مجانا.. قوافل بيطرية لعلاج مواشي صغار المربين مجانا بسوهاج    خبير اقتصادي: خطط طموحة لرفع الناتج المحلي الإجمالي 70٪ عام 2027    أسعار الحج السياحي والجمعيات الأهلية 2024    "العاصمة الإدارية الجديدة" تستقبل نائب رئيس مجلس الوزراء البحريني ورئيس البرلمان العربي    جامعة جنوب كاليفورنيا تحظر الدخول لغير طلاب السكن الجامعى بسبب المظاهرات    إعلام عبري: مقتل 3 جنود إسرائيليين وإصابة 11 آخرين في كمين بوسط غزة    للمرة ال22.. الأهلي بطلا لكأس مصر للكرة الطائرة على حساب الزمالك    حدد الأسماء.. سبورت: بايرن يشترط إجراء صفقة تبادلية مع برشلونة لرحيل كيميتش    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لسنوات النقل الثانوي بالمعاهد الأزهرية    "جمعت بين زوجين".. كيف دفعت "حسناء أكتوبر" حياتها ثمنًا لإشباع نزواتها؟    بوسي تتألق بفستان أحمر في أحدث ظهور لها والجمهور يعلق    عمرو أديب: مصر لن تكون بيئة خصبة لوظائف البرمجة دون توافر للإمكانيات    نشرة منتصف الليل| أمطار على هذه المناطق.. وتوجيه لشاغلي العقارات المتعارضة مع القطار الكهربائي السريع    سامي مغاوري يتحدث عن حبه للتمثيل منذ الصغر.. تفاصيل    3 حالات لا يجوز فيها الإرث شرعًا.. يوضحها أمين الفتوى    الكشف المبكر عن سرطان الكبد.. أسترازينيكا مصر: فحص 30 مليون مصري بحلول عام 2030    محافظ بني سويف يلتقى وفد المجلس القومي لحقوق الإنسان    تريزيجيه يصنع في فوز طرابزون برباعية أمام غازي عنتاب    وظائف خالية ب الهيئة العامة للسلع التموينية (المستندات والشروط)    منة فضالي: اكتشفنا إصابة والدتي بالكانسر «صدفة»    انقطاع خدمات الاتصالات والإنترنت في قطاع غزة    محمد أبو هاشم: حجاج كثر يقعون في هذا الخطأ أثناء المناسك    في أحد الشعانين.. أول قداس بكنيسة "البشارة" بسوهاج الجديدة |صور    صحة الإسماعيلية تنظم قافلة طبية مجانية ضمن مبادرة حياة كريمة    محافظ الدقهلية: دعمي الكامل والمستمر لنادي المنصورة وفريقه حتي يعود إلي المنافسة في الدوري    فرقة بني سويف تقدم ماكبث على مسرح قصر ثقافة ببا    تحذيرات عاجلة لهذه الفئات من طقس الساعات المقبلة.. تجنبوا الخروج من المنزل    امتحانات الفصل الدراسي الثاني.. نصائح لطلاب الجامعات ل تنظيم وقت المذاكرة    دعاء راحة البال والطمأنينة قصير.. الحياة مع الذكر والقرآن نعمة كبيرة    بعد عامين من انطلاقه.. «محسب»: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم والتوافق بين أطياف المجتمع المصري    أون لاين.. خطوات إصدار بدل تالف أو فاقد لبطاقة تموين 2024    منها تناول السمك وشرب الشاي.. خطوات هامة للحفاظ على صحة القلب    جدول امتحانات الصف الأول الإعدادي بمحافظة الأقصر    التشكيل الرسمي للمقاولون العرب وسموحة في مباراة الليلة    بروتوكول بين إدارة البحوث بالقوات المسلحة و«التعليم العالي»    «حرس الحدود»: ضبط كمية كبيرة من الأسلحة والذخائر قبل تهريبها    إعلام عبري: 30 جنديًا بقوات الاحتياط يتمردون على أوامر الاستعداد لعملية رفح    فيلم «شقو» ل عمرو يوسف يتجاوز ال57 مليون جنيه في 19 يوما    الرئيس العراقي خلال استقباله وزير الري: تحديات المياه تتشابه في مصر والعراق    تأجيل إعادة إجراءات محاكمه 3 متهمين بفض اعتصام النهضة    حجازي: مشاركة أصحاب الأعمال والصناعة والبنوك أحد أسباب نجاح التعليم الفني    مستشفيات جامعة بني سويف تستقبل مرضى ومصابي الحرب من الأشقاء الفلسطنيين    وزير الصحة يشهد الاحتفال بمرور عامين على إطلاق مبادرة الكشف المبكر وعلاج سرطان الكبد    رئيس هيئة الدواء يبحث سبل التعاون لتوفير برامج تدريبية في بريطانيا    القوات المسلحة الأردنية تنفذ 6 إنزالات إغاثية جوية على شمال قطاع غزة بمشاركة دولية    سفير روسيا بمصر للقاهرة الإخبارية : علاقات موسكو والقاهرة باتت أكثر تميزا فى عهد الرئيس السيسى    «رجال الأعمال المصريين» تدشن شراكة جديدة مع الشركات الهندية في تكنولوجيا المعلومات    زعيم المعارضة الإسرائيلية: حكومة نتنياهو في حالة اضطراب كامل وليس لديها رؤية    موعد مباريات اليوم الثالث بطولة إفريقيا للكرة الطائرة للسيدات    بصلي بالفاتحة وقل هو الله أحد فهل تقبل صلاتي؟..الإفتاء ترد    تأجيل محاكمة 11 متهمًا بنشر أخبار كاذبة في قضية «طالبة العريش» ل 4 مايو    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    قضايا عملة ب 16 مليون جنيه في يوم.. ماذا ينتظر تُجار السوق السوداء؟    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    البوصلة    إعلان اسم الرواية الفائزة بجائزة البوكر العربية 2024 اليوم    موعد مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة في إياب نصف نهائي الكونفدرالية    حسام غالي: «شرف لي أن أكون رئيسًا الأهلي يوما ما وأتمناها»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسبوع استثنائى
نشر في الأهرام اليومي يوم 26 - 01 - 2018

مئوية عبد الناصر فى صباح الجمعة الموافق الثانى عشر من يناير تطلعتُ إلى مُلحق الأهرام، وكنتُ أتوقع أن أرى فيه مقالى الأسبوعى، ولكنى فوجِئتُ بمفاجأة مُفرِحة، فالملحق لم يكن يتضمن مقالى، وإنما كان مُخصَّصًا بأكمله لمئوية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر،
ولم أشعر بأى غضبٍ على عدم نشر مقالى، وإنما شعرتُ بالسعادةِ الغامرةِ التى انتابتنى عندما رأيتُ الصورةَ التى التقطها مصور الأهرام منذ سنواتٍ بعيدةٍ لعبد الناصر، وهو يخرج من السيارة التى كان يركبها، مليئًا بالحيوية والتطلع إلى المستقبل، وسرحت على الفور فى ذكريات عبد الناصر الذى أدينُ له بتعليمى الجامعى، فلولاه ما استطاعتْ أُسرتى الفقيرة أن تُنفق عليَّ فى تعليمى الجامعى، لولا أن أكمل عبد الناصر مشروع طه حسين، الذى كان يؤكد أن التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن. ولكن مشروع طه حسين توقف عند مجانية التعليم الثانوى، وعندما دخلتُ الجامعة شعرتُ بوطأة نفقات الفصل الدراسى الأول على أُسرتى، وما كدتُ أحمل هم نفقات الفصل الدراسى الثانى إلا وكان عبد الناصر قد أعلن مجانية التعليم الجامعى فى عام 1961. ولولا عبد الناصر كذلك ما كنتُ قد أصبحتُ مُعيدًا فى الجامعة بعد مُلابسات كثيرةٍ، حكيتُها فى الجزء الأول من مُذكِّراتِى التى صَدرتْ عن الدار المصرية اللبنانية بعنوان «زمنٌ جميلٌ مَضَى»، ولولا عبد الناصر أخيرًا- ما عَرَفْتُ معانى الوطنية والحرية والقومية والعدالة الاجتماعية، وهى المبادئ التى لا تزال راسخة فى تكوينى العقلى والفكرى منذ أن بدأ عبد الناصر فى غرسها مع هتافه فى حرب 56 « إن أولادى لا يزالون فى القاهرة».
ومرت الأيام وأنا أشعر بأهمية عبد الناصر ومعنى قيادته، وعندما أصبحت وزيرًا للثقافة لم أكُن أسعى إلا إلى تطبيق الاستراتيية الثقافية التى أسسها عبد الناصر، وهى استراتيجية تقوم على زوايا ثلاث؛ الزاوية الأولى هى بناء مستشفى، والثانية هى بناء مصنع، والثالثة هى بناء قَصْرٍ للثقافة الجماهيرية، وهذه هى الزاويا الثلاث التى تصنع مثلث السياسات العامة لعصر عبد الناصر الذهبي؛ ولذلك يمكن أن نقول: إن أكثر من نصف السياسات العامة لزمن عبد الناصر موجَّهة لكل من التعليم والثقافة؛ ولذلك استطاع عبد الناصر أن يُحدث تغييرًا جذريًّا فى الحياة الثقافية والعلمية لمصر ابتداء من النصف الثانى من الخمسينيات إلى النصف الأول من الستينيات، وظل التعليم كالثقافة، حق لكل مواطن كالماء والهواء، كما كان يقول طه حسين. ولذلك وصلت الثقافة المصرية - كما وصل التعليم المصرى - إلى أرقى مستوى ممكن أن يصل إليه، وهو مستوى بالغ الرفعةِ، ظل مُحافظًا على تقدمه وتصاعده، لولا الهزيمة الكبرى للعام السابع والستين، ولذلك لم أشعر بغضبٍ أو حزنٍ كما قلتُ؛ لأن مقالى لم ينشر فى الملحق الأسبوعى لأهرام الجمعة الموافق الثانى عشر من يناير، بل شعرتُ بالفرح عندما رأيتُ صورة الزعيم الذى لا أزال مُنتسبًا إلى مبادئه، وإنْ كنتُ أمتلك القدرة على نقد أخطائه العظيمة، ذلك لأن عبد الناصر كما وصفه الجواهرى الشاعر العراقى بحق: «عظيمُ المجدِ والأخطاء».
ومن المؤكد أننى لم أفعل شيئًا جديدًا تمامًا عندما تقدمتُ إلى رئيس الجمهورية بمنظومةٍ جديدةٍ للثقافة المصرية، فلم أفعل شيئًا سوى أن أعدتُ صياغة السياسات الثقافية لعصر عبد الناصر العظيم، بعد أن أضفتُ إليها ما فرضته عليَّ طبيعة المتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية التى حدثت فى مصر منذ تحالف السادات مع جماعات الإسلام السياسى، وهى مؤثرات فاعلة لا نزال نعانى كوارثها إلى اليوم. ولا أظن أن هناك من سبيلٍ إلى مقاومتها إلا بالعودة إلى مبادئ عبد الناصر الأساسية، والبدء من حيث انتهت مع تغييرها بكل ما يتناسب مع أوضاعنا الثقافية الحالية، وهى أوضاع تراجعت بالدور الثقافى المصرى إلى المؤخرة التى لم يكن أحد يتخيلها على الإطلاق عندما كان يعيش زمن ازدهار الثقافة المصرية، خصوصًا فى الستينيات التى لا يزال المرء يتذكرها كالحلم، ويدعو فى كل ما يكتب إلى البدء من حيث انتهت مع إعادة النظر فيها فى ضوء مُتغيرات العصر، وذلك بما يجعل الثقافة كالتعليم، قوة مُحرِّكة فى مواجهة معوقات التخلف بكل أبعاده، والإرهاب بكل معانيه، وكابوس الدولة الدينية بكل كوارثها.
ولعل أجمل ما لحظته فى فورة الاحتفال بمئوية عبد الناصر، هو هذه الحيوية المتجددة للذاكرة المصرية، فعبد الناصر أصبح حضورًا متصلًا متجددًا باستمرار، تحرص عليه الأجيال الجديدة والفتِّية فى كل عامٍ، وإلا فلماذا تحتفى به وبذِكراه وبذكرى ميلاده المئوية كل هذه الأجيال التى لم تعاصره؟! فالرجل مات منذ أكثر من نصف قرن، وقد حاول أعداؤه تشويه صورته بكل وسيلةٍ مُمكنةٍ وغير ممكنةٍ، ومع ذلك ظلت صورة الرجل كذِكْراه، نقية من كل ما يشوبها، مقترنة دائمًا بالعدل الاجتماعى والانحياز الكامل لمُعذَّبِى الأرض من الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون، هؤلاء هم ملح الأرض الذين وضعهم عبد الناصر بين عينيه، واختار أن ينحاز إليهم ضد كل الذين يسرقون أقواتهم أو يمتصون دماءهم. ولذلك أحبَّه الفقراء، وتوارثوا حُبَّه، ونقلوا هذا الحب إلى كل الطبقات، حتى تلك التى تضررت من قراراته الاشتراكية. وما إن فارقنا فى 28 سبتمبر 1970 حتى بقيت ذِكراه ساطعة كالنور الذى لا يفنى ولا يتبدد، راسخة فى ذاكرة الأمة، التى أجمعت على حُبه، وتناست أخطاءه العظيمة لتبقى فى الوعى العام مبادئ عبد الناصر الأصيلة الوطنية والقومية فى الوعى الجمعى للأمة العربية، مضيئة يتذكرها الجميع، مؤكدًا فى فعل تَذكُّرِها- ضرورة الإيمان بالوحدة القومية بكل صورها، والحرية بكل معانيها، والعدالة الاجتماعية بكل مستوياتها، والكرامة الإنسانية بكل مضامينها، فضلًا عن المعانى النبيلة لمبادئ المواطنة والمبادئ المقدسة للوطنية، رحم الله عبد الناصر، فهو لا يزال حيًّا بينما كل من يعادى سياساته يدخل فى دائرة الظلال والمحو.
ست وزيرات مِنهن إيناس عبد الدايم
فرحةٌ أخرى حملتها إليَّ الأخبار فى الأحد الماضى، الموافق الرابع عشر من يناير، وهو تعيين سِت وزيرات فى التعديل الوزارى الأخير، وقد رأيت صورهُن وهن يُقسِمن اليمين الدستورى، أمام السيد رئيس الجمهورية، وكنتُ فرِحًا فرح الأطفال مع أنى جاوزت السبعين بأربع سنوات، وقلتُ لنفسي: «تخيَّل كُنّا نحمد لعبد الناصر أنه عيَّن سيدة واحدة هى المرحومة حِكمت أبو زيد، وزيرة للشئون الاجتماعية، وها هو عبد الفتاح السيسى يفعل ما لم يفعله عبد الناصر، فيُعيِّن سِت وزيرات فى حكومة واحدة. والمعنى كبير، وأول أوجهِ هذا المعني: أن المجتمع المصرى - خصوصًا فى قطاعاته المستنيرة - قد قطع شوطًا كبيرًا من التطور والتسامح الاجتماعى، فها هو يقبل تعيين ست وزيرات مرة واحدة بعد أن كان لا يقبل تعيين وزيرة واحدة إلا بكثير من الاحتراس والحذر. والوجه الثانى من المعني: أن الرئيس عبد الفتاح السيسى يؤمن فعلًا بالدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، ولولا إيمانه بهذه الدولة ما وصل عدد الوزيرات إلى هذا الرقم الاستثنائى الذى لم يحدث من قبل، والوجه الثالث: أن الرئيس يؤمن على نحوٍ خاص بالدور الإيجابى فى عمليات التغيير، خصوصًا تلك التى تتطلب التضحية والمعاناة، والوجه الأخير: أن الوزيرات كلهن غير محجبات، نضرات الوجوه، محترمات المظهر والملبس. وهذا أمر له دلالته فيما يتصل بالوعى المدنى، الذى لا يقبل كل المبررات التى يحاول أن يبرر بها رجال الدين الحرفيون الذين يرون أن الحجاب أو النقاب فَرْضٌ و واجبٌ فى الإسلام، بينما الوعى المدنى فى مصر يقبل تأويلات مشايخ الأزهر المستنيرين الذين سمحوا بالسفور ودافعوا عنه وسمحوا به فى عائلاتهم الخاصة، وأخصُّ بالذِّكر هنا مشايخ الأزهر الذين أعُد منهم: الشيخ عبد الرحمن تاج، والشيخ محمود شلتوت، الذى أعلن أن الحجاب مسألة عادة اجتماعية، والدكتور الباقورى الذى لم تكن عائلته محجبة، وأخيرًا الدكتور محمود زقزوق الذى أكد أنه لا زى معينا للمرأة فى الإسلام. وهذا قول يعنى أن المرأة حرة فى اختيار ملابسها ما ظلت تؤدى معانى الاحتشام والاحترام اللازم لكل امرأة عاملة بما لا يتناقض وحرية اختيارها لملابسها، فالإيمان هو ما وقر فى القلب وصدّقه العمل، أما الملبس والمظهر الخارجى فنوافل ليست واجبة، وتتحدد على أساس من حرية المرأة ونظرتها إلى نفسها. وأستطيع أن أُعدد الكثيرين من علماء الأزهر ومشايخه المستنيرين الذين لهم علمهم الراسخ وعقلهم الراجح فى تأييد ما أذهب إليه، وهم الذين وقفوا إزاء الحجاب بوصفه مسألة اختيارية متروكة للمرأة، شأنها شأن أى شيء آخر فى السلوك الإنسانى، متروك حسابها لله فى يوم الحساب.
ولكنى لم أفرح لهذه المعانى فحسب، بل فَرِحتُ على نحوٍ خاص بتعيين إيناس عبد الدايم، وزيرة للثقافة، خلفًا لصديقى حلمى النمنم، الذى حزنتُ على تركه الوزارة، وأنه لم يستطع أن يكمل مَهَمَّته التى كان يحلم بإتمامها، ولا أملكُ سوى إعلان تقديرى لما استطاع أن يبذله من جهدٍ فى مواجهة صعوبات، أعلم - قبل غيري- مدى قسوتها وشراستها والفساد المقترن بها، ولكن فرحتى بتعيين إيناس عبد الدايم، راجعة إلى رد الاعتبار إليها، فالكثيرون لا يعرفون أن إيناس اختارها الدكتور حازم الببلاوى فى وزارته التى ترأسها سنة 2013. وبالفعل خاطبها الدكتور حازم الببلاوى فى ذلك، فوافقت السيدة الفاضلة، وعلى هذا الأساس خرجت من منزلها فى السادس عشر من يوليو؛ لكى تُقسِم اليمين أمام السيد رئيس الجمهورية فى الفترة الانتقالية، وهو المستشار عدلى منصور، ولكن جاءتها مكالمة هاتفية من مجلس الوزراء - وهى فى الطريق لمقر الرئاسة للمشاركة فى القَسم الدستورى المُعتاد فى تولِّى الوزارة - تعتذر لها وترجوها العودة إلى منزلها. وبالفعل عادت الدكتورة إيناس إلى بيتها مُحبَطة ومندهشة للموقف كله، وقيل يومها إن ضغوطًا وقعت من السلفيين برفض تولى سيدة وزارة الثقافة، ذلك مع العلم بأن هذه السيدة قد أظهرت من الوطنية وحماسة الدفاع عن الدولة المدنية أكثر مما فعله أقرانها الذكور فى وزارة الثقافة آنذاك، وأنها تصدت لتعليمات الوزير الإخوانى الذى نسيتُ اسمه، والذى أصدر قرارًا بإيقافها عن العمل، ولكن لم يقبل العاملون معها فى الأوبرا قرار الإيقاف، فقد رفضوه قبلها، ووقفوا معها تضامنًا ومؤازرة، وبالفعل قامت إيناس عبد الدايم بتحدى الإخوان المسلمين بإخراج الأوبرا إلى الشوارع، والعزف أمام الجماهير التى التفت حولها فى المناطق الشعبية القريبة من الأوبرا، وكانت أفعالها هذه، ومواقفها تلك واحدة من أنصع المواقف الوطنية المتمردة على الوعى الدينى المتخلف لحكم الإخوان المسلمين، وعلى نظرتهم الدونية إلى المرأة على السواء، ويبدو أن حازم الببلاوى قد شعر إنه قد أخطأ فى حق هذه المرأة التى تستحق كل التقدير، فاعتذر لها، وذهب إليها صابر عرب الوزير الذى أُعِيد تعيينه، لتحيَّتها بعد أن شغل مكانها تقديرًا لها، وهو أمر يستحق التحية على كل حال.
ومرت الأيام وتعاقب وزراء الثقافة على المنصب الذى لا يَبقى فيه أحد لوقتٍ طويلٍ، إلى أن جاء التغيير الأخير فردَّ الاعتبار إلى هذه السيدة العظيمة، وتولَّت وزارة الثقافة التى تنتسب إليها وتعرف قدرها، كما يعرف قدرها كل الذين ذهبوا إلى الأوبرا وشهدوا نجاحاتها المتصلة، والحق أننى لم أفرح بتعيين إيناس فحسب، بل شعرتُ بأن هناك عمليةَ ردّ اعتبار، وتعويضٍ لها عن هذا الموقف القديم، الذى لا يُلام عليه إلا من تسبب فيه، ومن أوقع الحكومة كلها فى إثم اقترافه، وأغلب الظن أنهم المجموعات السلفية التى تُعادِى المرأة على الإطلاق، والتى تستند إلى مأثورات لا علاقة لها بالدين الإسلامى فى جوهره الصحيح، فالنبى صلى الله عليه وسلم هو الذى قال: «خُذوا نصف دينكم من هذه الحُمَيْراء» وكان يقصد إلى السيدة عائشة رضى الله عنها، ومع ذلك فقد اخترع السلفيون وأمثالهم عبر عصور الإسلام القديمة أحاديثً ومأثورات كاذبة عن المرأة، وتراكمت هذه المأثورات والأحاديث والأقوال بما يزرع فى النفوس السَّاذَجَة من المسلمين أفكارًا مُعادية للمرأة، ومُضادة لنوعها على الإطلاق، ولكن الذين يعرفون الدين الإسلامى حق المعرفة يُدركون المكانة الصحيحة التى وضع فيها الإسلام المرأة، وتكريمه لها تكريمًا خاصًّا لا يزال باقيًا عبر أذهان من يعرفون صحيح الدين، وليسوا كهؤلاء الذين يتَّبعون أفكار ابن تيمية التى تمتلئ باحتقار المرأة، وازدرائها، والنظرِ إليها باعتبارها المخلوق الأدنى الذى هو مصدرٌ للشهوةِ والفتنة، والذى ينبغى أن يُقهر ويُقمع فى كل الأحوال، ولم يكن من المُصادفة أن يُنزل ابن تيمية المرأةَ مَنزِلة العبيد، وأن تُخرجها القاعدة وطالبان من جنة الأسوياء من المسلمين.
ولكن ها هى أفكار الدولة المدنية تلوح مرة أخرى، حتى لو لم تكن قوية بما يكفى، ويسطع مبدأ المواطَنة الذى لا يُميِّز بين رجل وامرأة فى المسئولية، ويصل عدد الوزيرات فى الحكومة الأخيرة إلى ست وزيرات، ويعود الاعتبار إلى إيناس عبد الدايم، وتصبح على رأس وزارة تعرف دخائلها ودهاليزها؛ ولذلك فهى تستحق أن أقول لها: «مبروك من كل قلبى»، فأنا أعرفها كل المعرفة، وأثق فيها كل الثقة، وأشهد أنى ما أوكلتُ إليها مَهَمَّةً عندما كنتُ وزيرًا للثقافة- إلا وأنجزتها على خير ما يُرام وعلى أكمل وجهٍ.
ولكن يبقى أن نتوجه بالخطاب إلى الدولة التى تأخَّرت فى رد الاعتبار إلى إيناس عبد الدايم، وأطالبُها بأن تقف إلى جوارها بوصفها وزيرة للثقافة، فهناك منظومةٌ جديدةٌ للثقافة المصرية اكتملت، وتم بناء عليها، توقيع اتفاقيات مع اثنتى عشرة وزارة فى الحكومة والمجتمع المدنى للتعاون من أجل العمل بالمنظومة الثقافية الجديدة للدولة، وهى المنظومة التى لم ترَ النور بعد، ولا تزال موجودة فى مكتب رئيس الجمهورية، وفى مكتب الوزيرة الجديدة، ولن أرجو من الدكتورة إيناس تطبيق هذه المنظومة على أرض الواقع، فقد شاركتْ وحضرتْ توقيع الاتفاقيات بوصفها إحدى قيادات الوزارة، وإنما أرجو الحكومة والسيد الرئيس أن يهتم بالثقافة الاهتمام الواجب، فمن المؤكد أنه يعرف كل المعرفة أن منظومة مواجهة الإرهاب لا يمكن أن تقتصر على المواجهة الأمنية والعسكرية، وإنما ينبغى أن تمتد إلى الثقافة والتعليم على السواء، فالثقافة كالنَّفَس الذى تتحرك به عضلات وشرايين القوى الناعمة فى أى أمة من الأمم، والثقافة - كالتعليم - لُحْمةُ وسَدَاةُ القوى الناعمة، التى كانت قاعدة الانطلاق المصرى، وأساس قُوَّته منذ عصر محمد على باشا.
ولا معنى اطلاقًا لأن نُعيِّن وزيرًا للثقافة ثم نُكبِّله بقيودٍ بيروقراطية، وعدم تمويل كافٍ، ثم نُطالبه بأن يطوِّر ويجدد فى الحركة الثقافية، فنحن فى هذه الحالة أشبه بمن يُقيِّدُ بحبالٍ غليظةٍ مُلاكمًا نضعه فى حَلَبةٍ ونقول له: «فلتحقق انتصارات مُبهرة»، والنتيجة معروفة سلفًا، وأظن أنها أصبحت معروفة الآن، فقد غَيَّرنا عددًا كبيرًا من وزراء الثقافة فى سنوات قليلة من عُمر الوطن، ولم يكن ذلك لعيبٍ فى كثير منهم، وإنما كان بسبب نقص الإمكانات المالية أولًا، وألوان الفساد التى لا تزال تُعشش فى الدولاب العتيق البيروقراطى للدولة العميقة فى مصر ثانيًا، وعدم تقدير الدولة للثقافة قبل ذلك.
وبقدر فرحتى بتعيين وزيرة للثقافة، تنضم إلى غيرها من الوزيرات اللائى أفخر بِهن جميعًا، بوصفى مواطِنًا مصريًّا أؤمن بالدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، فإن هذا الفخر لن يكتمل إلا عندما أشعر بأن الدولة تضع كل الإمكانات المُمكنة لدعم الثقافة التى هى كالتعليم بمثابة الماء والهواء، اللذين هما حق وضرورة حيوية لكل مواطنة أو مواطن مصرى.
كشف حساب الرئيس للمصريين
حضرتُ مساء الأربعاء الموافق السابع عشر من يناير مؤتمر «حكاية وطن» واستمعتُ باهتمامٍ إلى الرئيس عبد الفتاح السيسى، وهو يُقدِّم كشفَ حسابٍ للمصريين عن ما فعله لمصر خلال الأربع سنوات الماضية، وقد تكلَّم عن أحد عشر ألف مشروعٍ جديدٍ، بتكلفة تريليونيّ جنيهٍ، خلال السنوات الأربع الماضية، مُشيرًا إلى ارتفاع الأجور بنسبة 300%، ومعاش التكافل الذى ارتفع 30%، وعن النجاح فى حصار فيروس سِى، ومظلة العلاج التى شملت ما يقرب من مليون ونصف مليون مريض، فضلًا عن إضافة ما يوازى اثنِى عشر ضِعفًا لكهرباء السد العالى، وما يقرُب من رُبع مليون وحدةٍ سكنيِّةٍ جديدةٍ، وعن العمل على استكمال استصلاح مليون ونصف مليون فدان، بهدف الوصول إلى أربعة ملايين، وعن تفاصيل أخرى كثيرة تتعلق بالإنجازات المادية العظيمة، وكلها تفاصيل بهيجة، وتبعث على التفاؤل.
وكنتُ أجلسُ مع غيرى من المدعوين لسماع السيد الرئيس، وهو يُلقى خطابه الطويل، فرِحًا كل الفرح بكثرة الإنجازات، مُدرِكًا كل الإدراكِ أهميتها وحيويتها وإسهامها الجذرى فى الانتقال بمصر من حالِ التَّخلُّفِ إلى حالِ التقدم، وقد زادتْ فرحتى على نحوٍ خاص عندما وَصَف الرئيس هوية الدولة المصرية بأنها دولة مدنية ديمقراطية حديثة، فقد كان تَكْرَار هذا التأكيد يعنى بالنسبة لى الكثير، سواء فى تأكيد نفى أن تكون مصر دولة دينية، والجزم بأنها دولة مدنية تستند إلى قانون ودستور وضعيين، وأن حُكْمها المدنى يقوم على احترام الديانات التى يعتنقها الشعب المصرى، ابتداء من الإسلام بكل مذاهبه، وانتهاء بالمسيحية بكل طوائفها. لكن هذا الاحترام للأديان لا يعنى إطلاقًا الانحياز إلى الشعارات الدينية أو إلغاء الهوية المدنية للدولة المصرية.
وبقدر فرحتى بهذا الشعار من أن مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة، وهو شعار يحرص الرئيس على أن يكرره دائمًا، فيجعل مواطِنًا مثلى يشعر بالأمل فى أن مصر لن تقع أبدًا فى شِبَاك جماعةٍ أو جماعات دينيةٍ متطرفةٍ، تصنع فينا وبنا ما يُماثل ما صنعته جماعة الإخوان المسلمين من محاولةِ التشويه والقضاء على الهويةِ المدنيةِ للدولةِ المصرية، التى ظلَّتْ تحافظُ على طابعها الوطنى المدنى منذ دستور 1923 على الأقل، وهو الدستور الذى ظلت مبادئه فعّالة حتى فى أغلب الدساتير اللاحقة إلى أن جاءت جماعة الإخوان المسلمين، وحاولتْ أن تعد لنا دستورًا آخر، يقضى على الهوية المدنيةِ والديمقراطيةِ الحديثةِ للدولةِ المصرية.
وقد انطلقتْ خواطرى مع كلمات الرئيس عن الدولة المصرية المدنية الديمقراطية، وسألتُ نفسى كما توجَّهتُ بالسؤال داخلي- إلى السيد الرئيس قائلًا: « ولكن أين هى ثقافة الدولة المدنية يا سيدى الرئيس؟ وهل ارتفعت إنجازاتها إلى ما يوازى نصف الإنجازات المادية التى تحدثتَ عنها أو حتى رُبعها؟ لقد حققتَ معجزةً يا سيادة الرئيس عندما قُدتنا فى معركةٍ صعبةٍ وعسيرةٍ لكى نحقق ما ظلتْ الحكومات السابقة عاجزة عن تحقيقه إلى أكثر من أربعين سنة، وفتحتَ لنا جامعات جديدة، وزاد عدد الكليات والمستشفيات، ولكن ماذا عن عدد قصور الثقافة الجماهيرية، وهى مدارس الفقراء وقلاع حصينة لمواجهة ثقافة التعصب وبؤر الإرهاب الديني؟ وماذا عن عدد المسارح ودور السينما؟ وماذا عن الإنجازات الأكبر التى نتوقعها ونحلم معك بها وماذا عن الأعمال الإبداعية والفكرية، التى تؤكد قيم العقلانية والتسامح والحرية؟ وماذا يا سيدى الرئيس عن حرية الإبداع، وحق الاجتهاد الفكرى فى شجاعة ودون خوف؟ وهل تعلم يا سيدى الرئيس عن تعثُّرِ حركة الترجمة فى مصر بسبب أزمة توفير العملات الصعبة؟
وأخيرًا ما الذى حدث يا سيدى الرئيس لِما ناديتم به منذ سنوات من تجديد الفكر الدينى، بل بما طالبتم به مرة من تثوير هذا الخطاب ووضعه فى موازاة مشكلات تقدُّم العالم الذى نعيش فيه، والذى حقق معجزات ومعجزات فى مسيرة تقدمه بينما لا يزال خطابنا وفكرنا الدينى غارقًا فى وِهاد التخلف والتعصب والتمييز، الذى يقضى على كل آمال التقدم، وكل أحلام الاجتهاد الخلّاق، الذى طالبنا به الإسلام نفسه عندما جعل نبينا الكريم للمُجتهدِ الذى يُصيبُ أجرين، وللمجتهد الذى يُخطِئ أجرًا واحدًا، وذلك بما يؤكِّد حق الخطأ، وضرورة الاجتهاد فى الفكر الدينى على السواء؟ وماذا يا سيدى الرئيس عن القوانين التى لا تزال مُقيِّدة للحُريات، والتى نصَّتْ عليها المادة 67 من الدستور الذى تحكمنا على أساس منه، والتى لم تصدر بها قوانين تلغى غيرها الذى لا يزال يلقى بالأدباء والمثقفين فى السجون، فتضطر أنت بسلطتك التى خوَّلكَ بها الدستور- أن تفرج عنهم بعد أن تبلغك صرخات ظلمهم؟
ولا شك أنك تعرف قبل غيرك- يا سيدى الرئيس أهمية الثقافة للمجتمع، وأن دعمها بكل الوسائل المعنوية والمادية لا يقل أهمية عن السلاح الذى تدافع به عن شرف الوطن، أو عن الدواء الذى نحتاج إليه لمقاومة المرض، إن الثقافة يا سيدى الرئيس هى القوة الناعمة التى تحققُ أحلامك وأحلامنا جميعًا فى أن تكون مصر التى ترأسها «أد الدنيا».
ومن المؤكد أننى سأنتخبُكَ يا سيدى الرئيس، ولكنى أطالبكم من الآن إذا مدَّ الله فى عُمرى وعُمرك على السواء- بأن أسمع منكم فى نهاية الفترة الرئاسية الثانية عن أرقامٍ تُشبه الأرقام التى قُلتَها لنا فى مجالات الثقافة والقوى الناعمة على السواء، فمصر جديرةٌ بأن تكون قوية بقوتها الناعمة؛ كما كانت عبر تاريخها، وأن تواصل ريادتها وتأثيرها لكى تكون جديرةً بحلمكَ، الذى هو حلمنا جميعًا، كى نكون وطنًا بحجمِ الدُّنيا، وفى موازاةِ العَالمِ المُتقدِّمِ كله، فهل تحققُ لنا يا سيدى الرئيس هذا الحُلم الجديد كما حققتَ لنا كثيرَا من أحلامنا فى السنوات الأربع الماضية؟ نحن معكَ يا سيدى الرئيس ما دُمتَ على ما أنتَ عليهِ من وطنيةٍ وحب لمصرَ ووفاءٍ لها، دعمًا لمُقدَّراتها، وقدرة على تحقيق أحلامها التى نحلم بها معكَ، ونحُثُّكَ على أن تستكمل التقدم بالإنجاز فى عوالم الثقافة والإبداع؛ لأنك تعرف يا سيدى الرئيس - كما نعرف نحن أيضًا - أن العلاقةَ بين الثقافةِ والتقدمِ والتنمية هى علاقة تلازُمٍ وتفاعلٍ وتكامُلٍ بكل معنى الكلمة.
تحيةً لك يا سيدى الرئيس لِما أنجزته خلال أربع سنوات، وكُلِّى ثقةٌ فيما سوف تُحققُهُ مصر على يديكَ من أحلامٍ تتعلقُ بالحريةِ والديموقراطيةِ والثقافةِ خلال السنوات الأربع المقبلة، مَنَحَكَ اللهُ الصحةَ والعافيةَ، وأدعوه أنْ يَمُدَّ فى عُمرى حتى آراكَ بعد أربعِ سنواتٍ وأُحيِّيكَ على تحقيقِ أحلامى فى مستقبلٍ ثقافيٍّ زاهرٍ، ومستقبلِ وطنٍ تُرفرفُ عليه رايات الحريةِ والديموقراطيةِ والعدالةِ الاجتماعيةِ، وتحيةً لكَ يا سيدى الرئيس بَعد أربعِ سنواتٍ مِن العملِ الذى أعرفُ - قبل غيرى - مدى صعوبته ومشقَّته، خصوصًا فى تأسيس وتأصيل الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.