عاش النوبيون طوال تاريخهم على ضفاف النيل حتى بات مركز حياتهم، فبدونه تضطرب جميع أحوالهم، وتختل دورة حياتهم، فالارتباط بالنيل وثيق منذ لحظة ميلاد النوبى وإلى وفاته. على ضفافه تناثرت قراهم، وشيدوا بيوتهم، وزرعوا طعامهم، وأسبغ الله على أرضهم أشجار النخيل التى امتدت ظلالها على طول شاطئ النيل، وعلى ضفتيه بنى القدماء معابدهم الساحرة، فلولاه لضاعت حضارتهم، فقد عاشوا زمنا طويلا يرتوون من مائه، ويسقون زراعتهم، ويغتسلون فيه، ولم تعرف النوبة مواسير المياه، ومع هذا عاشوا بصحة جيدة وتمتعوا بطول العمر، ولم تنل منهم أمراض تلوث المياه، واشتهروا بالنظافة الشخصية، وعبر النيل العظيم كانت تسير مراكبهم، الوسيلة الوحيدة للانتقال من مكان لآخر. ......................... كثير من الموروثات النوبية القديمة ارتبطت بالنيل، فعند الميلاد كان هو أول مكان يذهب إليه المولود فى موكب من الأهل، يحملون الأطعمة، ويتقدمهم طفل يحمل خنجراً يلوح به فى الهواء حتى يصل الموكب للنيل ويتم غسل وجه المولود ويديه بماء النيل وتلك العادة من الموروثات النوبية المسيحية وتشبه التعميد، ويفترش الجميع أرض الشاطئ، ويتناولون طعامهم، ويلقون فى النيل بعض الأطعمة اعتقادا بوجود كائنات طيبة، وأرواح طاهرة تعيش فى النيل فيقاسمونها الطعام، وترجع تسمية الإنسان النوبى «ابن النيل» لتلك العادة القديمة، وللنيل دور أيضا عند ختان الصِبية، فقبل الختان بيوم يجتمع أقران الصبى المراد ختانه، وفى يد كل منهم جريد أخضر، ويذهبون إلى النيل، ويقفزون فيه ويعبثون فى الماء إلى المساء، ثم ينطلقون إلى بيوتهم، وفى الصباح يتم الختان، والقطعة الزائدة التى يجزها حلاق القرية تلف فى قماشة وتربط فى ذراع الصبى، وبعد تعافيه يتم إلقاء القماشة بما فيها فى النيل. ولم تعرف النوبة القديمة النوادى ولا مراكز شباب، فلم يجد الصبية متنفسا غير النيل وشاطئه للعب واللهو وإخراج الطاقات. ومن صور ارتباط النوبيين بالنيل أن العريس عليه الذهاب إليه لغسل وجهه كل يوم لمدة سبعة أيام، وإذا تخاذل حلت عليه المصائب واللعنات وفق المعتقدات. والمرأة النوبية شأن أهل النوبة النيل كان له دور فى حياتها، فإذا طال انتظارها لمولود، تستحم فى النيل بعدما تلقى فيه حفنة تراب تجمعها من مقابر سبعة أطفال، والنيل فى الموروث القديم يعيش فيه كائنات شريرة قد تتلبس المرأة التى تغسل ثوبها فيه، واعتادت أهل النوبة القديمة ألا تزور هذه المرأة أى سيدة ولدت حديثا لأن زيارتها تمنع لبن الرضاعة. ولاينسى أهالى النوبة النيل فى المناسبات الدينية، فمثلا فى يوم عاشوراء يخرجون إليه جميعهم، وفى أيديهم «سباطات النخيل» الخالية من الثمر، ويشعلون أطرافها، ويلقون بأجسامهم فى النيل فتنطفئ الشعلة وتصبح عصا تستخدم فى الهزر وضرب بعضهم، فى جو سعيد يعكس بساطة الحياة وناس النوبة القديمة. انعكس النيل فى الآداب والفنون النوبية وما زال مصدر إلهام لأدباء النوبة، وكتب عنه عدد من كتاب النوبة، فالأديب «يحيى مختار» قدم مجموعته القصصية «عروس النيل»، التى نال عنها جائزة الدولة التشجيعية، والأديب «إبراهيم شعراوى» استخدم النيل فى إبداعه الفنى، وشبّه الفتاة النوبية التى تثور وتبكى وتقاطع خطيبها أو زوجها، ثم تهدأ وتغفر وتسامح بالنيل، أحياناً يكون هادراً وأخرى يحنو ويرفق، وشبه سير الفتاة النوبية فى خيلاء بالأمواج، تتهادى فى سيرها وتحركها على صفحة النيل، والأديب الكبير حجاج أدول يصف النوبى فى كتاباته بال «إنسان النيلى» وكتب الأديب العبقرى «محمد خليل قاسم» كتب روايته الشهيرة «الشمندورة» التى صنفها النقاد بأنها ضمن أفضل روايات القرن العشرين، والشمندورة عبارة عن علامة فى النيل ترشد السفن والمراكب، وبعض القرى النوبية تسمى زير الشرب الصغير بالشمندورة. ودائماً كان النيل فى النوبة القديمة مصدر الخير والنماء والتهجير الى كوم امبو والبعد عن النيل غير الأحوال وزادت أوجاع أهل النوبة و قلبت الأمور رأساً على عقب ولم يعد هناك نيل يروى حياتهم بالحب والدفء.. ودائما يستحضر من عاش فى النوبة القديمة فى كنف النيل العظيم ذكريات الصبا والحياة الهانئة والطبيعة الخلابة وجلسات السمر والغناء ودقات الدفوف والطبول على ضفافه.