وكلهن وُلدن في الفترة بين منتصف سبتمبر ومنتصف أكتوبر. أي قبل يونيو بتسعة أشهر. بيني وبينهن كان هناك دائمًا اجتياز الشتاء والربيع. تلك التي يقترب تاريخ ميلادها أكثر من تاريخ ميلادي، ولدت في 18 سبتمبر. بعد أربعة أيام كنت سأعتقد أني في حضرة سر تناسخ روحي، كما يقولون. ولدت هي في عام 1968، كان عندي إذن ثمانيةأعوام، وبعدها بتسعة أشهر كنت سأبلغ التاسعة. وفي نفس اللحظة اختفت إلي الأبد ماري بلانش، التي كانت بالنسبة لي الأولي بينهن جميعًا. أحيانًا ما كنت أفكر أن هذين الحدثين متصلان، وأن تلك التي جاءت إلي الدنيا شهدت علي اختفاء الأخري، للحفاظ علي توازن ما، لو لم يكن في الكون، فعلي الأقل في حياتي. كان عمري ثلاثة أسابيع عندما نقلتنا طائرة "بريجيه" بمحرّكين، أنا وأبويّ، من الجزائر العاصمة لمدينة ليون، حيث كان من المنتظر أن يكون في استقبالنا أبي في العماد. واجهت رحلتنا الجوية عاصفةً لا يزال والداي يتذكّرانها حتي الآن. كنت أبكي طوال الرحلة. وكانت كل أجزاء الطائرة تقرقع، إذ تتلاعب بها الرياح والأمطار. ووجد قائد الطائرة أنه من الضروري أن يأتي بنفسه ليُطمئن الركاب. وانحني علي المهد المحمول الذي يحتويني، راغبًا أن يهدئني، فتضاعف بكائي. هذه الرحلة المتقلّبة لا بدّ وأنها قد تركت آثارها. فطوال طفولتي كان يحضرني نفس الكابوس عن وجه عابس يقترب من سريري بسرعات مختلفة، ثم يهبط فجأة نحوي، بسرعة بطيئة. كما أنني لم أغير أبدًا حبًا بحب، أو أتغيّر في حياتي أو أتخذ موقفًا جديدًا دون أن يصحب ذلك عاصفة. والفكرة هي أن التغيّر أصبح مقرونًا لدي بالفوضي، لدرجة أن الاضطراب استطاع أن يقنعني أحيانًا بفكرة التغيير نفسها. أتخيل أحيانًا أنه لو كانت السماء رائقة بين الجزائر العاصمة وليون، لاستطعت أن أجتاز بعض الأحداث بنعومة، وربما الحياة نفسها. كان أبي في العماد يقطن عند مخرج مدينة ليون في قلعة "شوفالييه دو لا بار"، الذي كان مشهورًا بأنه آخر من أعدمه النظام القديم، بعد أن تم تجريسه في موكب ديني. تحيط بالقلعة حديقة كبيرة. نوع من عزبة صغيرة من القرن الثامن عشر، قامت بلدية "فولكس او فيلين" بقصقصتها عام 1974 تاركة بناية خضراء، ذات قبح صار معممًا. تضم الآن دار سينما تعاونية. الحقول التي كانت تحيط بالقلعة عام 1961 تحوّلت اليوم لبارات وتجمّعات علي مساحة كيلومترات لمساكن شعبية تثير في ساكنيها الضجر حد الانفجار. سكن أبواي في جناح، بينما كان أبي في العماد وزوجته الشابة يسكنان جناحًا آخر. هذه الحياة المُحبّة الخفيفة استمرت لعام. وفي عيد ميلاد زوجة أبي في العماد، اشتري لها سيارة صغيرة كانت تحلم بها. ولدي خروجها الأول بها اصطدمت بشجرة جميز، وماتت علي الفور. لم يستوعب أبي في العماد أبدًا أنه قدّم الموت لزوجته هدية، وصار مرتعبًا من كل ما يحيط به. وكان علي أبوي أن يغادرا المكان. ولم يعودا لرؤية من كان المفروض أن يضطلع بتعليمي الديني أبدًا. وفي ليون سكن أبواي في حي "لا كروا روس". ولم يتم ذلك بسهولة. لم يكن لديهما أي نقود، إذ قطع أبي علاقته مع عائلته، بعد أن هدّد أباه بالزواج من "زنجيّة". بينما لا تستطيع أمي الاعتماد علي والديها بالرواتب التي يتقاضيانها كعمّال في مصانع "ميشلان"، والتي تكفي بالكاد احتياجاتهما. وهكذا، بينما كان أبي يبحث عن عمل، كانت أمي تدور علي الفنادق بحثًا عن غرفة لمبيت الليل، وكان لا بدّ لهما أن يبدّلا الفندق كل يوم، إذ أن وجودي لم يكن مرحّبًا به في مثل تلك المؤسسات.ولحسن الحظ فقد كنت رضيعًا حكيمًا للغاية، وفي أغلب الأحيان كانت أمي تضطر لإخفاء وجودي، بتهريبي داخل حقيبة،بينما هي تمرّ أمام الموظف. وكثيرًا ما حكي لي أبواي أنهما إذ وجدا نفسيهما عاجزين تمامًا، اضطرا للاستغناء عن الطعام لثلاثة أيام، للاحتفاظ بما تبقّي لهما من نقود، لمصاريف رضعتي الصناعية. بحثًا عن الموارد، انتهي أبي بأن اتصل بوالده. وقد وعد الأخير بمساعدته، بشرط أن يتخلّي عن "موسيقي الزنوج".أخفي أبي الدرامز واستقررنا في بوا-كولومب، حيث اكتشفت أن لي شقيقًا يكبرني بعامين ونصف، واكتشف هو أن له شقيقًا أصغر وأبوين. في عيد ميلاده الخامس والأربعين، أهديت لأبي درامز صغيرًا، لعب عليه في الأمسية، ثم وضعه في الصباح التالي في المخزن، ولم يعد للمسه أبدًا. في أثناء بعض الأمسيات المبهجة المنتعشة، كان يحدث أن يسمع أبي شيئا من الجاز في الراديو، فكان يفتح لفافة سباجيتي ويقسم محتوياتها قسمين، ويستخدمهما كعصوين للعزف علي الطاولة والأطباق والأكواب، وبينما يعزف كانت السباجيتي تتكسر وتتطاير في كل الاتجاهات، وعند نهاية المقطوعة لم يكن يتبقي له شيء في يديه. وبعدها لأيام كنا نجد قطع السباجيتي متناثرة علي الموكيت. كان رواق بوا-كولومب بيتًا كبيرًا تستحيل تدفئته في الشتاء. وفي الصباح كان يتوجّب الدق بالأيدي والأرجل علي السلم الصاعد إلي المطبخ، لإزاحة الفئران. كانت هناك مربّية تُشرف علينا، أنا وأخي. اسمها مدام جيومو. أفصح أخي بعد سنوات أن ذوقه في حب الرجال ربما يرجع لذلك الاسم: كان معشوقه الأول يدعي جي. لا أحتفظ بأي ذكريات لمدام جيومو، بخلاف تلك الذكري الباهتة للصفعة القوية التي ضربتني إياها، لدرجة أنها أسقطتني من فوق كرسي الأطفال، وانشرخت جبهتي لنصفين. وفسّرت مدام جيومو ذلك لأبوي، بأنني اصطدمت وحدي بزاوية الثلاجة. وتبقّت لدي من هذه الكذبة ندبةٌ، تبدو وكأنها من البارحة. كرفض من رأسي أن يحاك علي الشرور التي يحتويها. في كل الصور التي تظهرني طفلًا، تختفي تلك الندبة خلف شعري المسدل الذي يخبّئ جبهتي، عندما تركت والدي، أرجعت شعري إلي الخلف وبدت الندبة في وضح النهار طازجةً ووردية وغير ملتئمة. ومن غير النادر أن بعض الناس، وعلي الرغم من أنهم يعرفونني منذ فترة طويلة، يندهشون من ذلك الجرح الذي أحمله علي جبهتي. لم يلحظوه مسبقًا، ويظنونه حديثًا. أفسّر لهم ذلك حينها أنها أمي قد عضّتني. انتقلنا للعيش في "أوبرفيير". وذات مساء عادت أمي من العمل وتمدّدت لتستريح هنيهة. وكان أبي قد ذهب ليأتي بنا أنا وشقيقي من عند المربية. وفجأة سمعتني أناديها "ماما" ثلاث مرات. كان صوتي يصلها نقيًا لدرجة أنها اعتقدت، وهي غافية، أننا قد عدنا دون أن تشعر، وأنني أناديها من علي حافة سريرها. ولكن الوقت كان ليلًا والشقة خالية. وفي هذه اللحظة تحديدًا دق جرس التليفون ليعلن لها أبي أنني قد دخلت المستشفي لحالة طارئة. كان وجهي قد تشوّه بالبثور، ولا أستطيع التنفس وأشعر باختناق خطير. وقد اعتقد الأطباء إصابتي بالدفتيريا التي كانت مرضًا قاتلًا في ذلك الوقت. لتجنّب أي نوع من العدوي، تم وضعي في حَجْر صحّي بغرفة منعزلة. وكان والداي لا يستطيعان الاقتراب مني، ومن خلف لوح زجاج، كانا يرسلان لي قبلات لم تصل أبدًا. فقط الممرضون بأقنعتهم وقفازاتهم كان لهم حق الدخول عندي. وكانت أمي تبكي لرؤيتي في هذه الحالة. وللمرة الأولي كان حبها عاجزًا. هذه الحالة من العزلة التامة استمرّت سبعة أيام بسبع ليال، حيث واصلتُ الهزال داخل ذلك التابوت الزجاجي، حتي إنهم توقّعوا موتي. كان عندي بالكاد أربع سنوات. كشفت التحاليل في النهاية أني مصاب بنوع من البكتيريا العنقودية. وتكفّل البنسلين، الذي كان دواءً حديثًا في السوق أيامها، بالقضاء علي مرضي. وفقدت في هذه الأثناء حاسة الشم، وهو ما لم يلحظه أحد. أنا نفسي أخفيت ذلك الأمر طويلًا خلف استراتيجيات استطعت تطويرها. أُعلن مثلًا بحماس أن طعم الليمون زائد في السلاطة، بعد أن تكون قد فاجأتني إحدي بذوره في الصلصة. لو كنت ذكيًا فذلك لأني استطعت أن أخدع عالمي أني قد صرت كذلك: ألم يكن عليّ أن أدرس المظاهر لأعطيهم معني كنت قد فقدته. وهكذا عرفت مبكرًا أن المحتمل لا يختلط أبدًا بالحقيقة، ولا ماهو حقيقي بتمثيله، وهو ما أبعدني سريعًا عن عصري. إذن فقد أصبحت شديد الانعزالية في فترة مبكّرة،ليس فقط لأن عليّ أن أخفي عجزي عن الشم، ولكن لأنه لا تواتيني أي رغبة في فعل ذلك وسط الناس، إذ كان بإمكاني خداعهم بمنتهي السهولة. في حدود سن العاشرة، جرؤت للمرة الأولي علي الإفصاح عن عاهتي. "لا تقل سخافات" قالت لي أمي. فلم أعد للكلام في ذلك، وأمعنت في تطوير ملكاتي الذهنية. في المدرسة الابتدائية، حصلتُ علي أعلي الدرجات في التعبير، إذ حكيت عن سوق مراكش، بألوانها المدغدغة وروائحها المُسكِرة. وقرأت المعلّمة موضوعي أمام كل الناس، بل حتي إنها مرّرته علي الفصول الأخري. كان هذا أول نجاح لي في العالم. وقد جعلني ذلك أفكر في الأدب وفي الدجل: فأنا لم أذهب أبدًا إلي مراكش ولا أملك حاسة شم. "العنقوديات الذهبية"، لطالما فتنني هذا الاسم. لم أكن فقط فخورًا بأني مرضت بذلك المرض الذي يثبت صعوبة بالغة في إملاء حروفه، بل كنت أتلذّذ بمغامرةالجنوح اللفظي، بعيدًا عن معجمي اليومي. كان ذلك كالتلفّظ بكلمة بذيئة بكامل الحصانة. أو كالتكلّم بلغة محظورة. وفي أحد القواميس اكتشفت أن ذلك المرض الذي كدت أموت به، كان يُسمّي أحيانًا ب"داء الملوك". استنتجتُ أيضًا أن الموت كان استثنائيًا وغامضًا لمّا كان اسم المرض طويلًا ومعقّدًا. لم أكن لأتراجع عن هذا. كل مرض يقل اسمه عن خمسة عشر حرفًا منذ تلك اللحظة لامعني له. وعندما اتضح أن أبي مصاب بالسرطان، لم ينتبني القلق بشأنه، إذ لم أتخيل أن كلمة من خمسة حروف يمكن أن تقضي عليه، بينما كان ذكالجميع- قلقًا، علي الرغم من ذلك، ففكّرت أني عديم الإحساس. وفي المقابل، صدمتُ عندما أدخلوه المستشفي، بسبب التهاب حاد في الغشاء البريتوني: وفجأة، بدا لي موته قريبًا بشكل رهيب، لدرجة أني شعرت بالتوعّك في الغرفة التي كان يرقد فيها، مع ذلك فقد نجا أبي منها، وعلي حافة سريره، كانت أمي تمزح. وطلب هو ألا نضحكه، حيث كانوا قد خاطوا له بطنه للتو، وأقل تقلّص سيصيبه بمضاعفات. لقد عاني أبي كثيرًا، وفي صمت. كان "العنقوديات الذهبية" هو المرض الوحيد الذي أدخلني المستشفي في طفولتي. فالتهاب اللوزتين، والناميات الخبيثة، والتهاب الزائدة الدودية، كلها نجوت منها. وما رفضته دوما هو أن يختنوني. علي المائدة كان يحلو لأمي أن تحكي أن الحكيمات في مستشفي تيزي أوزو، بينما كنّ يغسلنني من سوائل الولادة، قد سألنها بصوت ماجن فيما يبدو "هل تريدين أن نقطع له؟" وإذ تقول هذا، تنفجر أمي في الضحك، وتردّدها أكثر من مرة، كما لو كانت تغنّي "هل تريدين أن نقطع له؟" وهو ما كان يجعلها تتلوّي أكثر، ومعها الضيوف. لم يهتم أحد بأن يشرح لي أن الأمر كان متعلّقًا بختاني. وهو ما لم يكن ليغيّر شيئًا من الأمر إذ إن أمي تضحك أصلًا من سوء التفاهم. ولكن أنا كنت أرتعد لسنوات من فكرة أنهم يقرّرون جنس الأطفال بعد مولدهم، وأنني أصبحت ولدًا لا بنتًا وفقًا لإرادة أمي فقط. ماذا لو كانت قالت نعم؟ ومنذ إصابتي بالعنقوديات الذهبية، لم أسقط مريضًا أبدًا، وبدت حياتي وكأنها تسير منذ نحو أربعين عامًا في حالة توافق مع بنيتي الجسدية، أو العكس صحيح، وذلك علي الرغم من بعض الإفراط، أو لهذا السبب نفسه. لم أعان أبدًا من الإمساك ولا من آلام الصداع. ولا أسمّيهما أمراضًا تلكما المرتان الوحيدتان اللتان اضطررت فيهما لدخول المستشفي: الأولي بسبب كسر مضاعف في الفك بعد الاعتداء عليّ في ردهات المترو، والثانية بسبب قطع تام في وتر الكعب في أثناء مباراة في تنس الريشة بينما تقترب ولادة ابنتي. والحقيقة أني لا أحتفظ بأي ذكريات عن العنقوديات الذهبية. أو بالأحري لا أملك أي ذكريات غير تلك صنعها أبواي، وهما يتكلّمان عن ذلك الحدث الأكبر في طفولتي كأكبر المخاوف التي تعرّضا لها في حياتهما. لم تتنوّع روايتهما أبدًا. فلمعرفتهما أن ذلك المرض يصيبنا نتيجة شرب الماء الآسن وأني لا بدَّ قد أصبت به نتيجة لَعْقي لزجاج نافذة القطار الذي كان علينا ركوبه مساء كل أحد، للعودة من بيت جديّ. "كنت تضع كل شيء في فمك" تؤكّد أمي. بعد نحو خمس وعشرين سنة قابلت فتاةً شابة في قطار كان يقلّني من برلين، كانت نائمةً مستندةً علي شبّاك العربة، وعندما مررت في الطرقة، فتحت عينيها وبدت وكأن صورتي قد اختلطت بحلمها: وفي اللحظة التالية كانت ورائي متعلّقةً بكل حركة من حركاتي، وأحبتني لسبع سنوات تالية حبًا عنيفًا أمسك بتلابيبي. كانت تُدعي لورنس. ربما من الخطأ أن نعتبر "الماء الآسن" اسمًا. وكانت تعاني أيضًا من مرض جلدي. أنفجر في الضحك، عندما أتبيّن أن هذا اللقاء قد أعاد تركيب ما قد حكاه لي أبواي عن كيفية التقاطي عدوي العنقوديات الذهبية في أدق تفاصيله.أكفّ عن اليأس من حب كان يبدو لي حتي لحظتها قاهرًا وكارثيًا. فصدمة الغرام التي شكّلها لقاؤنا كانت صدمة سامة. ألم أتوقع ذلك من قبل؟ بعد لقائنا بقليل، قالت لي لورنس "أنت تعجبني" وبما رددت وأنا أظن نفسي أتخابث: "عن أي جرح تتكلمين حضرتك؟ فقد حافظت علي مخاطبتها بصيغة الاحترام فترة طويلة. ولم تخب توقعاتي. فقد توالت سبع سنوات عاصفات، أسوأ من سنوات السيست مع سيليمان، أو للملذات الوحشية التي لا تنتمي إلا لعالم الأمراض، المظاهر الأخيرة للحياة عندما لا يتبقي لها خيار آخر. انتهت فترة الحضانة لعلاقتنا سريعًا. حيث تدهور كل شيء بعد بضعة أشهر رائعة محمومة. كان لديها نوع من العدائية تجاهي، متواصل في البداية ولكن في النهاية انتهي بأن استسلمت لذلك الشعور ليلتهمها. كانت تخالفني بخصوص أي شيء، ولم نكن نتفق علي أي شيء، سوي في السرير. في كل لحظة كانت تبتزّ مشاعري، لكنها لم تكن تحبّني أبدًا فوق ذلك إلا عندما أكون غائبًا، كان ذلك كما لو كان حبها لي يريد أن يستغني عني، وكنا كالليل والنهار في إنهاك من اختلافهما المتواتر. في بداية الصيف أعلنت لها أنها ليست فتاة بالنسبة لي. أشياء كثيرة كان تصدمنا الواحد في الآخر، وما يلي ذلك لا يمكن أن يكون سوي كارثة، ولم يكن لديها أيضًا سحر عدم التوقع بتصرفاتها. كانت لورنس ترفض الاستماع إليَّ. كنا جالسين علي سلالم إحدي الكنائس. وأرادت أن نتزوج. وقد طردتها في أكثر من مناسبة، لتعود في كل مرة، وكنت أستسلم دائمًا. كنت أمقت ضعف الشخصية الذي أصابني حيالها. حتي الليالي التي قضيتها في أسرّة أخري كانت تقودني إليها. لم يكن أحد قادرًا علي المتعة مثلها. كان يكفي أن تلمس نهديها حتي يأخذ جسدها كله في الارتعاش. عيناها شديدتا الزرقة كانتا تجنحان نحو الأسود البحري ولا تثبتان علي شيء، وكنت أشعر أنني مشفوط داخل عدم يخبرني بأني لا شيء، ولا حتي تراب، ولا ذرة. لأحاول العودة للوجود كنت أقذف، ثم أنتصب، في إثارة مستمرة. معها كان الحب يعبّر عن نفسه كتراكم ضخم للذات، والذي كان يحيلني، كما لاحظت، إلي كائن هزيل مائع. كل يوم كانت لورنس تهاتفني لتخبرني أن أعتني بنفسي، وفي فمها نبرة حنان تدوّي كتهديد. كما كان لها طريقة لتقول لي "أحبك"، تكشف عن عشيق آخر، علاقة أخري جديدة، لم تكن غيرةً، فأنا لم أكن أطلب منها التفاني في الإخلاص، ولا أن تُمعن في إذلالي بذلك الشكل المفضوح. عدد قليل من أصدقائي كانوا يرفضون مبادراتها. ودون أن تكفّ عن ترداد أنها تحبّني، كان سلوكها يدوس بدقة علي كل ما كنت أعتبره قيمًا، ورأيتني أرتكب الخيانة بحق نفسي باحتمالي لما لا يُحتمل. "قلقك من الموت يغتالني"، قلت لها مصرًّا علي إفهامها. أعلنتْ بوضوح وبقوة أنّها تحب كل الرجال، كتلك التي كنت أعرفها قبلها عندما اعترفت بالنقيض، وكان عليَّ أن أجابه نفس النفي. نفس الخوف. كانت تتصرّف كأنّها تريد أن تأخذ مكاني، ورأيتها تحاول أن تصنع مني امرأتها، وفقًا للفكرة المعروفة التي تقول إن الرجل لا بدَّ وأن يتصرّف كوغد. وفي يوم ظنّت أنه سينمو لها قضيبٌ، كان الأمر عبارة عن خُرّاج له شكل قضيبي بطريقة مذهلة، نصحتها أن تذهب لتري الطبيب. "أنت لا تحتمل أبدا أن يحدث لي شيء طيب" ردت وهي تغلق فخذيها. واستمرت في التردد علي الاختصاصي لفترة طويلة. فكرة أن أقاومها كانت تجعلها تجنّ. كانت تعتقد أني أتبع تكتيكًا معينًا. أو أني أعاني من مشكلة نفسية لا بدَّ أن أعالجها. وكان لديها حلول لحالتي. "لابدَّ أن تكفّ عن رفض الحياة" كانت تقول لي. وأرد عليها "لا تعتبري نفسك الحياة. أنا لا أرفض سوي الحياة التي تقدّمينها. وهو ليس خطئي فالأمر يكمن هنا" وهكذا علي التوالي، لمدة سبع سنوات. ما كانت تفعله باللغة كان أكثر شيء يخنقني. كان لديها كلمات تملأ الفم وأخري فارغة، وأخري كونية تقذفها في الهواء دون تحسّب لأين ستقع. لا شيء مما كانت تقوله كان يلزمها. كان بإمكانها أن تقول ما يتناقض مع ما تفكّر به، وتتصرف بنفس الطريقة. لقد كان ذلك مبدًأ. الاستمتاع كان يقوم لديها مقام التفكير. كانت ترغب في الانتفاع من كل شيء. الانتفاع كان كلمتها. يجب أن ننتفع ولكن أن نحب أن نعيش، أن نكون، لم تكن نوعا من الانتفاع بالنسبة لي. كان الأمر يتعلق بأفعال مختلفة. العالم لم يكن كعكةً يجب التهامها قبل أن يفوت الأوان. أي عالم؟ أي كعكة؟ علي الرغم من نهديها الصغيرين وحساسية بشرتها المفرطة، لم أكن أستطيع تحمّل تركيب جملها. عندما كانت تتكلم تكون ملايين الناس، وكان ذلك كثيرًا من البشر بالنسبة لي. كل يوم كانت تركل التليفزيون الذي كنت أنتهي بمشاهدته كسكران، كي لا أري أو أسمع شيئًا آخر. لم أكن أريد أن ينتهي بي الحال كأونراث. العقاب الذي كانت تبحث عنه كان يبدو لي غريبًا. الصفعة القوية التي ضربتها بها مرةً لم تجلب لي أي لذة. لم يكن مَثَلي الأعلي أن أكون قوادًا أو جيجولو. وعلي أنقاض مشاعري العائدة تجاهي، لم أعد أهتم إلا بتكوين أجساد مضادة لها. وهكذا كان بقائي علي قيد الحياة، فيما أعتقد، كان عليّ أن أقاوم أربع سنوات العدوي التي أصابتني من الداخل كي لا أموت. تعلّمت كراهية نفسي، ثم الاشمئزاز منها. وذهبت حتي التلصص علي تليفونها كي أتنصت علي محادثاتها بأمل اكتشاف ما فاتني من تفاصيل في علاقتنا. وقد بلغت حد التقيؤ في الحمام عند سماعها تتكلّم عني. كانت تضحك بشكل رائع. وبعد إنهائها للمكالمات كل مرة تقريبًا كانت تجيء لتحييني في مكتبي الواقع في نفس الطابق، وكما لو كان بالحركة البطيئة كنت أراها تتقدّم مبتسمة نحوي وتحيط عنقي بذراعيها، وتقول لي إنها تحبني. وعرفت حينئذٍ ما الذي تعنيه الشفقة علي الذات. لم ينج عشاقها من الرجال والنساء من تلك المحادثات، وقد قدّرت الطريقة التي تروّج بها لصعودها الاجتماعي: كانت تقدّم نفسها لكل شخص، وتجعله يعتقد أنه الوحيد، كان ذلك بتملّقهم جميعًا بنفس الدرجة. الشكل الذي كان يتخذه بؤسها كان يؤثر بي، لو لم تكن تضعني في منظارها الموازي. كنت سأضحك من دروس الأخلاق التي تعطيها، لو لم تكن تصدّقها هي نفسها. كان ذلك فوق طاقتي. كنت متدهورًا لدرجة أني لا أجرؤ علي الثقة في أي شخص. كانت حياتي تشبه غرفة معزولة لم أعد أستطيع الخروج منها، وحيث أُحتَضر بلا نهاية. كنت أشعر بالعار من نفسي. أتهم نفسي بعدم القدرة علي الحب أو علي ترك نفسي كي تُحَب. كنت أرتعد لدي رؤيتها تقترب. مشاركتها نفس الهواء كانت تخنقني. كنت آوي إذن لثورات الطفح الجلدي أو إلي شعري خلال المعركة، وهي الأماكن الوحيدة التي كنت أجد فيها الملجأ. ولكني لم أكف عن الرجوع إليها كل ليلة. لكني كففت عن الاعتقاد في وجود فتاة صغيرة يرتعش ذراعاها مطبقة قبضتها بيأس خلف ظهرها. وتيقنت أن العنقوديات الذهبية لا يمكن أن نعقد معه معاهدة صلح. قضت واحدة اسمها انستازي-لويز وهو ما يظل بالنسبة لي الاسم المثير للبنسلين علي آلامي. لقد أخذت بيدي في منتزه شاتو، وكان مرحها القادم من جزيرة ترينداد بمثابة ترياق للألم الفرنسي الذي حطّمني. كانت لي كنبتة المولي التي قيل إنها حمت عوليس في الأوديسا من القوة الجنسية لسيرس، الساحرة التي حوّلت البحارة الراسين علي جزيرتها إلي خنازير. جويس الذي تذكر هذه القصة لاحقًا، جعل من مولي شخصية في روايته "عوليس"، في حالتي لم تكن روايةً. ثروتي العريضة كانت دائما لها أسماء بحرف الياء: ليلي كيم، فاليري، أوريلي، ميلاني كارولين، وعدد من الناتالي وبعض الكاترينات، بيرجيت، وكورين... معهن كنت أشعر دائمًا أني منتعش وأدين لهن بعدم إصابتي باليأس من الحياة. ومن جهة أخري النساء الثلاث اللائي عشت معهن هن جاييل وفابيان ولورانس. بالنسبة لي فإن الحب هو مسألة حروف متحركة. وعادت انستازي إلي بلادها. فكرت قليلًا أن ألحق بها، حتي أعلنت لي لورانس أنها توقفت عن أخذ الحبوب. وبعيدًا عن أنّها فاجأتني، فقد بدا لي قرارها أكيدًا. لقد نجّاني البنسلين ولكن أليس من المنطقي أن يكون مبرمجًا علي إخراجي من الغرفة المعزولة؟ فكرت أنها مجرد أيام سعيدة أعلنت عن نفسها وتخليت عن انستازي. أصبحت لورانس حبلي. وقد تكون المرة الأولي التي أشعر بالاتفاق معها كأن حجابًا قد تمزق فأعادها لي. وكففت فجأة عن أن أكون رجلًا في الرابعة من عمره. وأحببتها في النهاية دون تحفظات. وعندما ولدت الطفلة الصغيرة كانت فرحة استثنائية. كانت لها عيناي وجبهتي. بعدها بتسعة أشهر أعلنت لي لورانس انفصالنا. كان لا بدَّ لها أن تصير أُمًّا كي تقرر ذلك "أستطيع أن أتركك بعد أن صنعنا طفلًا، أعرف أنني لن أفقدك إلي الأبد" هكذا قالت لي عبر الهاتف. وقد حفرت هذه العبارة أنفاقًا بداخلي كحيوان خُلد تم حبسه داخل جسدي. "لكنك تفقدينني منذ البداية" صرخت كالمجنون في السماعة "عن أي أب تتكلم أنت؟" ردت هي بهدوء. كانت العقد قد عُقدت. ظننت ساعتها أنه لن يبقي بي شيء أصيل بعدها. لقد كان الأمر هكذا، الإصابة بالعنقوديات الذهبية. والمدهش ان لورانس لعبت الدور الذي رسمه لها مرضي (ودون شك لعبتُ أنا في أحلامها دور الشخصية المقدرة لي). لقد اخترتها بشكل كامل، ودونها لم أكن لأستطيع تجاوز ظلامي. لقد أعدّت لورانس كل شيء كي لا تخرج أبدًا من حياتي لدرجة إنجاب طفل، أو أن العنقوديات الذهبية سلالة مرضية لا شفاء منها: تعشش في ثنايا الجسد، وحيث الميكروبات تكمن فقط بعد تعرضها للمسار المدمر للمضادات الحيوية، تنتظر استيقاظها بفضل أي ظروف لا نعلمها. لو كان أبواي قد حكيا لي أني سقطت مريضًا بطريقة أخري، وأنا أتدحرج علي الأعشاب علي سبيل المثال، أو وأنا أبتلع الحصي، فبلا شك كنت سأقع في غرام واحدة أخري، وبالتأكيد ليس في قطار. وهو ما لا يغيّر شيئًا من فكرة أنيكان يجب أن أعيش من جديد ما كنت قد نسيته. من كل الأسباب التي يمكن أن تدّعي تفسير حب بائس، فأنا أفضّل قصة العنقوديات الذهبية. نعتقد أننا نفكّر في كل شيء، بينما نحن ننسي أمراض الطفولة. لزمت لي سنوات عديدة قبل أن أستعيد شهيتي للحياة، وحريتي في التفكير والحركة. كنت قد تجاوزت الأربعين بالكاد. ومنذ عمر العشرين كنت أردّد لنفسي دائمًا أن حياتي لن تبدأ بشكل واقعي إلا حين أبلغ هذا العمر. هذه القناعة حافظت عليّ متماسكًا، وسمحت لي بكل الأحلام. وأيضًا حالت دوني والانتحار، وربما دون موتي صغيرًا. ولم أكن مخطئًا: بتجاوزي للأربعين، جاءني الانطباع أني بدأت أحيا، كما لو كان كل ما سبق هو حياة بين قوسين. متأخرًا جدًا بالتأكيد لاحظت أن الأمر لم يكن يتعلّق بأي أربعينيات، ولكن بتلك التي وضعوني فيها في عمر أربع سنوات، لتلافي كل أشكال العدوي. لقد خرجت منها معافي وانتهت بي الحال أن اقتنعت أن لا حياة بالنسبة لي قبل الأربعين. كانت حدود عالمي هكذا كلمة من أحد عشر حرفًا. وقد تألّمت عندما لاحظت أن حياتي تشكّلت من اللغة. وفكّرت لو كان الحجر الصحي "الكارنتين أو الأربعينية" لطفولتي لها اسم الثلاثينية، لما كنت مضطرًا أن أنتظر حتي الأربعين لكي أدرك ذلك. وعند معرفة أي حاسة سأفقد هذه المرة في المعركة، أعتقد أنها حاسة إدراك الاتجاه، وهو ما أصبح عيبًا لديّ اليوم، لم يكن موجودًا قبل أن أسقط مريضًا بلورانس. إن تحقيقًا يصف كيف تأرجح القطب الشمالي المغناطيسي علي محوره، ليستقر في منطقة الأردين لم يُثر عجبي في وقتها، ولم أدرك للحظة أن الأمر يتعلّق بكذبة أبريل. سقطت الصغيرة مريضة في صبيحة اليوم التالي لمغادرة لورانس. وبعدها بعام أجريت لها جراحة في الحالب الذي كان قد نما لديها بإفراط مما كان يهدد بتدمير كليتيها. وفي نفس الفترة كانت تعاني كل شهر بمستشفي "نيكر" من الحقن التي كانت تخترق أوردة ذراعيها أو قدميها أو جبهتها الدقيقة جدًا، حتي يؤخذ منها ملليلترات من دمها بغرض التحليل. كانت تبكي بينما أمسك يديها وأكلّمها بلا انقطاع. وفي إحدي المرات أرادت ممرضة غير ماهرة ومرهقة أن تقطع لها الشريان السباتي، بينما هي تعجل من العملية. وكان لابدَّ أن أتعصّب لتحجم عن ذلك. عن هذه المرحلة من حياتها، لا تعرف الطفلة إلا ما قلناه لها أنا وأمها. ومن وقت لآخر تبدي فضولًا ولا بدَّ أن نحكي لها عما عاشته ولا تحتفظ منه بأي ذكري، حتي لو كانت ذاكرتها لم تنس شيئًا من خبرة الموت التي عانتها في هذه الواقعة. عندما أفكر فيما يمكن أن يعنيه هذا أرغب في تمزيق الأرض والسماء. لم تستمر الحياة في أوبرفيييه. استجابة لإعلان صغير وجد أبواي نفسيهما سعداء بتغيير شقة الإسكان الشعبي بالضاحية المملّة، إلي شقة من ثلاث غرف في شارع ماربوف بباريس، علي مبعدة خطوتين من الشانزيليزيه. وهكذا بلغت السنوات الخمس في العاصمة التي لم أُضطر لمغادرتها أبدًا. ومن هذه اللحظة فإن ذكرياتي تنتمي لي. أفكّر أحيانًا فيما كان يمكن أن يحدث لو بقينا في أوبرفييه. إعلان صغير عن العقارات ً قرر مصيري أيضًا. ودارت طفولتي في محيط صغير محدود شمالاً بشارع بيير شارون، وفي الجنوب بجادة مونتاني، وفي الغرب جادة جورج الخامس والشانزليزيه في الشرق. كنت أذهب لشراء الخبز من شارع الرينسانس، ومكتب البريد كان بشارع التريموال، ومتجر الألعاب بشارع كليمون مارو، وتقبع مدرستي بشارع روبرت استيان، الذي هو طريق مسدود. وعن طريق نزوة إدارية التقي كل رجال القرن السادس عشر أسفل بيتنا، وكنت أقوم بالصهيل في كل مرة أمرّ بشارع بايار، لم يكن هناك إلا شارع ماربوف الذي يحمل اسمًا مبتذلًا. ومع ذلك هو الوحيد الذي يستحق لوحته، بما أنه استخدم في توجيه المواشي إلي مورد المياه حين كان الشانزيليزيه مجرد حقول بالفعل. قرب نهاية الشارع قام أحد المصارف حيث عاش أرسين لوبين. وفي عام 1995، سبّب انفجار قنبلة سقوط عدّة جرحي بمجرد ما مرّت أمي، التي كانت ذراعاها محمّلتين بالمشتريات، إذ هي عائدة من متاجر بريسونيك بالشانزيليزيه. نسكن شقة من ثلاث غرف بالطابق الخامس، دون مصعد. كنا نصل إليها عن طريق سلم الخدم الكائن بنهاية الفناء. في كل مرة لا بدَّ أن نمرّ أمام الركن الذي تتراكم فيه القمامة. المكان غير مضاء دائمًا وأتخيل وحوشًا تتربص بي في الظل. في أحد المساءات وبينما أنزل بالقمامة مرق من أمامي جرذ سمين من جرذان المجاري. فطوحت أكياس القمامة بشكل عشوائي وهربت. كانت شقتنا مستطيلة. نشغل أنا وشقيقي نفس الغرفة في آخر الطرقة، وكان لها جدار مشترك مع غرفة أبوينا. ننام علي سريرين يعلو أحدهما الآخر، حيث كنت أشغل السرير الأسفل. لمدة طويلة كان أخي يتبوّل في سريره فوق رأسي. الحمام كان يشغل ثلث مساحة غرفتنا، وحيث يحمي بارفان مدخله من النظرات لكنه لا يمنع الأصوات. في كل غرفة هناك نوافذ وأبواب تطل علي الشرفة، والتي تطل بدورها من الطابق الخامس علي فناء البناية. ومن نافذة ببير السلم، تقع بين الطوابق بنحو مترين، بإمكان المرء أن يثب فيقف علي الدرابزين، ثم يقفز فيطال أحد عوارض الشرفة، وبارتكازه علي قوة ذراعيه بالاتكاء علي الحافة، يقفز بعد ذلك داخل الشرفة فيكون في بيتنا. وفي الاتجاه المعاكس، فإن الأمر أكثر تعقيدًا لأنه سيكون عليك أن تتأرجح لجزء من الثانية في الفراغ، قبل أن تحطّ قدمه علي درابزين النافذة، وفي تلك اللحظة يكون مستحيلًا عليك أن تري ما تفعل. عندما أكون محبوسًا يوم الخميس في غرفتي، أو في المراهقة، عندما أخرج في المساء سرًا كنت "أعبر من الشرفة" مرتجفًا من الخوف في الظلام، وفخورًا بتجاوزه. ينظّم أبواي الحفلات في مناسبات كثيرة. وفي حفل تنكّري تحوّلت أمي لأميرة شرقية، بينما أبي يرقص معها في زي الملك فرانسوا الأول. هناك دائمًا أصدقاء في البيت. في إحدي المرات تحدي ماكس أبي أن يتعرف علي من يعزف الدرامز في المقطوعة التي وضعها في جهاز الأسطوانات. ومخبئًا خلف ظهره غلاف الأسطوانة ذات الثلاث وثلاثين لفة التي أحضرها معه. أجلس مرتديًا بذلة أمام سماعات الإستريو الضخمة، تحاول عيناي اختراق الغموض الذي يخرج من السماعات. يحبس الجميع أنفاسهم. يستمر هذا لفترة طويلة. وفجأة يخرج صوت أبي بوضوح: "إنه سام ووديارد علي اليمين وسوني بين علي اليسار". يصفق الأصدقاء. تشعر أمي بالزهو. ماكس يهنئه. وأنا فخور بأبي، وفي نفس الوقت يتسرب داخلي شعور غامض: حيث كنت أنتظر اسمًا واحدًا فقط، كان هناك اثنان. ماكس هو أفضل أصدقاء والديَّ. ضخم جدًا، يرتدي كوفيات من الحرير حول عنقه وبدلات بأناقة لا تخفي. عندما يصل في مكان ما، يكون دائمًا كنجم. وهو عاطل بشكل مستمر. يقدم نفسه لأصحاب العمل المحتملين مرتديا ثيابًا فاخرة، مدخنًا السيجار أحيانًا، متعاملًا معهم باستعلاء. وحدث أن أحد أصحاب العمل قد تم إغواؤه بهذه الهيئة ورغب في الاستفادة منها، وجرؤ علي تشغيله ليبيع بوالص تأمين أو أي شيء كهذا، وينتهي الأمر دائمًا في محكمة العمل. أعشق ماكس لفترة طويلة كنت أتخيل أنه أبي الحقيقي. هو أيضًا ضاجع أمي. الغرام الكبير لماكس تُدعي مونيكا. تشبه لويز بروكس لكنها بحجم أصغر. في حادث سيارة، اخترقت الزجاج الأمامي للسيارة وبقيت مشوهةً. لشهور يذهب ماكس لزيارتها في المستشفي فلا تتعرف عليه. آخر مرة أري فيها ماكس، كان يعيش مع امرأة ضخمة بساق في الجبس وذراعين مشعّرين. ولديهما ابن أسماه ماكس بوريس، تخليدًا لذكري فيان. وذات مساء، سيغلق ماكس غرفته عليه ويطلق رصاصة من بندقية داخل فمه. سيحتفظ أبي بخبر انتحاره لنفسه فترة طويلة. كل الإجازات المدرسية، نقضيها أنا وشقيقي في سان جيرمان أو لي بمنطقة إيفلين، حيث انتقل جدانا للعيش في بيت علي حافة الغابة. كنت كل مرة أجد ديدييه، ابن الحارسين. معًا نتسابق بالدراجات، ونبني أكواخًا، ونصيد الضفادع. ولكن في نهاية ظهر يوم ما، وحين كان يدور بدراجته حول البيت الصغير الذي يسكنه والداه، يأخذ ديدييه في الصراخ ويقفز قفزات في مكانه متبوعًا بألسنة صغيرة من لهب أزرق. يندفع أبوه ويحاول أن يمسك بولده الذي يتلوّي علي الأرض، يعطيه ضربات علي كل جسده، ويجرّه علي الأرض، ويحاول أن ينزع ملابسه. كانت أم ديدييه تتابع المشهد ويداها علي فمها. كل شيء حدث بسرعة شديدة. مات ديدييه ساعة أن نقلوه المستشفي. بينما يمر أمام نافذة المطبخ المفتوحة غلّفه تيار هوائي بتسرّب للغاز، خارج من البوتاجاز، حيث كانت أمه تسخّن وجبة المساء، فتكفّل قميصه المصنوع من النايلون بالباقي، هكذا عرفنا في اليوم التالي. بعدها بقليل رحل زوج الحرس. كل سكان المنطقة ساعدوا في عملية رحيلهم. كانت يدا أبي ديدييه مربوطتين. خلال عدة شهور سأبحث عن كلمة "نايلون" علي البطاقات الملتصقة بملابسي. يوم الخميس، وبعد أن أكون استنشقت زجاجة أمي حد الغثيان، أسكب بعض المذيب علي يدي وأشعلها بعود ثقاب وأهز يدي أمامي وهي في النار، كما لو كنت أؤدي إشارات. وكنت أحرق أيضًا دمي صغيرة علي شكل جنود من البلاستيك في الشرفة، أراقبها وهي تذوب وتنكمش علي نفسها حتي لا يتبقي منها إلا كومة صغيرة متكلسة. لاحقًا سيعرّفني واحد اسمه ديدييه إلي تلك التي سأرغب في إشعالها بمجرد رؤيتها، وقد انتهت باستهلاكي. ذات ليلة، يصطحب والديّ إلي البيت رجلًا وامرأتين سويديتين -شقراء وسمراء- التقيا بهم في بار آسكوت بشارع بطرس الأول، ملك صربيا، حيث اعتادا الذهاب للاستماع للجاز. أستيقظ علي صوت الموسيقي والقهقهات الآتية من الصالون، فأنزلق بالبيجاما إلي الشرفة وأراقبهم من بين خصاص النافذة. أمي تمسك بين يديها بوجه السمراء، وتعبير وجهها مبالغ فيه. أعتقد أن إحداهما تُقبّل الأخري، لكن خصاص النافذة يحجبهما عني في اللحظة الأخيرة، وبلا طائل ألوي عنقي. هذا هو أول مشهد إيروتيكي أراه. لم أستطع أيضًا تمييز ما يفعله الآخرون، وكان يبدو أنهم مستمتعون، أبي يملأ كؤوس النبيذ ويغيّر علي الإستريو أسطوانات الخمس وأربعين لفّة، التي تتكدّس أغلفتها بالجملة علي الموكيت. ينتابني البرد بعد نحو ساعة، ولمّا لم يكن هناك شيء عجيب يحدث أعود للرقاد. ولكن الضجيج والفضول يمنعانني من النوم علي الرغم من الوسادة التي وضعتها علي أذنيّ. أنهض إذن وأجازف بالتحرّك للصالون، بحجة الذهاب إلي المرحاض.عندي أحد عشر عامًا. يسبب ظهوري انتعاشًا للجميع. فيجلسونني علي الأريكة. أمي تقدّم لي الجين مع الليمون وماء التونيك. يسألني الرجل في أي عام دراسي أنا. ويبدو أن إجابتي جلبت له السعادة. وقال أيضًا إني يجب أن أعرف أن لديّ والدين رائعين. ثم ينصرف عني الجميع. يرقص أبي مع الشقراء. تضحك أمي لما يقوله الرجل في أذنها. تنتهي السمراء بأن تغادر. لا أتوقف عن تقديم الجين لنفسي. فجأة تذيع أمي فكرة أن يستحم الجميع. يُستقبل اقتراحها بالفرح، ويأخذ الجميع في خلع ملابسهم. الأول في التعري هو الرجل، ويتدلّي عضوه رخوًا بين فخذيه. وكان مليئًا بالشعر. لم أكن قد رأيت عضو رجل حتي الآن. تهزه أمي بأطراف أصابعها كجرس وتصيح: "لكنه صغير جدًا". وتنفجر في ضحكة عصبية تقطعها شهقات كصهيل الخيل. يلهو الرجل ويقلّد طرزان وهو يضرب علي صدره. آخذًا أمي من يدها ويدخلها نحو الحمام. تصيح أمي: "هيا، الجميع إلي الماء!" وعندها استقرت نظرتها عليّ فجأة، كمن اكتشف وجودي "هيا يا جريجوار، تحت الدش، بلا كلام!" قالت بحماس. يتدخل أبي ليقترح أني ربما لا أكون ملزمًا بذلك. أتجنب أن أنظر إليه. "كما يريد" قالت أمي بمرح بينما تجري في الطُرقة مطوّحة أقدامها في كل الاتجاهات لتتخلص من ثوبها. يختفي أبي والشقراء بدورهم. أجلس بمفردي في الصالون. أرغب في العودة للنوم في سريري، لكن الحمام موجود في غرفتي. أبقي علي الأريكة، أحتسي الشويبس لأن الجين قد نفد. تأتي من الطرقة ضوضاء وضحكات وقرقعات مياه. ثم لم أعد أسمع شيئًا. أنتظرُ. يستمر هذا لفترة طويلة. لا أفعل شيئًا. أبي هو أول واحد يعاود الظهور. يرتدي بذلةً مضطرًا للذهاب إلي العمل، لأنه يشتغل هذا الأحد. وخلفه الشقراء ملتفّة بمنشفة حمام حول وسطها، شعرها في غاية الفوضي. لا أجرؤ علي السؤال أين أمي. أبي يأخذ حافظة أوراقه السوداء من عند المدخل، ويلتحف بمعطف المطر. يقول لي إني يجب أن أذهب لأنام. أطيعه. منكمشًا داخل سريري أنصت لأقل نأمة يمكن أن تأتي عبر الحائط من غرفة أبويّ، حيث أفترض أن أمي هناك مع الرجل الآخر. لكني لا ألاحظ أي صوت، فينتابني القلق. لفترة طويلة مكثت أتنصت مفتوح العينين. عبر خصاص النافذة بدأ الصبح يظهر. فنهضت ورجعت دون جلبة للصالون. الشقراء تنام علي الأريكة. تغط بهدوء. تغطيها منشفة الحمام بشكل غير كامل. قمت بزحزحتها بحذر شديد، حتي انكشف ثدياها الثقيلان، وبطنها المتثني، وعضو أشقر ومشعر أدهشني. لا تتحرك. لم أتخيل جسدها مترهلًا هكذا، مما أصابني بالاضطراب والإحباط. لا أعرف كم من الوقت بقيت أتأمل هذا الجسد الرخو والغريب، كحوت خارج البحر. متمنيًا وخائفًا أن تستيقظ الفتاة . كنت أريد أن أتمدد بجوارها وأن تأخذني بين ذراعيها، تقبلني وتتركني ألمسها. وجرؤت علي لمس ثدييها. لم تتفاعل. وظننت لوهلة أنها تتظاهر بالنوم. وفي النهاية أذهب لسريري وأستسلم للنوم. عندما أستيقظ سيكون البيت هادئًا. الرجل والشقراء قد انصرفا. أمي مصابة بنوبة حساسية قوية أدت إلي انتفاخ وجهها. علي عينيها نظّارة شمس ولا تبرح السرير. وطوال اليوم مزاجها سييء. بعدها بثلاثة أيام تسألني أمي بينما تصبّ في الحوض وعاء من القواقع: "أتمني ألا تكون قد صُدمت تلك الليلة." أشعر بالضيق فأجيبها برخاوة. تطمئن أمي فتسترسل. تبتسم وهي تقول:" كانت الشقراء جميلة، أليس كذلك؟" صوتها مليء بالتواطؤ. أبقي صامتًا. "اذهب وأخبر أباك أن الطعام جاهز" قالت أمي بعدم إلحاح، وهي تضع القواقع علي طاولة المطبخ. أفكر أن الشقراء كانت تتظاهر بالنوم إذن. من كل الرسوم المتحركة التي من المفترض أنها كانت متعة بريئة في طفولتي كانت "الجميلة النائمة" هي أكثرها تأثيرًا في نفسي. في غرفتي كنت القديس جريجوار الذي يصرع الملكة السوداء المتحولة إلي تنين. ولاحقًا كنت أقبِّل بحماس الفتيات اللائي أقابلهن، متخيلًا أني أوقظهن في النهاية، لكنهن لم يكنّ نائمات أبدًا، أو نائمات في حكاية أخري لا تنتمي إلا إليهن. لم أكن أفهم. لم أكن أتصور أن من تجذبني لا تكون -بشكل ما- نائمةً، حتي ولو لم يكن ذلك فوق الأريكة بالصالون في بيت شارع مارابوف. "يا للرعب" قال أبي متعجبًا ذات يوم، عندما صرحت لهم برأيي، في أثناء محادثة تافهة، أن امرأتين تمارسان الحب لهو مشهد جميل. "مثير للاشمئزاز" زايدت أمي. كانت غاضبة بصدق. في ذلك اليوم تعلمت أن النزعة الأخلاقية قد تنافس التهتّك. وفي أثناء وجبة أخري في أحد المطاعم، قلت لأبي إنني أحبه. بعدها مباشرة أحسست أني تحررت من ثقل ما، كمن سدّد دينًا. بدا أقل تأثرًا بتصريحي مني أنا. وفي مواجهتنا، تعض أمي شفتيها وتلوي فمها بحزن ومرارة. هناك صورةٌ تمثلنا أنا وأبي وأخي نسير في طريق بالغابة. ربما كنت في السادسة. مطبوعة بالأبيض والأسود، وبحواف مشرشرة. وتبدو فيها بهجة شهر نوفمبر. دون شك تمسك أمي بآلة التصوير بما أنّها لا تظهر في الصورة. لا أملك أي ذكري عن هذه النزهة. ومع ذلك هي أجمل ذكريات للطفولة صنعتها بنفسي. عندما نرتكب أنا وأخي حماقة تثير الغضب، تضربنا أمي بسيف "زورو" البلاستيكي الأصفر الخاصبي. نضحك تحت الضربات متظاهرين بالشجاعة، ونتمسك أحدنا بالآخر، وهو ما يجعل أمي تجن من الغضب. ولكن كل مرة كان يصيبها التعب قبلنا، وفي النهاية يسقط من يدها السيف المؤلم. وعندما تكون قد غادرت، أنظر إلي سيفي معتقدًا أنه من الخيانة أن يوجّه نحوي. كان يحدث أن يصيب أبي الملل من سماعه لثرثرتنا أنا وأخي في غرفتنا. يصرخ حينئذ عبر الحائط: "هذا يكفي وإلا سأضرب أحدكما بالآخر". هذه صياغته. ولما كنت الأخف وزنًا فلم أشك أني من سيستخدم كهراوة، وسأهتم لفترة طويلة بالطريقة التي أسبب بها أقل ضرر ممكن لأخي عندما يُضرب بي. "تتهمونني بكسر الأكواب ولكن أنا من يغسل دائمًا المواعين" تتمرد أمي من وقت لآخر. طولها مائة وستون سنتيمترًا، وعندما نشير لقامتها ترد بشكل حاسم "ربما أكون قصيرةً، لكن جسدي متناسق بشكل يثير الإعجاب".والواقع إنها ليست فقط قصيرة، يمكن أن نقول أيضًا إنها بعيدة. في بعض الأيام المتوهجة، كانت تصعد علي الطاولة وتلوح بقبضتها، وتخطب: "لو لم يتبق سوي شخص واحد، سيكون أنا". أبي طاهٍ ممتاز. في أيام الأحاد يتكفّل بالمشتريات ويعدّ الوجبات. تخصصه هو الأرانب. وعندما يكون في مزاج طيب أو يكون راضيًا عني، يداعب شعري ويقول لي "يا أرنبي الصغير". استطاعت أمي أن تتوظّف في شركة "بيجين ساي"، حيث أصبحت السكرتيرة الشخصية للمدير لويس ميرلين، الذي كان يدير أيضًا"أوروب نيمرو 1" محطة الراديو الشهيرة في ذلك الوقت، وحيث سأترك ذكري سيئة للغاية بعد ذلك بسنوات حين أعمل للمصادفة هناك، وأعيث فسادًا. ذات يوم، أعلمت مكالمة تليفونية أمي في عملها، أن سيارة قد صدمت السيدة التي تأتي بنا من المدرسة أنا وأخي. كانت سكرانة كعادتها عندما حاولت مدام ليجال أن تعبر بنا والإشارة خضراء، فوقعت الحادثة. لمستها سيارة عن قرب، فتهاوت دائخةً أكثر منها مصابة. استقالت أمي من عملها لتعتني بنا.وقد تركت بذلك موقعًا وظيفيًا واعدًا لن تناله ثانية فيما سيأتي. "أبنائي قبل كل شيء" تقول بقوة. طائش، مشاغب، غير منضبط... تابعتني هذه الصفات طوال أعوامي المدرسية، في نفس الوقت مع تنويهات "تلميذ جيد" أو "تلميذ موهوب". لا يصيبني الملل أبدًا. ذات مساء يوم خميس دعوت عندي ليري وفريتير وجرافيه، ثلاثة تلاميذ كبار من المدرسة لا يفترقون، فقد كانوا من أبناء البوابين. وفي حجرتي ابتهجوا بأشيائي، ووكزوني في ظهري، كما لو كانوا ينتقمون من استقبالهم لمرة في الشقق. في هذا اليوم تحققت من أني لا أحب أن أكون ابنًا لبواب، كي لا أكون مثلهم. هم أيضًا لا بدّ أنهم يكرهون كونهم أبناء بوابين، وبد لي هذا فجأةً. ووجدته أمرًا شاذًا أن يقيّموا وضعي المحظوظ واحتقرت احتقارهم. بيننا، اكتشفت عالمًا لا ينتمي لنا ويصيب بالمرارة، وبشكل غريزي، رفضت الخضوع له، وحتي اليوم لا يمكن لأحد أن يقول إنه عدوي دون موافقتي. في ذلك المساء، استدعتني أمي إلي الصالون. اختفت ورقة فئة المائة فرنك من فوق المدفأة. نظرتها تفتش جيوبي. وانتهت بأن أرسلتني إلي السرير ناصحةً إياي أن أفكر جيدًا. بعدها بيومين، ليري يلعب في فناء بنايتنا بمسدس جديد. نزلت السلالم فورًا. ينكر ليري أنه سرق النقود. بجانبه جرافيه وفريتير يساندانه. أحذّره أن أبوي يعرفان الحقيقة وأنهما سيخبران والدي ليري، وربما الشرطة، أو الجيش. وذكرت وأنا أحذّره كيف أننا أصدقاء مخلصون. تحمر أذنا ليري. وانتهي بأن أعطاني المسدس وما تبقّي من النقود، في مقابل وعد مني أن أحاول تسوية الأمر مع والديّ.. بينما أصعد، مزهوًا بنفسي ومن الطريقة التي أدرت بها المناورة مع الأخذ في الاعتبار فرق القوة. حين تدخل أمي، سأعطيها بانتصار الغنيمة المستردّة من الأعداء. تقول: "أهنئك علي رد النقود، لكنني لن أؤيدك أبدًا في السرقة" أريد أن أعترض، لكن حماسي أكد لأمي مسألة أني مذنب. وصمتت في النهاية. منذ هذه اللحظة لم أقل لها أي شيء آخر، كفت عن أن تكون أمي، حتي لو بقيت ابنها. عشتُ طفولةً سعيدة ذات ظهيرة في يوم أحد، تظهرُ أمي في غرفتنا، حيث نلعب أنا وأخي، كلٌ منّا في ركنه: "يا أطفالي هل أحبّكما؟" صوتها قوي، ومنخاراها رائعان. يرد شقيقي دون تردد. وأتردد أنا في تجاوز أعوامي السبعة. لدي وعي بما جري، لكني أتشكك فيما تلا. وانتهيت بأن همست: "ربما تحبيننا كثيرًا نوعًا ما". تنظر لي أمي بفزع. تبقي لوهلة ذاهلةً، تتوجّه نحو النافذة وتفتحها بعنف، وتحاول إلقاء نفسها من الطابق الخامس. تُنبه الضجةُ أبي، فيلحق بها علي حافة الشرفة، بعد أن تكون قد مرّرت إحدي رجليها في الفراغ. تصرخ أمي وتتشاجر. وتدوّي صرخاتها في الفناء. يجذبها أبي بحزم، ويحملها كجوال إلي داخل الشقة. في أثناء العراك، يصطدم رأس أمي بالحائط، ويُحدث رنينًا. ولفترة طويلة تبقت بقعة دم صغيرة علي الجدار شاهدةً علي ذلك المشهد. في يوم سأرسم حولها بالحبر الأسود دوائر، وأستخدمها كهدف للتصويب بأسهم اللعب الصغيرة، وعندما أرمي في رقم الألف، أتخيل أني أستعيد لوهلة ملكة الكلام دون خوف. كانت أمي في السادسة عشرة عندما قابلت أبي، فيما كان هو في الثامنة عشرة. كان ذلك في عام 1956 في حفل مُرتجل أقيم في رواق "بوا كولومب"، حيث كانت عائلة أبي قد استقرت بعد حرب 1939. كان أبي يُحيي الحفل بالعزف علي الدرامز، في إطار فرقة صغيرة للجاز، مكوّنة من زملائه طلبة الحقوق. وكانت أمي تساعد بغسل الصحون، بعدها بعام، كانا متزوّجين، وأنجبا شقيقي، الذي أسمياه أوليفييه، دون سبب معين أعرفه. بالكاد كان لأبي الوقت أن يري ولده: فقد استدعاه الجيش لتأدية الخِدمة الإلزامية. ولم تكن تلك اللحظة المناسبة للاستدعاء. فبدلًا من الثمانية عشر شهرًا العادية، أجبَرَت الحرب -التي لم تكن قد تسمَّت بعد بحرب الجزائر- أبي علي ارتداء الزيّ العسكري لثلاث سنوات. وقد استقر بمعسكر في تيزي أوزو، عاصمة إقليم القبائل، حيث لم يكن، وفقًا له، يحدثُ شيء عظيم. تكدّرت أمي لفراقها السريع لزوجها. واتّخذت قرارها سريعًا: تركت رضيعها لعائلة زوجها، وغادرت لتلحق بالرجل الذي أحبّته في الجزائر. بالنسبة لفتاة في السابعة عشرة، لم يكن هذا النوع من الجسارة معهودًا في ذلك الزمن. وهناك تحابّا. وبالأحري ثلاث مرات بدلًا من واحدة، حيث سقط تحت سحر أمي طبيب من مستشفي تيزي أوزو، وسريعا ما انضم للهوّهما، وكان حملها بي ثمرة أحد لقاءاتهم الثلاثية. "أنت ابن الحب"، كانت أمي تردد عليَّ طوال طفولتي، دون أن أعرف ماذا يعني هذا، أو إن كان بالأحري مُقلقًا. وعلي الملأ كانت تحب أن تذكّر ببشرتي الداكنة وحقيقة أن ملامحي لا تنتمي لآل بوييه. وعندما كشفت لي بعدها بفترة، وبناءً علي سؤالي عن حقيقة مولدي، استخلصتْ مما قالت إنها قرأته في مجلة أنّه إذا قذف رجلان في مهبل امرأة، فإن حيواناتهما المنوية بدلًا من التنافس، تندمج، لتخصّب البويضة، ويولد من ذلك جنين مشترك. وحكت لي كذلك أن أبي كان ينتصب جيدًا، وأنه كان مثلي جنسيًا، وفيما بعد، ادّعت أنها قالت ذلك لتمزح معي. أمي كان لديها من تأخذ عنه: كانت بالكاد في الثانية عشرة، عندما قام شقيقها الذي يكبرها بسنتين من الطاولة زاعقًا في الأب، الذي كان يؤنبه علي هفوة: "أنت لست أبانا الحقيقي!" في الواقع فإنه كان عمهما، الذي احتل سرًا سرير زوجة أخيه، مكان شقيقه، الذي اختفي في بدايات الحرب العالمية الثانية. ولم يكن لأمي، التي ولدت في نهايات عام 1939، أبدًا الوقت لتعرف من كان سببًا في وجودها. لا بدّ أنّها قد تذكّرته بشكل غامض، عندما قررت أن تلحق في الجزائر برجل كان هو أيضًا قد ذهب إلي الحرب، أيضًا بعد ميلاد ابنه مباشرة. وبنفس الطريقة التي استبدل بها أخ أخاه في شخصية أبيها، أصبحت هي أمًّا للمرة الثانية بين أحضان رجلين. من شقيق لشقيقه، عاشت جدّتي دائمًا، مع رجل يُدعي "بيرار"، ولم تضطر لتغيير الاسم لتبدو في زيجة مضبوطة في أعين العالم. وفي المجمل، لم يخرج الأمر من العائلة، وإداريًا فقد تم تبسيط الموضوع. في هذه الأثناء كان يجب مسح كل أثر للمختفي، وهو ما يفترض نوعًا من التركيز، لأن الأمر يتعلّق بالصمت عن شقيق وزوج وأب في نفس الوقت. وفي وسط هذه المؤامرة نشأ الأطفال. وخلال سنوات، لم يشكّ أي شخص في الحقيقة، باستثناء الابن الأكبرالذي لم تمح من ذهنه بعض الذكريات المتداخلة. بالنسبة لأمي، كان اكتشاف أن حياتها قامت علي كذبة بمثابة "صدمة" لها، كما ما زالت تتذكّر. تقول هذا، وتنظر في عينيّ بقوة. أما جدّي، الرجل البشوش، فقد عشق كلبةً صغيرةً مولّدة، كانت تتبعه في كل مكان كظله. وكان قد أسماها "ساتليت"، تيمنًا بمركبات سويوز الفضائية السوفيتية، كما أكّد، إذا تكلمنا من ناحية تناسلية، فقد اختار جيّدًا، لعشرين مرة في اليوم، كان يُصرح بالحقيقة التي احتفظ بها لنفسه، دون أن يشك فيها أحد، ولا هو نفسه. فعندما كان يصرخ في ساتليت كان يناديها سالتيه (قذارة). وفي الفرنسية القديمة تعني كلمه بيرار "الأب السييء". بوييه بدورها تعني "غابة صغيرة من أشجار البتولا". أنا أعرف إذن من أي نوع من الخشب قد صنعت، وهو ما لا يتأتّي لأناس كثيرين. عند مولدي، تم الاتفاق علي تسميتي نيكولا، ولكن لأن برجيت باردو كانت قد وضعت طفلًا أسمته نيكولا، فقد غيّرت أمي اسمي إلي جريجوار. وهكذا أصبحت "من يسهر في السهرات" وهو ما تعنيه جريجوار المنحدرة من الكلمة الإغريقية إجريجوريان. لو كنت قد تسمّيت نيكولا كنت سأكون "انتصار الشعب"، وهو ما لا يستتبع نفس المصير. ولأقنع نفسي فقد أصبحت صديقًا لفترة لواحد يُدعي نيكولا، وهو لم يعرف أبدًا ما الذي يعنيه اسمه لصداقتنا. لم يكن يحمل الشعب أبدًا في قلبه، وبدرجة أقل انتصاره. وبخلاف التقليد، لم يمنحني أبواي أي اسم آخر، مُلحقًا بجريجوار. لم يرتبط بي أي من الأسلاف سواء كان صالحًا أم طالحًا. لم أضطر لتخليد ذكري أيّ من موتانا. إليّ فقط سيرجع فضل تسمية ظلّي يومًا ما. عندما خرجت من بطن أمي، يبدو أنني كنت أضحك. النسوة الحكيمات تشاجرن معًا تقريبًا ليعتنين بي: لم يرين أبدًا رضيعًا فرحًا هكذا بقدومه إلي الحياة. بعدها بثلاثة أيام. كان وزني قد صار أقل من كيلوجرام، وحالتي أصبحت مُرعبة. ولم تستطع أمي إرضاعي، لإصابتها بخرّاج في الثدي، ورفضتُ بشكل قاطع الحليب الصناعي من ماركة "جيجوز". كذلك لم ينجح معي حليب البقرة أو الأتان أيضًا. واعتقدوا أني لن أكمل يومًا في الحياة، حتي تعطفتُ ورضعتُ حليبَ عنزةٍ، عثروا عليها بالمصادفة تقريبًا، بالقرب من مستشفي الولادة. لهذا الحيوان ذي الشخصية القذرة أدينُ بحياتي. كانت درجة الحرارة في تيزي أوزو تبلغ أربعين درجة في الظل يوم مولدي. "لم أعان أبدًا مثل هذا اليوم" تحكي أمي متطوّعةً. وتُحب أن تتذكر أنني كنت ضخمًا جدًا في آخر أيام حملها، حتي إنها كانت تضع طبقها باتزان علي بطنها بينما تتناول الوجبات. وكما حدث مع ابنها الأول، لم تشكّ أمي أبدًا في أنها تنتظر ولدًا. "لست بقادرة علي إنجاب الإناث" تقول بفخر. وهو ما لم يكن يمنعها من تصفيف شعري بمكواتها عندما تأخذها الرغبة في ذلك. وكانت تقول أيضًا إنها لا تريد أبدًا طفلًا ثالثًا، مقتنعة بأنه سيكون مشوَّهًا أو منغوليًا. ومرة سمعتها تقول مستنكرةً: "إنني أرنبة حقيقية"، لتعبر بهذه الصيغة المجازية عن موهبتها في الوقوع حبلي ما إن تمارس الحب، وأحيانًا حتي في أثناء دورتها الشهرية. هي لا تعلم حتي كم مرة أجهضت. تقريبًا خمس عشرة مرة، تعترف دون ضيق. كان أبي يساعدها أحيانًا في ذلك. ومعًا جربا تقنيات متعددة. كان ذلك يتم في الظهيرة، عندما نكون أنا وأخي في المدرسة. وفي يوم اضطرت فيه لإجراء العملية بمفردها، سرَّبت أمي ليترات من محلول "الميركروكروم" داخل فرجها لتقتل الجنين. وتم انقاذها من علي حافة الموت بعد نزيف داخلي. وضع ميلادي حدًا للمرحلة الجزائرية لأبويَّ. بمسئوليته عن طفل ثان، تسرح أبي فعليًا من التزاماته العسكرية، بالنسبة له كانت الحرب قد انتهت دون أن يطلق فيها طلقةً واحدة. وهنا كانت إحدي تبعات ظهوري علي سطح الأرض. والداي كان بإمكانهما أن يبتهجا بمواجهتهما للحدث السعيد في قلب ما كانت تعرف ب"الأحداث"، والتي بالتأكيد لم تكن سعيدة بهذا القدر. ومع ذلك، كان عليهم التخلي عن ذلك التقارب الفرنسي الجزائري الذي كرّساه في سرير لذّاتهما. وفي الواقع، فإن أمي رفضت البقاء في إقليم القبائل، علي الرغم من أن عشيقها استحثّها علي ذلك، وتفرّق الثالوث ليختفي من الوجود، إلا من عيني أمي عندما تنظر لي. لفترة طويلة امتنعت أمي عن الإفصاح عن اسم طبيب مستشفي تيزي أوزو. وعندما أفصحت عنه أخيرًا، سجّلته في دفتر ولم أعد ثانيةً للتفكير فيه. ولم أسع أبدًا للتعرف إليه. ولا هو سعي. من ملابسات مولدي تبقّي لديّ الانطباع بكوني طفل حرب، لا يفصح عن اسمه الحقيقي بين أشياء أخري. كذلك وعيي بالتاريخ غير متطابق مع الرواية الرسمية، أقل بساطة ومرضًا من تلك التي يضطلع بها المخوّلون بكتابته. وفي نفس الوقت عندما حان وقت "الحرّية الجنسية" المزعومة، كنت أنا ثمرتها قبل الأوان. لم يكن أبواي بحاجة لأي شعارات ليستمتعا بها بلا قيود. بوكاشيو وأريستوفان كانا دائما بالنسبة لي قريبين من الحقيقة، كذلك دي ساد وجورج باتاي، وبالذات ذلك الأخير لأنه يحمل في اسمه نفس الأحرف التي يبدأ بها اسمي. مكتوب في البطاقة العائلية لوالديَّ أني من مواليد 22 يونيو 1960. وفي المدرسة تعلمت مبكرًا أنه في 22 يونيو عام 1633 تمت تبرئة جاليليو أمام محكمة التفتيش الرومانية، وفي 22 يونيو 1940 وقع بيتان اتفاقية الهدنة مع هتلر في عربة قطار. ولأسلّي نفسي، كانت لدي عادة أن أكتب تاريخ ميلادي بطريقة جبرية، متوازنة تمامًا، متتالية الأرقام 22 06 60 كانت تبدو لي وكأنها تخفي متناظرة حسابية غامضة مميّزة لي هذه المرة عن الجموع. كانت سنة 1960، وفقا للتقويم الجريجوي سنةً كبيسةً، يوم 22 يونيو يوافق إذن مطلع الصيف. إنني أنا من يطيل النهارات. هكذا كنت أقول متبجّحًا لفترة طويلة. وعندما صارت حياتي أكثر ظلامًا فضّلت أن أقول إنني أنا من يقصّر الليالي. النساء الثلاث اللاتي عشت معهن حتي الآن، لديهن علي الأقل نقطتان مشتركتان. كلهن كانت لهن علاقات صراعية مع الأب، وكلهن وُلدن في الفترة بين منتصف سبتمبر ومنتصف أكتوبر. أي قبل يونيو بتسعة أشهر. بيني وبينهن كان هناك دائمًا اجتياز الشتاء والربيع. تلك التي يقترب تاريخ ميلادها أكثر من تاريخ ميلادي، ولدت في 18 سبتمبر. بعد أربعة أيام كنت سأعتقد أني في حضرة سر تناسخ روحي، كما يقولون. ولدت هي في عام 1968، كان عندي إذن ثمانيةأعوام، وبعدها بتسعة أشهر كنت سأبلغ التاسعة. وفي نفس اللحظة اختفت إلي الأبد ماري بلانش، التي كانت بالنسبة لي الأولي بينهن جميعًا. أحيانًا ما كنت أفكر أن هذين الحدثين متصلان، وأن تلك التي جاءت إلي الدنيا شهدت علي اختفاء الأخري، للحفاظ علي توازن ما، لو لم يكن في الكون، فعلي الأقل في حياتي. كان عمري ثلاثة أسابيع عندما نقلتنا طائرة "بريجيه" بمحرّكين، أنا وأبويّ، من الجزائر العاصمة لمدينة ليون، حيث كان من المنتظر أن يكون في استقبالنا أبي في العماد. واجهت رحلتنا الجوية عاصفةً لا يزال والداي يتذكّرانها حتي الآن. كنت أبكي طوال الرحلة. وكانت كل أجزاء الطائرة تقرقع، إذ تتلاعب بها الرياح والأمطار. ووجد قائد الطائرة أنه من الضروري أن يأتي بنفسه ليُطمئن الركاب. وانحني علي المهد المحمول الذي يحتويني، راغبًا أن يهدئني، فتضاعف بكائي. هذه الرحلة المتقلّبة لا بدّ وأنها قد تركت آثارها. فطوال طفولتي كان يحضرني نفس الكابوس عن وجه عابس يقترب من سريري بسرعات مختلفة، ثم يهبط فجأة نحوي، بسرعة بطيئة. كما أنني لم أغير أبدًا حبًا بحب، أو أتغيّر في حياتي أو أتخذ موقفًا جديدًا دون أن يصحب ذلك عاصفة. والفكرة هي أن التغيّر أصبح مقرونًا لدي بالفوضي، لدرجة أن الاضطراب استطاع أن يقنعني أحيانًا بفكرة التغيير نفسها. أتخيل أحيانًا أنه لو كانت السماء رائقة بين الجزائر العاصمة وليون، لاستطعت أن أجتاز بعض الأحداث بنعومة، وربما الحياة نفسها. كان أبي في العماد يقطن عند مخرج مدينة ليون في قلعة "شوفالييه دو لا بار"، الذي كان مشهورًا بأنه آخر من أعدمه النظام القديم، بعد أن تم تجريسه في موكب ديني. تحيط بالقلعة حديقة كبيرة. نوع من عزبة صغيرة من القرن الثامن عشر، قامت بلدية "فولكس او فيلين" بقصقصتها عام 1974 تاركة بناية خضراء، ذات قبح صار معممًا. تضم الآن دار سينما تعاونية. الحقول التي كانت تحيط بالقلعة عام 1961 تحوّلت اليوم لبارات وتجمّعات علي مساحة كيلومترات لمساكن شعبية تثير في ساكنيها الضجر حد الانفجار. سكن أبواي في جناح، بينما كان أبي في العماد وزوجته الشابة يسكنان جناحًا آخر. هذه الحياة المُحبّة الخفيفة استمرت لعام. وفي عيد ميلاد زوجة أبي في العماد، اشتري لها سيارة صغيرة كانت تحلم بها. ولدي خروجها الأول بها اصطدمت بشجرة جميز، وماتت علي الفور. لم يستوعب أبي في العماد أبدًا أنه قدّم الموت لزوجته هدية، وصار مرتعبًا من كل ما يحيط به. وكان علي أبوي أن يغادرا المكان. ولم يعودا لرؤية من كان المفروض أن يضطلع بتعليمي الديني أبدًا. وفي ليون سكن أبواي في حي "لا كروا روس". ولم يتم ذلك بسهولة. لم يكن لديهما أي نقود، إذ قطع أبي علاقته مع عائلته، بعد أن هدّد أباه بالزواج من "زنجيّة". بينما لا تستطيع أمي الاعتماد علي والديها بالرواتب التي يتقاضيانها كعمّال في مصانع "ميشلان"، والتي تكفي بالكاد احتياجاتهما. وهكذا، بينما كان أبي يبحث عن عمل، كانت أمي تدور علي الفنادق بحثًا عن غرفة لمبيت الليل، وكان لا بدّ لهما أن يبدّلا الفندق كل يوم، إذ أن وجودي لم يكن مرحّبًا به في مثل تلك المؤسسات.ولحسن الحظ فقد كنت رضيعًا حكيمًا للغاية، وفي أغلب الأحيان كانت أمي تضطر لإخفاء وجودي، بتهريبي داخل حقيبة،بينما هي تمرّ أمام الموظف. وكثيرًا ما حكي لي أبواي أنهما إذ وجدا نفسيهما عاجزين تمامًا، اضطرا للاستغناء عن الطعام لثلاثة أيام، للاحتفاظ بما تبقّي لهما من نقود، لمصاريف رضعتي الصناعية. بحثًا عن الموارد، انتهي أبي بأن اتصل بوالده. وقد وعد الأخير بمساعدته، بشرط أن يتخلّي عن "موسيقي الزنوج".أخفي أبي الدرامز واستقررنا في بوا-كولومب، حيث اكتشفت أن لي شقيقًا يكبرني بعامين ونصف، واكتشف هو أن له شقيقًا أصغر وأبوين. في عيد ميلاده الخامس والأربعين، أهديت لأبي درامز صغيرًا، لعب عليه في الأمسية، ثم وضعه في الصباح التالي في المخزن، ولم يعد للمسه أبدًا. في أثناء بعض الأمسيات المبهجة المنتعشة، كان يحدث أن يسمع أبي شيئا من الجاز في الراديو، فكان يفتح لفافة سباجيتي ويقسم محتوياتها قسمين، ويستخدمهما كعصوين للعزف علي الطاولة والأطباق والأكواب، وبينما يعزف كانت السباجيتي تتكسر وتتطاير في كل الاتجاهات، وعند نهاية المقطوعة لم يكن يتبقي له شيء في يديه. وبعدها لأيام كنا نجد قطع السباجيتي متناثرة علي الموكيت. كان رواق بوا-كولومب بيتًا كبيرًا تستحيل تدفئته في الشتاء. وفي الصباح كان يتوجّب الدق بالأيدي والأرجل علي السلم الصاعد إلي المطبخ، لإزاحة الفئران. كانت هناك مربّية تُشرف علينا، أنا وأخي. اسمها مدام جيومو. أفصح أخي بعد سنوات أن ذوقه في حب الرجال ربما يرجع لذلك الاسم: كان معشوقه الأول يدعي جي. لا أحتفظ بأي ذكريات لمدام جيومو، بخلاف تلك الذكري الباهتة للصفعة القوية التي ضربتني إياها، لدرجة أنها أسقطتني من فوق كرسي الأطفال، وانشرخت جبهتي لنصفين. وفسّرت مدام جيومو ذلك لأبوي، بأنني اصطدمت وحدي بزاوية الثلاجة. وتبقّت لدي من هذه الكذبة ندبةٌ، تبدو وكأنها من البارحة. كرفض من رأسي أن يحاك علي الشرور التي يحتويها. في كل الصور التي تظهرني طفلًا، تختفي تلك الندبة خلف شعري المسدل الذي يخبّئ جبهتي، عندما تركت والدي، أرجعت شعري إلي الخلف وبدت الندبة في وضح النهار طازجةً ووردية وغير ملتئمة. ومن غير النادر أن بعض الناس، وعلي الرغم من أنهم يعرفونني منذ فترة طويلة، يندهشون من ذلك الجرح الذي أحمله علي جبهتي. لم يلحظوه مسبقًا، ويظنونه حديثًا. أفسّر لهم ذلك حينها أنها أمي قد عضّتني. انتقلنا للعيش في "أوبرفيير". وذات مساء عادت أمي من العمل وتمدّدت لتستريح هنيهة. وكان أبي قد ذهب ليأتي بنا أنا وشقيقي من عند المربية. وفجأة سمعتني أناديها "ماما" ثلاث مرات. كان صوتي يصلها نقيًا لدرجة أنها اعتقدت، وهي غافية، أننا قد عدنا دون أن تشعر، وأنني أناديها من علي حافة سريرها. ولكن الوقت كان ليلًا والشقة خالية. وفي هذه اللحظة تحديدًا دق جرس التليفون ليعلن لها أبي أنني قد دخلت المستشفي لحالة طارئة. كان وجهي قد تشوّه بالبثور، ولا أستطيع التنفس وأشعر باختناق خطير. وقد اعتقد الأطباء إصابتي بالدفتيريا التي كانت مرضًا قاتلًا في ذلك الوقت. لتجنّب أي نوع من العدوي، تم وضعي في حَجْر صحّي بغرفة منعزلة. وكان والداي لا يستطيعان الاقتراب مني، ومن خلف لوح زجاج، كانا يرسلان لي قبلات لم تصل أبدًا. فقط الممرضون بأقنعتهم وقفازاتهم كان لهم حق الدخول عندي. وكانت أمي تبكي لرؤيتي في هذه الحالة. وللمرة الأولي كان حبها عاجزًا. هذه الحالة من العزلة التامة استمرّت سبعة أيام بسبع ليال، حيث واصلتُ الهزال داخل ذلك التابوت الزجاجي، حتي إنهم توقّعوا موتي. كان عندي بالكاد أربع سنوات. كشفت التحاليل في النهاية أني مصاب بنوع من البكتيريا العنقودية. وتكفّل البنسلين، الذي كان دواءً حديثًا في السوق أيامها، بالقضاء علي مرضي. وفقدت في هذه الأثناء حاسة الشم، وهو ما لم يلحظه أحد. أنا نفسي أخفيت ذلك الأمر طويلًا خلف استراتيجيات استطعت تطويرها. أُعلن مثلًا بحماس أن طعم الليمون زائد في السلاطة، بعد أن تكون قد فاجأتني إحدي بذوره في الصلصة. لو كنت ذكيًا فذلك لأني استطعت أن أخدع عالمي أني قد صرت كذلك: ألم يكن عليّ أن أدرس المظاهر لأعطيهم معني كنت قد فقدته. وهكذا عرفت مبكرًا أن المحتمل لا يختلط أبدًا بالحقيقة، ولا ماهو حقيقي بتمثيله، وهو ما أبعدني سريعًا عن عصري. إذن فقد أصبحت شديد الانعزالية في فترة مبكّرة،ليس فقط لأن عليّ أن أخفي عجزي عن الشم، ولكن لأنه لا تواتيني أي رغبة في فعل ذلك وسط الناس، إذ كان بإمكاني خداعهم بمنتهي السهولة. في حدود سن العاشرة، جرؤت للمرة الأولي علي الإفصاح عن عاهتي. "لا تقل سخافات" قالت لي أمي. فلم أعد للكلام في ذلك، وأمعنت في تطوير ملكاتي الذهنية. في المدرسة الابتدائية، حصلتُ علي أعلي الدرجات في التعبير، إذ حكيت عن سوق مراكش، بألوانها المدغدغة وروائحها المُسكِرة. وقرأت المعلّمة موضوعي أمام كل الناس، بل حتي إنها مرّرته علي الفصول الأخري. كان هذا أول نجاح لي في العالم. وقد جعلني ذلك أفكر في الأدب وفي الدجل: فأنا لم أذهب أبدًا إلي مراكش ولا أملك حاسة شم. "العنقوديات الذهبية"، لطالما فتنني هذا الاسم. لم أكن فقط فخورًا بأني مرضت بذلك المرض الذي يثبت صعوبة بالغة في إملاء حروفه، بل كنت أتلذّذ بمغامرةالجنوح اللفظي، بعيدًا عن معجمي اليومي. كان ذلك كالتلفّظ بكلمة بذيئة بكامل الحصانة. أو كالتكلّم بلغة محظورة. وفي أحد القواميس اكتشفت أن ذلك المرض الذي كدت أموت به، كان يُسمّي أحيانًا ب"داء الملوك". استنتجتُ أيضًا أن الموت كان استثنائيًا وغامضًا لمّا كان اسم المرض طويلًا ومعقّدًا. لم أكن لأتراجع عن هذا. كل مرض يقل اسمه عن خمسة عشر حرفًا منذ تلك اللحظة لامعني له. وعندما اتضح أن أبي مصاب بالسرطان، لم ينتبني القلق بشأنه، إذ لم أتخيل أن كلمة من خمسة حروف يمكن أن تقضي عليه، بينما كان ذكالجميع- قلقًا، علي الرغم من ذلك، ففكّرت أني عديم الإحساس. وفي المقابل، صدمتُ عندما أدخلوه المستشفي، بسبب التهاب حاد في الغشاء البريتوني: وفجأة، بدا لي موته قريبًا بشكل رهيب، لدرجة أني شعرت بالتوعّك في الغرفة التي كان يرقد فيها، مع ذلك فقد نجا أبي منها، وعلي حافة سريره، كانت أمي تمزح. وطلب هو ألا نضحكه، حيث كانوا قد خاطوا له بطنه للتو، وأقل تقلّص سيصيبه بمضاعفات. لقد عاني أبي كثيرًا، وفي صمت. كان "العنقوديات الذهبية" هو المرض الوحيد الذي أدخلني المستشفي في طفولتي. فالتهاب اللوزتين، والناميات الخبيثة، والتهاب الزائدة الدودية، كلها نجوت منها. وما رفضته دوما هو أن يختنوني. علي المائدة كان يحلو لأمي أن تحكي أن الحكيمات في مستشفي تيزي أوزو، بينما كنّ يغسلنني من سوائل الولادة، قد سألنها بصوت ماجن فيما يبدو "هل تريدين أن نقطع له؟" وإذ تقول هذا، تنفجر أمي في الضحك، وتردّدها أكثر من مرة، كما لو كانت تغنّي "هل تريدين أن نقطع له؟" وهو ما كان يجعلها تتلوّي أكثر، ومعها الضيوف. لم يهتم أحد بأن يشرح لي أن الأمر كان متعلّقًا بختاني. وهو ما لم يكن ليغيّر شيئًا من الأمر إذ إن أمي تضحك أصلًا من سوء التفاهم. ولكن أنا كنت أرتعد لسنوات من فكرة أنهم يقرّرون جنس الأطفال بعد مولدهم، وأنني أصبحت ولدًا لا بنتًا وفقًا لإرادة أمي فقط. ماذا لو كانت قالت نعم؟ ومنذ إصابتي بالعنقوديات الذهبية، لم أسقط مريضًا أبدًا، وبدت حياتي وكأنها تسير منذ نحو أربعين عامًا في حالة توافق مع بنيتي الجسدية، أو العكس صحيح، وذلك علي الرغم من بعض الإفراط، أو لهذا السبب نفسه. لم أعان أبدًا من الإمساك ولا من آلام الصداع. ولا أسمّيهما أمراضًا تلكما المرتان الوحيدتان اللتان اضطررت فيهما لدخول المستشفي: الأولي بسبب كسر مضاعف في الفك بعد الاعتداء عليّ في ردهات المترو، والثانية بسبب قطع تام في وتر الكعب في أثناء مباراة في تنس الريشة بينما تقترب ولادة ابنتي. والحقيقة أني لا أحتفظ بأي ذكريات عن العنقوديات الذهبية. أو بالأحري لا أملك أي ذكريات غير تلك صنعها أبواي، وهما يتكلّمان عن ذلك الحدث الأكبر في طفولتي كأكبر المخاوف التي تعرّضا لها في حياتهما. لم تتنوّع روايتهما أبدًا. فلمعرفتهما أن ذلك المرض يصيبنا نتيجة شرب الماء الآسن وأني لا بدَّ قد أصبت به نتيجة لَعْقي لزجاج نافذة القطار الذي كان علينا ركوبه مساء كل أحد، للعودة من بيت جديّ. "كنت تضع كل شيء في فمك" تؤكّد أمي. بعد نحو خمس وعشرين سنة قابلت فتاةً شابة في قطار كان يقلّني من برلين، كانت نائمةً مستندةً علي شبّاك العربة، وعندما مررت في الطرقة، فتحت عينيها وبدت وكأن صورتي قد اختلطت بحلمها: وفي اللحظة التالية كانت ورائي متعلّقةً بكل حركة من حركاتي، وأحبتني لسبع سنوات تالية حبًا عنيفًا أمسك بتلابيبي. كانت تُدعي لورنس. ربما من الخطأ أن نعتبر "الماء الآسن" اسمًا. وكانت تعاني أيضًا من مرض جلدي. أنفجر في الضحك، عندما أتبيّن أن هذا اللقاء قد أعاد تركيب ما قد حكاه لي أبواي عن كيفية التقاطي عدوي العنقوديات الذهبية في أدق تفاصيله.أكفّ عن اليأس من حب كان يبدو لي حتي لحظتها قاهرًا وكارثيًا. فصدمة الغرام التي شكّلها لقاؤنا كانت صدمة سامة. ألم أتوقع ذلك من قبل؟ بعد لقائنا بقليل، قالت لي لورنس "أنت تعجبني" وبما رددت وأنا أظن نفسي أتخابث: "عن أي جرح تتكلمين حضرتك؟ فقد حافظت علي مخاطبتها بصيغة الاحترام فترة طويلة. ولم تخب توقعاتي. فقد توالت سبع سنوات عاصفات، أسوأ من سنوات السيست مع سيليمان، أو للملذات الوحشية التي لا تنتمي إلا لعالم الأمراض، المظاهر الأخيرة للحياة عندما لا يتبقي لها خيار آخر. انتهت فترة الحضانة لعلاقتنا سريعًا. حيث تدهور كل شيء بعد بضعة أشهر رائعة محمومة. كان لديها نوع من العدائية تجاهي، متواصل في البداية ولكن في النهاية انتهي بأن استسلمت لذلك الشعور ليلتهمها. كانت تخالفني بخصوص أي شيء، ولم نكن نتفق علي أي شيء، سوي في السرير. في كل لحظة كانت تبتزّ مشاعري، لكنها لم تكن تحبّني أبدًا فوق ذلك إلا عندما أكون غائبًا، كان ذلك كما لو كان حبها لي يريد أن يستغني عني، وكنا كالليل والنهار في إنهاك من اختلافهما المتواتر. في بداية الصيف أعلنت لها أنها ليست فتاة بالنسبة لي. أشياء كثيرة كان تصدمنا الواحد في الآخر، وما يلي ذلك لا يمكن أن يكون سوي كارثة، ولم يكن لديها أيضًا سحر عدم التوقع بتصرفاتها. كانت لورنس ترفض الاستماع إليَّ. كنا جالسين علي سلالم إحدي الكنائس. وأرادت أن نتزوج. وقد طردتها في أكثر من مناسبة، لتعود في كل مرة، وكنت أستسلم دائمًا. كنت أمقت ضعف الشخصية الذي أصابني حيالها. حتي الليالي التي قضيتها في أسرّة أخري كانت تقودني إليها. لم يكن أحد قادرًا علي المتعة مثلها. كان يكفي أن تلمس نهديها حتي يأخذ جسدها كله في الارتعاش. عيناها شديدتا الزرقة كانتا تجنحان نحو الأسود البحري ولا تثبتان علي شيء، وكنت أشعر أنني مشفوط داخل عدم يخبرني بأني لا شيء، ولا حتي تراب، ولا ذرة. لأحاول العودة للوجود كنت أقذف، ثم أنتصب، في إثارة مستمرة. معها كان الحب يعبّر عن نفسه كتراكم ضخم للذات، والذي كان يحيلني، كما لاحظت، إلي كائن هزيل مائع. كل يوم كانت لورنس تهاتفني لتخبرني أن أعتني بنفسي، وفي فمها نبرة حنان تدوّي كتهديد. كما كان لها طريقة لتقول لي "أحبك"، تكشف عن عشيق آخر، علاقة أخري جديدة، لم تكن غيرةً، فأنا لم أكن أطلب منها التفاني في الإخلاص، ولا أن تُمعن في إذلالي بذلك الشكل المفضوح. عدد قليل من أصدقائي كانوا يرفضون مبادراتها. ودون أن تكفّ عن ترداد أنها تحبّني، كان سلوكها يدوس بدقة علي كل ما كنت أعتبره قيمًا، ورأيتني أرتكب الخيانة بحق نفسي باحتمالي لما لا يُحتمل. "قلقك من الموت يغتالني"، قلت لها مصرًّا علي إفهامها. أعلنتْ بوضوح وبقوة أنّها تحب كل الرجال، كتلك التي كنت أعرفها قبلها عندما اعترفت بالنقيض، وكان عليَّ أن أجابه نفس النفي. نفس الخوف. كانت تتصرّف كأنّها تريد أن تأخذ مكاني، ورأيتها تحاول أن تصنع مني امرأتها، وفقًا للفكرة المعروفة التي تقول إن الرجل لا بدَّ وأن يتصرّف كوغد. وفي يوم ظنّت أنه سينمو لها قضيبٌ، كان الأمر عبارة عن خُرّاج له شكل قضيبي بطريقة مذهلة، نصحتها أن تذهب لتري الطبيب. "أنت لا تحتمل أبدا أن يحدث لي شيء طيب" ردت وهي تغلق فخذيها. واستمرت في التردد علي الاختصاصي لفترة طويلة. فكرة أن أقاومها كانت تجعلها تجنّ. كانت تعتقد أني أتبع تكتيكًا معينًا. أو أني أعاني من مشكلة نفسية لا بدَّ أن أعالجها. وكان لديها حلول لحالتي. "لابدَّ أن تكفّ عن رفض الحياة" كانت تقول لي. وأرد عليها "لا تعتبري نفسك الحياة. أنا لا أرفض سوي الحياة التي تقدّمينها. وهو ليس خطئي فالأمر يكمن هنا" وهكذا علي التوالي، لمدة سبع سنوات. ما كانت تفعله باللغة كان أكثر شيء يخنقني. كان لديها كلمات تملأ الفم وأخري فارغة، وأخري كونية تقذفها في الهواء دون تحسّب لأين ستقع. لا شيء مما كانت تقوله كان يلزمها. كان بإمكانها أن تقول ما يتناقض مع ما تفكّر به، وتتصرف بنفس الطريقة. لقد كان ذلك مبدًأ. الاستمتاع كان يقوم لديها مقام التفكير. كانت ترغب في الانتفاع من كل شيء. الانتفاع كان كلمتها. يجب أن ننتفع ولكن أن نحب أن نعيش، أن نكون، لم تكن نوعا من الانتفاع بالنسبة لي. كان الأمر يتعلق بأفعال مختلفة. العالم لم يكن كعكةً يجب التهامها قبل أن يفوت الأوان. أي عالم؟ أي كعكة؟ علي الرغم من نهديها الصغيرين وحساسية بشرتها المفرطة، لم أكن أستطيع تحمّل تركيب جملها. عندما كانت تتكلم تكون ملايين الناس، وكان ذلك كثيرًا من البشر بالنسبة لي. كل يوم كانت تركل التليفزيون الذي كنت أنتهي بمشاهدته كسكران، كي لا أري أو أسمع شيئًا آخر. لم أكن أريد أن ينتهي بي الحال كأونراث. العقاب الذي كانت تبحث عنه كان يبدو لي غريبًا. الصفعة القوية التي ضربتها بها مرةً لم تجلب لي أي لذة. لم يكن مَثَلي الأعلي أن أكون قوادًا أو جيجولو. وعلي أنقاض مشاعري العائدة تجاهي، لم أعد أهتم إلا بتكوين أجساد مضادة لها. وهكذا كان بقائي علي قيد الحياة، فيما أعتقد، كان عليّ أن أقاوم أربع سنوات العدوي التي أصابتني من الداخل كي لا أموت. تعلّمت كراهية نفسي، ثم الاشمئزاز منها. وذهبت حتي التلصص علي تليفونها كي أتنصت علي محادثاتها بأمل اكتشاف ما فاتني من تفاصيل في علاقتنا. وقد بلغت حد التقيؤ في الحمام عند سماعها تتكلّم عني. كانت تضحك بشكل رائع. وبعد إنهائها للمكالمات كل مرة تقريبًا كانت تجيء لتحييني في مكتبي الواقع في نفس الطابق، وكما لو كان بالحركة البطيئة كنت أراها تتقدّم مبتسمة نحوي وتحيط عنقي بذراعيها، وتقول لي إنها تحبني. وعرفت حينئذٍ ما الذي تعنيه الشفقة علي الذات. لم ينج عشاقها من الرجال والنساء من تلك المحادثات، وقد قدّرت الطريقة التي تروّج بها لصعودها الاجتماعي: كانت تقدّم نفسها لكل شخص، وتجعله يعتقد أنه الوحيد، كان ذلك بتملّقهم جميعًا بنفس الدرجة. الشكل الذي كان يتخذه بؤسها كان يؤثر بي، لو لم تكن تضعني في منظارها الموازي. كنت سأضحك من دروس الأخلاق التي تعطيها، لو لم تكن تصدّقها هي نفسها. كان ذلك فوق طاقتي. كنت متدهورًا لدرجة أني لا أجرؤ علي الثقة في أي شخص. كانت حياتي تشبه غرفة معزولة لم أعد أستطيع الخروج منها، وحيث أُحتَضر بلا نهاية. كنت أشعر بالعار من نفسي. أتهم نفسي بعدم القدرة علي الحب أو علي ترك نفسي كي تُحَب. كنت أرتعد لدي رؤيتها تقترب. مشاركتها نفس الهواء كانت تخنقني. كنت آوي إذن لثورات الطفح الجلدي أو إلي شعري خلال المعركة، وهي الأماكن الوحيدة التي كنت أجد فيها الملجأ. ولكني لم أكف عن الرجوع إليها كل ليلة. لكني كففت عن الاعتقاد في وجود فتاة صغيرة يرتعش ذراعاها مطبقة قبضتها بيأس خلف ظهرها. وتيقنت أن العنقوديات الذهبية لا يمكن أن نعقد معه معاهدة صلح. قضت واحدة اسمها انستازي-لويز وهو ما يظل بالنسبة لي الاسم المثير للبنسلين علي آلامي. لقد أخذت بيدي في منتزه شاتو، وكان مرحها القادم من جزيرة ترينداد بمثابة ترياق للألم الفرنسي الذي حطّمني. كانت لي كنبتة المولي التي قيل إنها حمت عوليس في الأوديسا من القوة الجنسية لسيرس، الساحرة التي حوّلت البحارة الراسين علي جزيرتها إلي خنازير. جويس الذي تذكر هذه القصة لاحقًا، جعل من مولي شخصية في روايته "عوليس"، في حالتي لم تكن روايةً. ثروتي العريضة كانت دائما لها أسماء بحرف الياء: ليلي كيم، فاليري، أوريلي، ميلاني كارولين، وعدد من الناتالي وبعض الكاترينات، بيرجيت، وكورين... معهن كنت أشعر دائمًا أني منتعش وأدين لهن بعدم إصابتي باليأس من الحياة. ومن جهة أخري النساء الثلاث اللائي عشت معهن هن جاييل وفابيان ولورانس. بالنسبة لي فإن الحب هو مسألة حروف متحركة. وعادت انستازي إلي بلادها. فكرت قليلًا أن ألحق بها، حتي أعلنت لي لورانس أنها توقفت عن أخذ الحبوب. وبعيدًا عن أنّها فاجأتني، فقد بدا لي قرارها أكيدًا. لقد نجّاني البنسلين ولكن أليس من المنطقي أن يكون مبرمجًا علي إخراجي من الغرفة المعزولة؟ فكرت أنها مجرد أيام سعيدة أعلنت عن نفسها وتخليت عن انستازي. أصبحت لورانس حبلي. وقد تكون المرة الأولي التي أشعر بالاتفاق معها كأن حجابًا قد تمزق فأعادها لي. وكففت فجأة عن أن أكون رجلًا في الرابعة من عمره. وأحببتها في النهاية دون تحفظات. وعندما ولدت الطفلة الصغيرة كانت فرحة استثنائية. كانت لها عيناي وجبهتي. بعدها بتسعة أشهر أعلنت لي لورانس انفصالنا. كان لا بدَّ لها أن تصير أُمًّا كي تقرر ذلك "أستطيع أن أتركك بعد أن صنعنا طفلًا، أعرف أنني لن أفقدك إلي الأبد" هكذا قالت لي عبر الهاتف. وقد حفرت هذه العبارة أنفاقًا بداخلي كحيوان خُلد تم حبسه داخل جسدي. "لكنك تفقدينني منذ البداية" صرخت كالمجنون في السماعة "عن أي أب تتكلم أنت؟" ردت هي بهدوء. كانت العقد قد عُقدت. ظننت ساعتها أنه لن يبقي بي شيء أصيل بعدها. لقد كان الأمر هكذا، الإصابة بالعنقوديات الذهبية. والمدهش ان لورانس لعبت الدور الذي رسمه لها مرضي (ودون شك لعبتُ أنا في أحلامها دور الشخصية المقدرة لي). لقد اخترتها بشكل كامل، ودونها لم أكن لأستطيع تجاوز ظلامي. لقد أعدّت لورانس كل شيء كي لا تخرج أبدًا من حياتي لدرجة إنجاب طفل، أو أن العنقوديات الذهبية سلالة مرضية لا شفاء منها: تعشش في ثنايا الجسد، وحيث الميكروبات تكمن فقط بعد تعرضها للمسار المدمر للمضادات الحيوية، تنتظر استيقاظها بفضل أي ظروف لا نعلمها. لو كان أبواي قد حكيا لي أني سقطت مريضًا بطريقة أخري، وأنا أتدحرج علي الأعشاب علي سبيل المثال، أو وأنا أبتلع الحصي، فبلا شك كنت سأقع في غرام واحدة أخري، وبالتأكيد ليس في قطار. وهو ما لا يغيّر شيئًا من فكرة أنيكان يجب أن أعيش من جديد ما كنت قد نسيته. من كل الأسباب التي يمكن أن تدّعي تفسير حب بائس، فأنا أفضّل قصة العنقوديات الذهبية. نعتقد أننا نفكّر في كل شيء، بينما نحن ننسي أمراض الطفولة. لزمت لي سنوات عديدة قبل أن أستعيد شهيتي للحياة، وحريتي في التفكير والحركة. كنت قد تجاوزت الأربعين بالكاد. ومنذ عمر العشرين كنت أردّد لنفسي دائمًا أن حياتي لن تبدأ بشكل واقعي إلا حين أبلغ هذا العمر. هذه القناعة حافظت عليّ متماسكًا، وسمحت لي بكل الأحلام. وأيضًا حالت دوني والانتحار، وربما دون موتي صغيرًا. ولم أكن مخطئًا: بتجاوزي للأربعين، جاءني الانطباع أني بدأت أحيا، كما لو كان كل ما سبق هو حياة بين قوسين. متأخرًا جدًا بالتأكيد لاحظت أن الأمر لم يكن يتعلّق بأي أربعينيات، ولكن بتلك التي وضعوني فيها في عمر أربع سنوات، لتلافي كل أشكال العدوي. لقد خرجت منها معافي وانتهت بي الحال أن اقتنعت أن لا حياة بالنسبة لي قبل الأربعين. كانت حدود عالمي هكذا كلمة من أحد عشر حرفًا. وقد تألّمت عندما لاحظت أن حياتي تشكّلت من اللغة. وفكّرت لو كان الحجر الصحي "الكارنتين أو الأربعينية" لطفولتي لها اسم الثلاثينية، لما كنت مضطرًا أن أنتظر حتي الأربعين لكي أدرك ذلك. وعند معرفة أي حاسة سأفقد هذه المرة في المعركة، أعتقد أنها حاسة إدراك الاتجاه، وهو ما أصبح عيبًا لديّ اليوم، لم يكن موجودًا قبل أن أسقط مريضًا بلورانس. إن تحقيقًا يصف كيف تأرجح القطب الشمالي المغناطيسي علي محوره، ليستقر في منطقة الأردين لم يُثر عجبي في وقتها، ولم أدرك للحظة أن الأمر يتعلّق بكذبة أبريل. سقطت الصغيرة مريضة في صبيحة اليوم التالي لمغادرة لورانس. وبعدها بعام أجريت لها جراحة في الحالب الذي كان قد نما لديها بإفراط مما كان يهدد بتدمير كليتيها. وفي نفس الفترة كانت تعاني كل شهر بمستشفي "نيكر" من الحقن التي كانت تخترق أوردة ذراعيها أو قدميها أو جبهتها الدقيقة جدًا، حتي يؤخذ منها ملليلترات من دمها بغرض التحليل. كانت تبكي بينما أمسك يديها وأكلّمها بلا انقطاع. وفي إحدي المرات أرادت ممرضة غير ماهرة ومرهقة أن تقطع لها الشريان السباتي، بينما هي تعجل من العملية. وكان لابدَّ أن أتعصّب لتحجم عن ذلك. عن هذه المرحلة من حياتها، لا تعرف الطفلة إلا ما قلناه لها أنا وأمها. ومن وقت لآخر تبدي فضولًا ولا بدَّ أن نحكي لها عما عاشته ولا تحتفظ منه بأي ذكري، حتي لو كانت ذاكرتها لم تنس شيئًا من خبرة الموت التي عانتها في هذه الواقعة. عندما أفكر فيما يمكن أن يعنيه هذا أرغب في تمزيق الأرض والسماء. لم تستمر الحياة في أوبرفيييه. استجابة لإعلان صغير وجد أبواي نفسيهما سعداء بتغيير شقة الإسكان الشعبي بالضاحية المملّة، إلي شقة من ثلاث غرف في شارع ماربوف بباريس، علي مبعدة خطوتين من الشانزيليزيه. وهكذا بلغت السنوات الخمس في العاصمة التي لم أُضطر لمغادرتها أبدًا. ومن هذه اللحظة فإن ذكرياتي تنتمي لي. أفكّر أحيانًا فيما كان يمكن أن يحدث لو بقينا في أوبرفييه. إعلان صغير عن العقارات ً قرر مصيري أيضًا. ودارت طفولتي في محيط صغير محدود شمالاً بشارع بيير شارون، وفي الجنوب بجادة مونتاني، وفي الغرب جادة جورج الخامس والشانزليزيه في الشرق. كنت أذهب لشراء الخبز من شارع الرينسانس، ومكتب البريد كان بشارع التريموال، ومتجر الألعاب بشارع كليمون مارو، وتقبع مدرستي بشارع روبرت استيان، الذي هو طريق مسدود. وعن طريق نزوة إدارية التقي كل رجال القرن السادس عشر أسفل بيتنا، وكنت أقوم بالصهيل في كل مرة أمرّ بشارع بايار، لم يكن هناك إلا شارع ماربوف الذي يحمل اسمًا مبتذلًا. ومع ذلك هو الوحيد الذي يستحق لوحته، بما أنه استخدم في توجيه المواشي إلي مورد المياه حين كان الشانزيليزيه مجرد حقول بالفعل. قرب نهاية الشارع قام أحد المصارف حيث عاش أرسين لوبين. وفي عام 1995، سبّب انفجار قنبلة سقوط عدّة جرحي بمجرد ما مرّت أمي، التي كانت ذراعاها محمّلتين بالمشتريات، إذ هي عائدة من متاجر بريسونيك بالشانزيليزيه. نسكن شقة من ثلاث غرف بالطابق الخامس، دون مصعد. كنا نصل إليها عن طريق سلم الخدم الكائن بنهاية الفناء. في كل مرة لا بدَّ أن نمرّ أمام الركن الذي تتراكم فيه القمامة. المكان غير مضاء دائمًا وأتخيل وحوشًا تتربص بي في الظل. في أحد المساءات وبينما أنزل بالقمامة مرق من أمامي جرذ سمين من جرذان المجاري. فطوحت أكياس القمامة بشكل عشوائي وهربت. كانت شقتنا مستطيلة. نشغل أنا وشقيقي نفس الغرفة في آخر الطرقة، وكان لها جدار مشترك مع غرفة أبوينا. ننام علي سريرين يعلو أحدهما الآخر، حيث كنت أشغل السرير الأسفل. لمدة طويلة كان أخي يتبوّل في سريره فوق رأسي. الحمام كان يشغل ثلث مساحة غرفتنا، وحيث يحمي بارفان مدخله من النظرات لكنه لا يمنع الأصوات. في كل غرفة هناك نوافذ وأبواب تطل علي الشرفة، والتي تطل بدورها من الطابق الخامس علي فناء البناية. ومن نافذة ببير السلم، تقع بين الطوابق بنحو مترين، بإمكان المرء أن يثب فيقف علي الدرابزين، ثم يقفز فيطال أحد عوارض الشرفة، وبارتكازه علي قوة ذراعيه بالاتكاء علي الحافة، يقفز بعد ذلك داخل الشرفة فيكون في بيتنا. وفي الاتجاه المعاكس، فإن الأمر أكثر تعقيدًا لأنه سيكون عليك أن تتأرجح لجزء من الثانية في الفراغ، قبل أن تحطّ قدمه علي درابزين النافذة، وفي تلك اللحظة يكون مستحيلًا عليك أن تري ما تفعل. عندما أكون محبوسًا يوم الخميس في غرفتي، أو في المراهقة، عندما أخرج في المساء سرًا كنت "أعبر من الشرفة" مرتجفًا من الخوف في الظلام، وفخورًا بتجاوزه. ينظّم أبواي الحفلات في مناسبات كثيرة. وفي حفل تنكّري تحوّلت أمي لأميرة شرقية، بينما أبي يرقص معها في زي الملك فرانسوا الأول. هناك دائمًا أصدقاء في البيت. في إحدي المرات تحدي ماكس أبي أن يتعرف علي من يعزف الدرامز في المقطوعة التي وضعها في جهاز الأسطوانات. ومخبئًا خلف ظهره غلاف الأسطوانة ذات الثلاث وثلاثين لفة التي أحضرها معه. أجلس مرتديًا بذلة أمام سماعات الإستريو الضخمة، تحاول عيناي اختراق الغموض الذي يخرج من السماعات. يحبس الجميع أنفاسهم. يستمر هذا لفترة طويلة. وفجأة يخرج صوت أبي بوضوح: "إنه سام ووديارد علي اليمين وسوني بين علي اليسار". يصفق الأصدقاء. تشعر أمي بالزهو. ماكس يهنئه. وأنا فخور بأبي، وفي نفس الوقت يتسرب داخلي شعور غامض: حيث كنت أنتظر اسمًا واحدًا فقط، كان هناك اثنان. ماكس هو أفضل أصدقاء والديَّ. ضخم جدًا، يرتدي كوفيات من الحرير حول عنقه وبدلات بأناقة لا تخفي. عندما يصل في مكان ما، يكون دائمًا كنجم. وهو عاطل بشكل مستمر. يقدم نفسه لأصحاب العمل المحتملين مرتديا ثيابًا فاخرة، مدخنًا السيجار أحيانًا، متعاملًا معهم باستعلاء. وحدث أن أحد أصحاب العمل قد تم إغواؤه بهذه الهيئة ورغب في الاستفادة منها، وجرؤ علي تشغيله ليبيع بوالص تأمين أو أي شيء كهذا، وينتهي الأمر دائمًا في محكمة العمل. أعشق ماكس لفترة طويلة كنت أتخيل أنه أبي الحقيقي. هو أيضًا ضاجع أمي. الغرام الكبير لماكس تُدعي مونيكا. تشبه لويز بروكس لكنها بحجم أصغر. في حادث سيارة، اخترقت الزجاج الأمامي للسيارة وبقيت مشوهةً. لشهور يذهب ماكس لزيارتها في المستشفي فلا تتعرف عليه. آخر مرة أري فيها ماكس، كان يعيش مع امرأة ضخمة بساق في الجبس وذراعين مشعّرين. ولديهما ابن أسماه ماكس بوريس، تخليدًا لذكري فيان. وذات مساء، سيغلق ماكس غرفته عليه ويطلق رصاصة من بندقية داخل فمه. سيحتفظ أبي بخبر انتحاره لنفسه فترة طويلة. كل الإجازات المدرسية، نقضيها أنا وشقيقي في سان جيرمان أو لي بمنطقة إيفلين، حيث انتقل جدانا للعيش في بيت علي حافة الغابة. كنت كل مرة أجد ديدييه، ابن الحارسين. معًا نتسابق بالدراجات، ونبني أكواخًا، ونصيد الضفادع. ولكن في نهاية ظهر يوم ما، وحين كان يدور بدراجته حول البيت الصغير الذي يسكنه والداه، يأخذ ديدييه في الصراخ ويقفز قفزات في مكانه متبوعًا بألسنة صغيرة من لهب أزرق. يندفع أبوه ويحاول أن يمسك بولده الذي يتلوّي علي الأرض، يعطيه ضربات علي كل جسده، ويجرّه علي الأرض، ويحاول أن ينزع ملابسه. كانت أم ديدييه تتابع المشهد ويداها علي فمها. كل شيء حدث بسرعة شديدة. مات ديدييه ساعة أن نقلوه المستشفي. بينما يمر أمام نافذة المطبخ المفتوحة غلّفه تيار هوائي بتسرّب للغاز، خارج من البوتاجاز، حيث كانت أمه تسخّن وجبة المساء، فتكفّل قميصه المصنوع من النايلون بالباقي، هكذا عرفنا في اليوم التالي. بعدها بقليل رحل زوج الحرس. كل سكان المنطقة ساعدوا في عملية رحيلهم. كانت يدا أبي ديدييه مربوطتين. خلال عدة شهور سأبحث عن كلمة "نايلون" علي البطاقات الملتصقة بملابسي. يوم الخميس، وبعد أن أكون استنشقت زجاجة أمي حد الغثيان، أسكب بعض المذيب علي يدي وأشعلها بعود ثقاب وأهز يدي أمامي وهي في النار، كما لو كنت أؤدي إشارات. وكنت أحرق أيضًا دمي صغيرة علي شكل جنود من البلاستيك في الشرفة، أراقبها وهي تذوب وتنكمش علي نفسها حتي لا يتبقي منها إلا كومة صغيرة متكلسة. لاحقًا سيعرّفني واحد اسمه ديدييه إلي تلك التي سأرغب في إشعالها بمجرد رؤيتها، وقد انتهت باستهلاكي. ذات ليلة، يصطحب والديّ إلي البيت رجلًا وامرأتين سويديتين -شقراء وسمراء- التقيا بهم في بار آسكوت بشارع بطرس الأول، ملك صربيا، حيث اعتادا الذهاب للاستماع للجاز. أستيقظ علي صوت الموسيقي والقهقهات الآتية من الصالون، فأنزلق بالبيجاما إلي الشرفة وأراقبهم من بين خصاص النافذة. أمي تمسك بين يديها بوجه السمراء، وتعبير وجهها مبالغ فيه. أعتقد أن إحداهما تُقبّل الأخري، لكن خصاص النافذة يحجبهما عني في اللحظة الأخيرة، وبلا طائل ألوي عنقي. هذا هو أول مشهد إيروتيكي أراه. لم أستطع أيضًا تمييز ما يفعله الآخرون، وكان يبدو أنهم مستمتعون، أبي يملأ كؤوس النبيذ ويغيّر علي الإستريو أسطوانات الخمس وأربعين لفّة، التي تتكدّس أغلفتها بالجملة علي الموكيت. ينتابني البرد بعد نحو ساعة، ولمّا لم يكن هناك شيء عجيب يحدث أعود للرقاد. ولكن الضجيج والفضول يمنعانني من النوم علي الرغم من الوسادة التي وضعتها علي أذنيّ. أنهض إذن وأجازف بالتحرّك للصالون، بحجة الذهاب إلي المرحاض.عندي أحد عشر عامًا. يسبب ظهوري انتعاشًا للجميع. فيجلسونني علي الأريكة. أمي تقدّم لي الجين مع الليمون وماء التونيك. يسألني الرجل في أي عام دراسي أنا. ويبدو أن إجابتي جلبت له السعادة. وقال أيضًا إني يجب أن أعرف أن لديّ والدين رائعين. ثم ينصرف عني الجميع. يرقص أبي مع الشقراء. تضحك أمي لما يقوله الرجل في أذنها. تنتهي السمراء بأن تغادر. لا أتوقف عن تقديم الجين لنفسي. فجأة تذيع أمي فكرة أن يستحم الجميع. يُستقبل اقتراحها بالفرح، ويأخذ الجميع في خلع ملابسهم. الأول في التعري هو الرجل، ويتدلّي عضوه رخوًا بين فخذيه. وكان مليئًا بالشعر. لم أكن قد رأيت عضو رجل حتي الآن. تهزه أمي بأطراف أصابعها كجرس وتصيح: "لكنه صغير جدًا". وتنفجر في ضحكة عصبية تقطعها شهقات كصهيل الخيل. يلهو الرجل ويقلّد طرزان وهو يضرب علي صدره. آخذًا أمي من يدها ويدخلها نحو الحمام. تصيح أمي: "هيا، الجميع إلي الماء!" وعندها استقرت نظرتها عليّ فجأة، كمن اكتشف وجودي "هيا يا جريجوار، تحت الدش، بلا كلام!" قالت بحماس. يتدخل أبي ليقترح أني ربما لا أكون ملزمًا بذلك. أتجنب أن أنظر إليه. "كما يريد" قالت أمي بمرح بينما تجري في الطُرقة مطوّحة أقدامها في كل الاتجاهات لتتخلص من ثوبها. يختفي أبي والشقراء بدورهم. أجلس بمفردي في الصالون. أرغب في العودة للنوم في سريري، لكن الحمام موجود في غرفتي. أبقي علي الأريكة، أحتسي الشويبس لأن الجين قد نفد. تأتي من الطرقة ضوضاء وضحكات وقرقعات مياه. ثم لم أعد أسمع شيئًا. أنتظرُ. يستمر هذا لفترة طويلة. لا أفعل شيئًا. أبي هو أول واحد يعاود الظهور. يرتدي بذلةً مضطرًا للذهاب إلي العمل، لأنه يشتغل هذا الأحد. وخلفه الشقراء ملتفّة بمنشفة حمام حول وسطها، شعرها في غاية الفوضي. لا أجرؤ علي السؤال أين أمي. أبي يأخذ حافظة أوراقه السوداء من عند المدخل، ويلتحف بمعطف المطر. يقول لي إني يجب أن أذهب لأنام. أطيعه. منكمشًا داخل سريري أنصت لأقل نأمة يمكن أن تأتي عبر الحائط من غرفة أبويّ، حيث أفترض أن أمي هناك مع الرجل الآخر. لكني لا ألاحظ أي صوت، فينتابني القلق. لفترة طويلة مكثت أتنصت مفتوح العينين. عبر خصاص النافذة بدأ الصبح يظهر. فنهضت ورجعت دون جلبة للصالون. الشقراء تنام علي الأريكة. تغط بهدوء. تغطيها منشفة الحمام بشكل غير كامل. قمت بزحزحتها بحذر شديد، حتي انكشف ثدياها الثقيلان، وبطنها المتثني، وعضو أشقر ومشعر أدهشني. لا تتحرك. لم أتخيل جسدها مترهلًا هكذا، مما أصابني بالاضطراب والإحباط. لا أعرف كم من الوقت بقيت أتأمل هذا الجسد الرخو والغريب، كحوت خارج البحر. متمنيًا وخائفًا أن تستيقظ الفتاة . كنت أريد أن أتمدد بجوارها وأن تأخذني بين ذراعيها، تقبلني وتتركني ألمسها. وجرؤت علي لمس ثدييها. لم تتفاعل. وظننت لوهلة أنها تتظاهر بالنوم. وفي النهاية أذهب لسريري وأستسلم للنوم. عندما أستيقظ سيكون البيت هادئًا. الرجل والشقراء قد انصرفا. أمي مصابة بنوبة حساسية قوية أدت إلي انتفاخ وجهها. علي عينيها نظّارة شمس ولا تبرح السرير. وطوال اليوم مزاجها سييء. بعدها بثلاثة أيام تسألني أمي بينما تصبّ في الحوض وعاء من القواقع: "أتمني ألا تكون قد صُدمت تلك الليلة." أشعر بالضيق فأجيبها برخاوة. تطمئن أمي فتسترسل. تبتسم وهي تقول:" كانت الشقراء جميلة، أليس كذلك؟" صوتها مليء بالتواطؤ. أبقي صامتًا. "اذهب وأخبر أباك أن الطعام جاهز" قالت أمي بعدم إلحاح، وهي تضع القواقع علي طاولة المطبخ. أفكر أن الشقراء كانت تتظاهر بالنوم إذن. من كل الرسوم المتحركة التي من المفترض أنها كانت متعة بريئة في طفولتي كانت "الجميلة النائمة" هي أكثرها تأثيرًا في نفسي. في غرفتي كنت القديس جريجوار الذي يصرع الملكة السوداء المتحولة إلي تنين. ولاحقًا كنت أقبِّل بحماس الفتيات اللائي أقابلهن، متخيلًا أني أوقظهن في النهاية، لكنهن لم يكنّ نائمات أبدًا، أو نائمات في حكاية أخري لا تنتمي إلا إليهن. لم أكن أفهم. لم أكن أتصور أن من تجذبني لا تكون -بشكل ما- نائمةً، حتي ولو لم يكن ذلك فوق الأريكة بالصالون في بيت شارع مارابوف. "يا للرعب" قال أبي متعجبًا ذات يوم، عندما صرحت لهم برأيي، في أثناء محادثة تافهة، أن امرأتين تمارسان الحب لهو مشهد جميل. "مثير للاشمئزاز" زايدت أمي. كانت غاضبة بصدق. في ذلك اليوم تعلمت أن النزعة الأخلاقية قد تنافس التهتّك. وفي أثناء وجبة أخري في أحد المطاعم، قلت لأبي إنني أحبه. بعدها مباشرة أحسست أني تحررت من ثقل ما، كمن سدّد دينًا. بدا أقل تأثرًا بتصريحي مني أنا. وفي مواجهتنا، تعض أمي شفتيها وتلوي فمها بحزن ومرارة. هناك صورةٌ تمثلنا أنا وأبي وأخي نسير في طريق بالغابة. ربما كنت في السادسة. مطبوعة بالأبيض والأسود، وبحواف مشرشرة. وتبدو فيها بهجة شهر نوفمبر. دون شك تمسك أمي بآلة التصوير بما أنّها لا تظهر في الصورة. لا أملك أي ذكري عن هذه النزهة. ومع ذلك هي أجمل ذكريات للطفولة صنعتها بنفسي. عندما نرتكب أنا وأخي حماقة تثير الغضب، تضربنا أمي بسيف "زورو" البلاستيكي الأصفر الخاصبي. نضحك تحت الضربات متظاهرين بالشجاعة، ونتمسك أحدنا بالآخر، وهو ما يجعل أمي تجن من الغضب. ولكن كل مرة كان يصيبها التعب قبلنا، وفي النهاية يسقط من يدها السيف المؤلم. وعندما تكون قد غادرت، أنظر إلي سيفي معتقدًا أنه من الخيانة أن يوجّه نحوي. كان يحدث أن يصيب أبي الملل من سماعه لثرثرتنا أنا وأخي في غرفتنا. يصرخ حينئذ عبر الحائط: "هذا يكفي وإلا سأضرب أحدكما بالآخر". هذه صياغته. ولما كنت الأخف وزنًا فلم أشك أني من سيستخدم كهراوة، وسأهتم لفترة طويلة بالطريقة التي أسبب بها أقل ضرر ممكن لأخي عندما يُضرب بي. "تتهمونني بكسر الأكواب ولكن أنا من يغسل دائمًا المواعين" تتمرد أمي من وقت لآخر. طولها مائة وستون سنتيمترًا، وعندما نشير لقامتها ترد بشكل حاسم "ربما أكون قصيرةً، لكن جسدي متناسق بشكل يثير الإعجاب".والواقع إنها ليست فقط قصيرة، يمكن أن نقول أيضًا إنها بعيدة. في بعض الأيام المتوهجة، كانت تصعد علي الطاولة وتلوح بقبضتها، وتخطب: "لو لم يتبق سوي شخص واحد، سيكون أنا". أبي طاهٍ ممتاز. في أيام الأحاد يتكفّل بالمشتريات ويعدّ الوجبات. تخصصه هو الأرانب. وعندما يكون في مزاج طيب أو يكون راضيًا عني، يداعب شعري ويقول لي "يا أرنبي الصغير". استطاعت أمي أن تتوظّف في شركة "بيجين ساي"، حيث أصبحت السكرتيرة الشخصية للمدير لويس ميرلين، الذي كان يدير أيضًا"أوروب نيمرو 1" محطة الراديو الشهيرة في ذلك الوقت، وحيث سأترك ذكري سيئة للغاية بعد ذلك بسنوات حين أعمل للمصادفة هناك، وأعيث فسادًا. ذات يوم، أعلمت مكالمة تليفونية أمي في عملها، أن سيارة قد صدمت السيدة التي تأتي بنا من المدرسة أنا وأخي. كانت سكرانة كعادتها عندما حاولت مدام ليجال أن تعبر بنا والإشارة خضراء، فوقعت الحادثة. لمستها سيارة عن قرب، فتهاوت دائخةً أكثر منها مصابة. استقالت أمي من عملها لتعتني بنا.وقد تركت بذلك موقعًا وظيفيًا واعدًا لن تناله ثانية فيما سيأتي. "أبنائي قبل كل شيء" تقول بقوة. طائش، مشاغب، غير منضبط... تابعتني هذه الصفات طوال أعوامي المدرسية، في نفس الوقت مع تنويهات "تلميذ جيد" أو "تلميذ موهوب". لا يصيبني الملل أبدًا. ذات مساء يوم خميس دعوت عندي ليري وفريتير وجرافيه، ثلاثة تلاميذ كبار من المدرسة لا يفترقون، فقد كانوا من أبناء البوابين. وفي حجرتي ابتهجوا بأشيائي، ووكزوني في ظهري، كما لو كانوا ينتقمون من استقبالهم لمرة في الشقق. في هذا اليوم تحققت من أني لا أحب أن أكون ابنًا لبواب، كي لا أكون مثلهم. هم أيضًا لا بدّ أنهم يكرهون كونهم أبناء بوابين، وبد لي هذا فجأةً. ووجدته أمرًا شاذًا أن يقيّموا وضعي المحظوظ واحتقرت احتقارهم. بيننا، اكتشفت عالمًا لا ينتمي لنا ويصيب بالمرارة، وبشكل غريزي، رفضت الخضوع له، وحتي اليوم لا يمكن لأحد أن يقول إنه عدوي دون موافقتي. في ذلك المساء، استدعتني أمي إلي الصالون. اختفت ورقة فئة المائة فرنك من فوق المدفأة. نظرتها تفتش جيوبي. وانتهت بأن أرسلتني إلي السرير ناصحةً إياي أن أفكر جيدًا. بعدها بيومين، ليري يلعب في فناء بنايتنا بمسدس جديد. نزلت السلالم فورًا. ينكر ليري أنه سرق النقود. بجانبه جرافيه وفريتير يساندانه. أحذّره أن أبوي يعرفان الحقيقة وأنهما سيخبران والدي ليري، وربما الشرطة، أو الجيش. وذكرت وأنا أحذّره كيف أننا أصدقاء مخلصون. تحمر أذنا ليري. وانتهي بأن أعطاني المسدس وما تبقّي من النقود، في مقابل وعد مني أن أحاول تسوية الأمر مع والديّ.. بينما أصعد، مزهوًا بنفسي ومن الطريقة التي أدرت بها المناورة مع الأخذ في الاعتبار فرق القوة. حين تدخل أمي، سأعطيها بانتصار الغنيمة المستردّة من الأعداء. تقول: "أهنئك علي رد النقود، لكنني لن أؤيدك أبدًا في السرقة" أريد أن أعترض، لكن حماسي أكد لأمي مسألة أني مذنب. وصمتت في النهاية. منذ هذه اللحظة لم أقل لها أي شيء آخر، كفت عن أن تكون أمي، حتي لو بقيت ابنها.