الحكايات فى مصر زمان جميلة وأنيقة وذات طابع يتسم بالأناقة والشياكة ولاسيما حينما يتطرق الحديث الى كوبرى قصر النيل وحكايات صاحبه " أبو السباع " والمعروف رسمياً وتاريخياً بالخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على والذى أعتقد أنه كان من أفضل الحكام الذين مروا على مصر وأكثرهم إستنارة وتحضراً ، فله فى كل شارع وحارة ومبنى بصمة أنيقة ، وله فى كل حكاية مرتبطة بعصره علامة لا تقبل الشك على تقدمه ونظرته الواسعة وسعة أفقه وحبه الشديد للبلاد . و حكاية هذا الأسبوع لذيذة وهى عن كوبرى قصر النيل من خلال الوثائق القديمة و بعض الصور التى نُشرت عنه فى المجلات والجرائد العالمية ، والوثيقة مرسلة من نظارة الأشغال العمومية الى محافظ مصر بتاريخ 14 سبتمبر 1887 وتقول : لقد بلغ هذه النظارة أن المحافظة أمرت بمنع سرعة سير العربات والخيول على كوبرى قصر النيل ، فإن كانت هذه الاحتياطات من الأمور الإدارية المختصة بقوانين الضبط والربط فلا بأس من إتباعها ، وأما إذا كانت من باب الإحتراس على الكوبرى خوفاً على ما يخل بمتانته بسبب حالة النيل الآن ، فنفيد سيادتكم أن الكوبرى فى الحالة الراهنة ليس بأقل متانة ولا يخاف منه من جهة النيل ، ولذا فلا نرى داعياً لهذا المنع إن كان من قبيل الخوف على الكوبرى .. الإمضاء وكيل وزارة الأشغال العمومية .. وبمجرد أن إنتهيت من قراءة الوثيقة لم أستطع أن أمنع نفسى من الإندهاش والتعجب ، وصحت بأعلى صوتى الله .. الله على مصر زمان ، فوكيل وزارة الأشغال مهموم بحالة كوبرى قصر النيل لمجرد علمه أن المحافظة تنوى تقنين السرعة على الكوبرى ..وأسرع ينفى عن وزارته تهمة اهمال الكوبرى وأضاف إن كان القرار متصلا بحالة الكوبرى فهو يؤكد رسمياً أن الكوبرى فى أحسن حال ويحتمل كل الأحمال ، أما إن كان الأمر بسبب أخر فلهم اتخاذ ما يرونه مناسباً .. مما يعنى أن نظارة الأشغال كانت تتابع الكوبرى وحالته وتقوم بصيانته كل فترة ولذا تدافع عن نفسها وأعمالها بمنتهى القوة . وكان لهذا الكوبرى نصيب واسع فى الرسومات والصور فى المجلات العالمية وعلى سبيل المثال الصورة الرائعة التى نشرتها جريدة Black and White لمرور عربة الخديو عباس حلمى الثانى عليه يوم 4 فبراير 1893 وسط إحتشاد وتدافع عدد كبير من المواطنين لرؤية وتحية الخديو ..بالإضافة لصورة أخرى حية ومعبرة ومليئة بالحياة نشرتها جريدة The Graphic الإنجليزية بتاريخ 9 إبريل 1904 على صفحتين ترسم ملامح الحياة فى مصر أوائل القرن العشرين وفيها مشاهد لحركة المرور فى مدخل كوبرى قصر النيل بزحامه الفظيع ، فالباعة يقفون ببضائعهم على المدخل لدفع الرسوم ، والعربات الخاصة محملة بركابها من الرجال بملابسهم الأنيقة وقبعاتهم الإنجليزية و معهم فى العربات السيدات بالفساتين الرائعة وهم يحتمون من الشمس الحارقة بشماسى أنيقة صغيرة والنساء العربيات بنات البلد على الجمال فى انتظار دورهن للمرور والصبيان المكارية ( الحمارة ) ينتظرون الركاب بعضهم يستند الى حماره والأخرون يقفون فى الدور والبائعات إنتهزن الفرصة لبيع البضائع بدلاً من إضاعة الوقت فالكل فى انتظار فتح الكوبرى والسماح لهم بالعبور . بقى أن أقول أن حكاية إنشاء الكوبرى هى جزء من عمر المحروسة كما يقول الأثرى أحمد عبد الفتاح وهى ترجع لأكثر من 147 عاماً حينما فكر الخديو إسماعيل فى إنشاء جسر يربط بين ميدان الإسماعيلية أو ( التحرير ) والضفة الغربية من النيل تقليداً للجسور والكبارى الموجودة فى المدن الأوروبية والتى تسهل انتقال الناس فوق الأنهار لتلافى الطريقة البدائية التى كانت مستخدمة وهى وضع المراكب الشراعية بجوار بعضها البعض وعليها ألواح من الخشب يسير الناس عليها مما يعرضهم للخطر أو السقوط فى الماء . وبالتحديد فى عام 1869 حينما قامت الحكومة المصرية بإسناد المشروع لشركة فيف - ليل الفرنسية بتكلفة بلغت 108 آلاف جنيه مصرى ، واستغرق العمل ثلاث سنوات وبلغ طول الكوبرى 406 أمتار وعرضه 10 أمتار ، وكان مكوناً من عدة أجزاء منها جزء متحرك لعبور المراكب والسفن يتم فتحه يدوياً .. وبعد الانتهاء من البناء تم تشكيل لجنة برئاسة محمود باشا الفلكى رئيس ديوان الأشغال وعضوية مجموعة من المهندسين لاختبار متانة جسم الكوبرى من خلال السماح بمرور فرقة كاملة من الجيش المصرى عليه بكامل أسلحتهم ومدافعهم للتأكد من صلابته وصلاحيته للاستخدام ، وبعد الانتهاء من العمل قامت شركة فيف ليل بإهداء الخديو ماكيت مصغر الكوبرى من الذهب الخالص. الطريف أن الكوبرى أعجوبة زمانه لم يكن العبور عليه بالمجان فقد أصدر الخديو مرسوماً يقضى بوضع حواجز على مدخليه لدفع رسوم عبور بدءاً من 27فبراير 1872 أى بعد 17 يوما من الافتتاح لكى تُستخدم فى أعمال الصيانة وحُددت الرسوم كالتالى : الجمل المحمل قرشين و الفارغ قرشاً واحداً و الخيول و البغال قرشا و 15 بارة و الجاموس و الأبقار قرشا و15 بارة لكل واحدة. وعربات الكارو المجوز المحملة ثلاثة قروش، و الفارغة قرشا ً و عشرين بارة، و المفرد المحملة قرشين، و الفارغة قرشاً واحداً، وعربة الكارو الحمارى المحملة قرشاً وعشرين بارة و الفارغة عشرين بارة. وكل واحدة من الغنم أو الماعز عشر بارات (والبارة وهى العملة المستخدمة فى ذلك الوقت وكانت قيمة البار الواحدة تقدر بربع المليم) وعربات الركوب قرشين للعربة المُحملة وقرشا للفارغة وعربات الكارو والأغنام والماعز والنعام الصغير والكبير والغزلان والكلاب والخنازير والقرود والحلوف وكأن هذه الحيوانات كان من الطبيعى وجودها فى مصر زمان ، أما البشر فكانت رسوم العبور للرجال والنساء 100 فضة سواء أكانوا يحملون بضائع أو لا يحملون ، أما الإعفاء الوحيد فكان للأطفال دون سن ست سنوات من المارين مع أقاربهم. أما الأسود الأربعة التى تحرس جانبى الكوبرى فقد كلف الخديو اسماعيل شريف باشا ناظر الداخلية فى أبريل 1871 بالاتصال بالخواجة جاكمار الفرنسى لعمل 4 تماثيل أسود وتم تخصيص مبلغ 198 ألف فرنك للإنفاق على المشروع. وقد تم تصنيع التماثيل من البرونز فى فرنسا ونُقلت الى الإسكندرية ومنها إلى موضعها الحالى ، وقد التصق إسم «أبو السباع» بالخديو اسماعيل باعتبار أنه من أحضرهم . وفى عهد الملك فؤاد تقرر هدم الكوبرى القديم وإنشاء كوبرى آخر حديث وُطرح المشروع فى مناقصة عام 1930 ورست على شركة دورمان لونج الإنجليزية بتكاليف قدرها 308250 جنيهاً و250 مليما وافتتحه الملك فؤاد فى منتصف 1933 وأطلق عليه اسم والده الخديو إسماعيل وأصبح طول الكوبرى الجديد 382متراً وعشرين سم وعرضه20 متراً كما أعاد وضع الأسود على مدخليه تنفيذاً لأوامر أبيه . أما اسم قصر النيل الذى التصق بالكوبرى فيرجع الى وجود قصر أقيم على ضفة النيل لزينب هانم بنت محمد على باشا تم هدمه فى عهد سعيد باشا عم إسماعيل وأقيم مكانه ثكنات للجيش المصرى صارت فيما بعد ثكنات قصر النيل التى اتخذها الجيش الإنجليزى مقراً له .. والله الله على مصر وكباريها وحكاياتها زمان .