فجرت الاستقالة التى أعلنها سعد الحريرى من منصب رئيس وزراء لبنان تساؤلات كثيرة ومهمة عن مغزاها من حيث الشكل والمضمون، ولماذا أعلنها الحريرى من الرياض وعبر قناة »العربية«، وما علاقتها بالتطورات الداخلية السعودية الأخيرة، وهل مضمونها يعنى أن هناك حربا قادمة «في» أو «علي» لبنان، أم توترات أمنية قد تصل إلى حد الاغتيالات، وهل ستكون هناك حكومة لبنانية جديدة فى المستقبل القريب، وهل ستتم الانتخابات النيابية المقررة فى شهر مايو المقبل، وماهى الخطوة المقبلة فى التصعيد السعودى الإيراني؟. فى البداية لابد من تأكيد أن نظام المحاصصة السياسية والطائفية الفريد من نوعه الذى يحكم لبنان يجعل من احتماء القوى اللبنانية المختلفة بقوى خارجية أمرا طبيعيا، فالحقيقة بعيدا عن أى شعارات لا يستطيع حزب الله التحرك بمعزل عن الاستراتيجية الإيرانية، كما لا يستطيع تيار المستقبل أن يغرد بعيدا عن الدبلوماسية السعودية، ولا تملك قوى أخرى حرية الحركة بعيدا عن البوصلة الفرنسية أو الامريكية أو .. أو .. الخ. وبالتالى فإن لبنان يتأثر دائما بشكل كبير بالمتغيرات الإقليمية والدولية، التى تسهم فى تحديد اتجاه القوى اللبنانية المحلية تبعا لتوجهات شركائها الإقليميين والدوليين. ولذلك فإن استقالة الحريرى وما قد يتبعها من تأثيرات محلية لها علاقة مؤكدة بتطورات الأوضاع المختلفة فى المنطقة، خاصة ما يتعلق بالتمدد الإيرانى فى المنطقة العربية، والذى طال اليمن والعراق وسوريا إلى جانب لبنان، مع محاولات للوجود القوى فى السودان والعبث بأمن البحرين، وصولا إلى التحالف مع قطر فى مواجهة التحالف السعودى المصرى الإماراتى البحريني. كما أن لها علاقة بإعادة ترتيب السعودية لأوضاعها الداخلية والخارجية الحالية استعدادا لانطلاقة ضخمة، قد تشكل نقلة نوعية مهمة فى تاريخ المملكة، على ضوء الطموحات الكبيرة للأمير محمد بن سلمان ولى العهد، والتى وضحت فى رؤيته المهمة «السعودية 2030»، ومشروع «نيوم»، وغيرها. ويعتبرها البعض أيضا إعادة ترتيب للأوراق فى لبنان استعدادا للتسوية السياسية فى سوريا، والتى يبدو أنها باتت أقرب من أى وقت مضي. لكن هل يعنى إعلان الاستقالة أن لبنان الآن بلا حكومة؟، الحقيقة أن الأمر ليس بهذه البساطة، فالحريرى أعلن استقالته على شاشة التليفزيون، لكنه لم يتقدم بها رسميا إلى الرئيس اللبنانى ميشال عون حتى الآن، ولن يستطع التقدم بها إلا بعد عودته من الرياض إلى بيروت، وهى عودة يكتنفها كثير من الغموض، ولا يعلم أحد متى ستتم، وحتى إذا عاد الحريرى وقدم الاستقالة وقبلها الرئيس اللبناني، فالحكومة الحالية مستمرة تحت مسمى حكومة تصريف أعمال لحين الانتهاء من تشكيل الحكومة الجديدة، وهو أمر قد يستغرق وقتا طويلا جدا. فبعد قبول الاستقالة يبدأ رئيس الجمهورية ما يسمى بالاستشارات النيابية الملزمة حيث يلتقى الكتل السياسية الممثلة فى مجلس النواب، وكذلك الأعضاء المستقلون، للتعرف على مرشحهم لرئاسة الحكومة (شرط ان يكون مسلما سنيا)، ومن يحصل على أعلى الأصوات يصبح «رئيس الوزراء المكلف» الذى يقوم بدوره بلقاء رؤساء الكتل النيابية للتعرف على مرشحيهم للحقائب الوزارية، ويحكمها اطار عام هو المحاصصة (مناصفة بين المسلمين والمسيحيين)، إلى جانب ان حصص السنة والشيعة والموارنة متساوية وتقسيمات أخرى طائفية سياسية غاية فى التعقيد، مما يتطلب مفاوضات شاقة للغاية قد تنتهى بالفشل فى تشكيل الحكومة، ونعود من نقطة الصفر. وحتى مع عدم الفشل فإن عملية تشكيل الحكومة تستغرق وقتا طويلا جدا، فخلال عهد مجلس النواب الحالى من 2009 تم تشكيل أربع حكومات الأولى حكومة سعد الحريرى فى 9 نوفمبر2009 ، واستغرق تشكيلها 137 يوما، والثانية حكومة نجيب ميقاتى فى 13 يونيو 2011 واستغرق تشكيلها 143 يوما ، والثالثة حكومة تمام سلام فى 15 فبراير 2014 واستغرق تشكيلها أكثر من عشرة أشهر، والرابعة حكومة سعد الحريرى الحالية فى ديسمبر الماضى بعد مشاورات استغرقت 44 يوما . ولذلك من المستبعد أن نرى حكومة جديدة قريبا فى لبنان، تحت أى ظرف من الظروف، فحتى لو سقطت الحكومة الحالية، فإن عملية تشكيل حكومة جديدة باتت عملية معقدة وتستغرق وقتا طويلا، خاصة أن كتلة الحريرى تمثل الكتلة الأكبر فى البرلمان. أما فكرة أن تكون هناك حرب قريبة «في» أو «علي» لبنان، فإن كل المعطيات الدولية والإقليمية الحالية لا تشير إلى ذلك، ففى الداخل اللبنانى من مصلحة كل الأطراف عدم تفجر الوضع أمنيا أو عسكريا، وقد تعلم الجميع من درس الحرب الأهلية اللبنانية أنها تنتهى دائما بمبدأ لا غالب ولا مغلوب. وقرار اسرائيل بدخول حرب فى لبنان أمر يتعلق بحسابات كثيرة، ولا أعتقد أن اسرائيل تحتاج الآن إلى مثل هذه الحرب فى عدم وضوح الهدف والأوضاع الإقليمية المعقدة والقدرات القتالية المتطورة لحزب الله. بقى التساؤل المهم عن السبب الحقيقى لاستقالة سعد الحريري، والتى قال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله فى كلمته مساء أمس الأول أن الكل فى لبنان لم يفهم السبب الحقيقى لهذه الاستقالة. والواقع أن السبب الحقيقى هو مزيج من كل الأسباب التى تناولناها سريعا فى هذا المقال، لأن هناك تداخلا كبيرا بينها، وقدر لبنان دائما أن يكون جزءا اساسيا من الصراعات السياسية فى المنطقة والعالم. كلمات: بين الحب والكره .. هناك منطقة آمنة تسمى «لا تعنى لى شيئا» لمزيد من مقالات فتحى محمود;